كان «الكنز» أحد أكثر الأفلام المنتظرة لأسباب مختلفة، لكن واحدًا من الأسباب التي زادت من حالة الترقب هو ما تواتر من أحاديث منذ بدء تنفيذه، عن ظهور الممثل محمد سعد بمظهر مختلف وشخصية جادة، بعيدًا عن الشخصيات الهزلية التي قدمها طيلة مسيرته، والأهم أن سعد لا يظهر في دور بطولة مطلقة مثلما اعتدنا.
أضاف إلى حالة الترقب بالطبع أن هذا التحول في نوعية الشخصية يصاحبه عودة التعاون بين سعد وشريف عرفة، للمرة الأولى أيضًا منذ فيلم «الناظر» عام 2002، الفيلم الذي كان بطاقة تعريف سعد على الجمهور، ونقله إلى مكانة أخرى تمامًا ليصبح محمد سعد كما نعرفه.
هكذا كان الإقبال على فيلم «الكنز» للبحث عن محمد سعد، أو للدقة: للبحث عن حقيقة الأسطورة التي نُسِجت حوله، أسطورة أن محمد سعد ممثل ذو إمكانيات كبيرة لكنه أضاعها في الأدوار الهزلية التي يقدمها.
كنز محمد سعد
تفاوتت الآراء حول فيلم «الكنز: الحقيقة والخيال» بين من رآه فيلمًا رائعًا وأحد أهم أفلام السينما المصرية، ومن رآه فيلمًا متواضع المستوى لا يليق بأسماء صناعه، لكننا لسنا بصدد الحديث عن الفيلم نفسه هنا، بل عن دور محمد سعد في الفيلم.
للمرة الأولى ربما منذ «بوشكاش» عام 2008 يظهر سعد بمظهر «طبيعي» في فيلم، دون الاتجاه إلى تقديم «كاركتر» ساذج أو أبله، أي دون تغيير صوته والاعتماد على الأداء الحركي الذي يجيده، الأمر هنا مختلف.
فرضت شخصية «بِشر» على سعد شكلًا واضحًا وأداء منضبطًا، وهو ما قدمه بالفعل، فشاهدناه قاسيًا أغلب الوقت، لكنه رومانسي أيضًا حين يقابل حبيبته.
لأول مرة نرى محمد سعد في شخصية ليست تقليدية بالنسبة إليه، إذ ظهر بدور «بِشر»، رئيس البوليس السياسي في فترة حكم الملك فاروق. نحن أمام شخصية تتولى منصبًا قياديًّا مهمًّا، ولا يكتفي الفيلم بالتعرض للجانب العملي فقط، بل لحياته الأسرية والعاطفية كذلك.
شخصية بِشر ليست أحادية البُعد بحال، بل تنتقل بين مشاعر القسوة والحب والغضب، وتحتاج إلى ممثل يمتلك أدواته، يستطيع الانتقال بسهولة بين الانفعالات المختلفة دون أن تخرج عن سيطرته، ودون أن ينسى طبيعة الدور الذي يقدمه.
يظهر محمد سعد في أول مشاهده في الفيلم خلال فيديو قديم بالأبيض والأسود يتحدث لابنه، لندرك أننا نشاهد سعد بشكل مختلف. الشخصية تفرض عليه شكلًا واضحًا وأداء منضبطًا، وهو ما قدمه بالفعل، إذ انتقل بسلاسة بين المشاعر المختلفة، فكان قاسيًا أغلب الوقت، لكنه رومانسي أيضًا عندما يقابل حبيبته نعمات (أمينة خليل)، وهادئًا ويمتلئ ثقةً بالنفس في حضور الملك فاروق (محمد محمود عبد العزيز).
استغل سعد الخط الدرامي الخاص به جيدًا، والذي كان الأفضل كتابةً في الفيلم، لكنه أبرز قيمة هذا الخط وأضاف إليه بحضوره وأدائه.
