«فليطمئن أولئك القلقين على الكُتُب من الاندثار، فقد صمد الكتاب أمام العديد من الثورات التكنولوجية، وسيبقى مكانه محفوظًا هذه المرة أيضًا». كانت هذه رسالة لطمأنة محبي الكتاب الورقي بعث بها الباحثان «سيموني نتالي»، أستاذ دراسات الإعلام والاتصال بجامعة لوفبورو في لندن، و«أندريا بالاتوري»، المُحاضِر بجامعة بيركبيك، في مقال لهما نشر بجريدة الإندبندنت.
جاءت الرسالة لتلخيص نتائج دراسة نتالي وبالاتوري عن مُستقبَل الكتاب، وهي دراسة تتناول العلاقة بين مبيعات الكتب الورقية والإلكترونية، كما تتناول الأسباب النفسية التي تولِّد هذه الحيرة لدى الجمهور، الذي يجد نفسه منجذبًا إلى الجديد وخائفًا من التغيير في الآن نفسه.
ركزت الدراسة على السؤال الذي لم يزل مطروحًا: «هل سيقضي الكتاب الإلكتروني على الكتاب المطبوع؟».
بالنسبة إلى الباحثَيْن، شكَّل السؤال لغزًا بسبب صياغته علاقة الكتاب الإلكتروني بالكتاب المطبوع كأنها علاقة تنافسية بالضرورة، رُغم إدراكنا المتزايد لإمكان التعايش بين النوعين، فما هو إذًا سر هذه الفكرة؟ ولماذا نستمر في تصور العلاقة بين الكتابين الإلكتروني والمطبوع كما لو كانت خصومة لا بد أن تنتهي بالقضاء على أحدهما؟
الكتب المطبوعة انقرضت فعلًا.. أكثر من مرة
كان دافع إجراء الدراسة انخفاض مبيعات الكُتُب الإلكترونية لدى كبار الناشرين، بعد أعوام من النمو المطَّرد لهذه المبيعات. واعترفت عضو مجلس إدارة دار النشر الشهيرة «بنغوين»، «جوانا بيريور»، بأن الشركة أخطأت بزيادة استثماراتها في الكتب الإلكترونية، اعتمادًا على توقعات خاطئة برَوَاج هذا النوع من الكتب على حساب الكلمة المطبوعة.
اقرأ أيضًا: انقراض الأدب العربي: هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟
ليست «نبوءة» اندثار الكتاب جديدة، وإنما تعود بحسب الباحثَيْن إلى عام 1894.
توصَّل نتالي وبالاتوري إلى أن المشكلة الحقيقية تتجاوز مسألة الكتاب الإلكتروني، وتُخبرنا الكثير عن الشعور الإنساني المتذبذب بين الإثارة والخوف الذي يشعر به المرء لدى اطِّلاعه على تكنولوجيا جديدة. تصاحب التكنولوجيا الجديدة دائمًا نبوءات تتردد عن قضاء إحدى الوسائل الإعلامية على غيرها، وليست الضجَّة القائمة بشأن الكتاب الورقي أول هذه الحالات.
زعم كثيرون أن الراديو سيندثر عقب اختراع التليفزيون مباشرةً، إلا أنه استمر في الانتشار في مساحات جديدة غير التي عرفه الناس فيها قبل ذلك، فبدأ يُستخدم في السيارات وغيرها من وسائل المواصلات، أو في ساحات المصانع وخلال العمل.
كذلك، ليست «نبوءة» اندثار الكتاب جديدة، وإنما تعود بحسب الباحثَيْن إلى عام 1894، عندما توقع البعض أن «الفونوغراف» سيؤدي إلى استبدال الكتب الصوتية بالمقروءة. وتكرر الأمر نفسه مع ظهور الأفلام السينمائية والراديو والتليفزيون وروابط الويب الرقمية والهواتف الذكية، وكل ابتكار من هؤلاء رآه البعض تهديدًا للكتب الورقية.
قد يهمك أيضًا: كيف يعادي البشر الابتكار؟
اقترن خوف البعض من نهاية عصر الكُتُب بخوف من الاضمحلال الثقافي، بينما بالغ أصحاب الرؤى المثالية للمستقبل الرقمي في التشديد على مزايا الكُتُب الإلكترونية، ولذلك لم يكن ظهور هذه النبوءة في أوقات التطور التكنولوجي صُدفَة، وإنما كان أمرًا طبيعيًا تمامًا بالنظر إلى مزيج الأمل والخوف الذي يُشكِّل رد فعلنا الأعمق على كل شيء جديد.
الحنين إلى الأبيض والأسود
يلفت الباحثان انتباهنا إلى ارتباطنا العاطفي بوسائل الإعلام، الذي يعود إلى كونها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حيواتنا اليومية، ويُساعدنا النظر في هذا الارتباط على فهم ردود أفعالنا المُرتبِكة تجاه الجديد.
مثلًا، أطلعتنا بعض الدراسات على الكيفية التي يُنشئ الناس بها علاقات حميمة مع أشياء، مثل الكُتُب والتليفزيونات وأجهزة الكمبيوتر، ويُضفون عليها أبعادًا إنسانية أحيانًا، فمن المُعتاد أن يُطلق بعض الناس أسماءً على سياراتهم، أو يشتمون الكمبيوتر الخاص بهم إذا لم يعمل جيدًا.
لهذه الأسباب تُؤدي التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى التغييرات الاقتصادية أو الاجتماعية التي قد تُحدثها، إلى تغييرات في علاقاتنا اليومية ببعض الأشياء، فنجد أنفسنا نتوق إلى ما اعتدنا عليه ولم نعد نملكه، كما نخشى زوال ما بين أيدينا.
قد يعجبك أيضًا: أجهزة الفيديو تنقرض.. احتضن أشرطتك وابكِ
يعبر مصطلح «موتَ الكتاب الورقي» عن خوفنا من فقد أجزاء مهمة من بيئتنا، لكيلا نفقد معها هويَّاتنا.
هناك صناعات كاملة تقوم على تطوير المنتجات والتقنيات القديمة، ويشير نتالي وبالاتوري إلى اهتمام الناس بالبحث عن المخطوطات القديمة الذي ظهر فجأة بعد انتشار الطباعة في أوروبا القرن الخامس عشر، كما أثار التحول من الأفلام الصامتة إلى الأفلام المُصاحَبة بصوت في عشرينيات القرن الماضي حنينًا إلى السينما القديمة، وحدث الأمر نفسه في التحول إلى الكاميرات الرقمية، والأقراص المُدمجة، والتليفزيون المُلوَّن.
ليس من الغريب إذًا أن يُعبِّر هواة القراءة عن خشيتهم على مُستقبَل الكتب الورقية من آن لآخر.
في نهاية الدراسة، يؤكد الباحثان استمرار هذه النبوءة في إقلاق راحتنا، فهي تعبير عن جاذبية التحول التكنولوجي وخوف الإنسان الدائم من التغيير.
وبحسب نتالي وبالاتوري، يلجأ الناس عادةً إلى مفاهيم «الموت» و«النهاية» كاستراتيجيات لفهم التغيير والتعامل معه، وهكذا يُصبح «موتَ الكتاب الورقي» أو «نهاية الكلمة المطبوعة» تعبيرًا عن خوفنا من فقد أجزاء مهمة من بيئتنا، لكيلا نفقد معها هويَّاتنا ذاتها.