لا يعني هذا بالطبع أن محمد سعد نسي تمامًا شخصياته القديمة، وخرج «مارد التمثيل من القمقم» مثلما يقولون، كان يمكن بسهولة ملاحظة إفلات الشخصية منه في اللحظات الكوميدية، خصوصًا في لقطة طرده أصدقاء زوجته من الفيلا، إذ نشاهد عودة شبح «اللمبي» بدلًا من مارد التمثيل، وهذا يعني أنه يحمل بداخله كل هذه الإمكانيات ويستحضرها وقت الحاجة، وإن كان إفلات الشخصية منه في بعض المشاهد يتحمل المخرج شريف عرفة جزءًا منه بطبيعة الحال.
رغم تفاوت الآراء حول الفيلم، كان هناك شِبه إجماع على تميز أداء سعد في دور بشر، مما أعاد بقوة الجدل حول إمكانياته كممثل، وأنه أكبر من مجرد كوميديان، فهل هو كذلك بالفعل، أم أنها مجرد أسطورة نسجها المحبون؟
اقرأ أيضًا: شارلي شابلن: الصعلوك الذي وضع قواعد السينما ثم كسرها
لماذا محمد سعد؟
قبل الإجابة عن مصداقية قدرات محمد سعد التمثيلية من عدمها، ينبغي طرح سؤال آخر نادرًا ما نلتفت إليه: لماذا محمد سعد؟
النظر إلى الشخصيات التي قدمها سعد قبل «اللمبي» يخبرنا أنه في كل مرة كان يقدم الشخصية بشكل مختلف تمامًا.
يمتلئ تاريخ السينما المصرية، والعالمية أيضًا، بكثير من الكوميديانات الذين لم يقدموا معظم حياتهم سوى مشاهد قليلة جادة أو حتى تراجيدية، داخل أفلامهم الكوميدية في الأساس، ويندر أن يتساءل الجمهور أو النقاد عن قدراتهم في تجسيد أدوار أخرى بعيدًا عن الكوميديا، طالما يجيدون أداء هذا النوع ويقدمون دائمًا جديدًا عبره، فلماذا كان هذا التساؤل يوجَّه إلى محمد سعد تحديدًا دونًا عن بقية الكوميدينات؟ لماذا لم يكتفِ الجمهور به كممثل كوميدي؟
يعود هذا إلى عدة أسباب، بعضها أكثر وضوحًا من الآخر.
أول هذه الأسباب أن الجمهور كان يعرف سعد بالفعل قبل مرحلة النجومية والكوميديا عن طريق عدد من الأدوار الجادة، أبرزها في فيلم «الطريق إلى إيلات» ومسلسل «الشارع الجديد»، وعندما تعرف الجمهور إلى اسم هذا الممثل الشاب الذي قدم دور اللمبي في فيلم «الناظر»، بدؤوا يتذكرون أدواره السابقة ويُدركون أنه ممثل يجيد التنويع في ما يقدمه.
السبب الثاني يعود إلى قدرة سعد على التلون وخلق شخصية كاملة في كل فيلم جديد، فبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على المستوى الفني لأفلامه، التي كان أغلبها متواضعًا بالفعل، فإن النظر إلى تلك الأفلام يخبرنا أنه في كل مرة كان يقدم شخصية بشكل مختلف تمامًا.
كانت الشخصيات تتفق في كونها محدودة الذكاء لا تجيد التصرف، لكنها تختلف بوضوح في الحركة وطريقة الكلام ونبرة الصوت وبقية تفاصيلها. الأكثر أهميةً من هذا أن سعد كان يجيد في كل مرة ترك «لازمة» كلامية لشخصياته يرددها الجمهور في انتظار الشخصية التالية.
كثيرٌ من فناني الكوميديا حافظوا على طريقة أداء واحدة طَوَال مسيرتهم، ومع ذلك ظل الجمهور مرتبطًا بهم لفترات طويلة، ربما أطول من الفترة التي قضاها محمد سعد على قمة الإيرادات، لكن سعد أعلن أنه ممثل موهوب يدرك أدواته ويجيد استخدامها.
أما آخر الأسباب وأبعدها عن الصورة فهو أن التحسر على سعد بعد كل فيلم ضعيف قدمه كان دافعًا قويًّا لانتظار العمل القادم، الذي ربما يكون أفضل، وربما أيضًا لا يجيء على الإطلاق، وهو ما كان يحدث حتى فيلم «الكنز». بمعنى آخر: انتظار دور مختلف من محمد سعد كان دافع محبيه للاستمرار في متابعته، أو الاستمرار في الإيمان بموهتبه.
قد يهمك أيضًا: الشيخوخة تنخر عرش الزعيم عادل إمام
الحقيقة والخيال
يمكن الآن العودة إلى فكرة الهالة المرسومة حول سعد في كونه ذي موهبة استثنائية، وإن كانت مشكلته الحقيقية ليست في امتلاكه موهبة كبيرة، بل في كيفية الاستفادة منها.
وضع فيلم «الكنز» محمد سعد أمام تحدٍّ جديد، فإما أن يستغل نجاحه ويحاول تقديم مزيد من الأدوار الجادة، أو يعود أدراجه إلى «اللمبي».
المتابع لمسيرة محمد سعد يدرك أنه هو نفسه أكبر مشكلة واجهت مسيرته الفنية، فبعد النجاح الكبير لفيلم «اللمبي» عام 2002 ثم «اللي بالي بالك» الذي كان أفضل على المستوى الفني، أصبح كل ما يهم سعد هو الإيرادات، وهكذا ظلت أفلامه تحصد أعلى الإيرادات في كل عام بينما ينهار مستواها الفني رويدًا رويدًا، حتى وصل إلى كارثة «كركر»، الذي التقى فيه خطَّا الإيرادات والمستوى الفني في نقطة دُنيا.
لم يلتفت سعد سريعًا إلى هذه الهزيمة، بل واصل تدخله في كل تفاصيل العمل، بما فيها مهام المخرج، ولم يعد من الصعب قراءة أخبار انسحاب مخرجي أعماله من الأفلام. عجَّلت هذه الممارسات بمزيد من السقوط، وأخَّرت عودته إلى الطريق الصحيح، حتى وصل إلى ذيل إيرادات موسم أفلام عيد الأضحى عام 2016.
في «الكنز»، يؤكد سعد أن موهبته ليست محض خيال، لكن المشكلة كانت في اختياراته وتفضيله أرقام الإيرادات على المستوى الفني، رغم أن تجارب كثيرة أثبتت إمكانية تقديم فيلم جيد فنيًّا ويحصد إيرادات مرتفعة في الوقت نفسه.
لكن ما قدمه سعد في «الكنز» وضعه أيضًا أمام تحدٍّ جديد ليس من السهل خوضه: سيكون عليه إما أن يستغل تجربة نجاحه بعيدًا عن الكوميديا ويحاول تقديم مزيد من الأدوار الجادة، أو يعود أدراجه إلى «اللمبي».
الأمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها، فمن الصعب على أي ممثل أن يحوِّل مساره الفني بعد سنوات من البقاء في حالة واحدة، خصوصًا لو صاحب هذه الحالة نجاح وإقبال جماهيري استثنائي.
لو قرر سعد تقديم أدوار جادة، أو حتى كوميدية بعيدة عن الشكل الذي اعتاده، سيكون أمام تحدٍّ آخر هو إعادة بناء الثقة مع الجمهور كخطوة أولى، ثم إقناع الجمهور بتقبله في قالب جديد ومختلف عما اعتاد مشاهدته، وهو أمر ليس صعبًا، وإن كانت الصعوبة تكمُن في التقاء التحديين معًا في وقت واحد، وهو الحال بالنسبة إلى سعد حاليًّا.
حتى الآن، لم تظهر أنباء مؤكدة عن الدور القادم لمحمد سعد، وإن كان على الأقل سيظهر في الجزء الثاني من «الكنز». وحتى ذلك الحين لا أحد يدري، هل يكون بِشر نقطة تحول لسعد، أم مجرد نقطة مضيئة وسط مسيرة فاقت سقطاتها انتصاراتها.