«مضناك جفاه مرقده/وبَكاه ورحَّم عَوَّدُه/حيران القلب معذَّبه/مقروح الجَفن مُسَهَّدُه»، ربما كانت هذه إحدى أشهر القصائد المغناة في تاريخ الموسيقى العربية بصفة عامة، ولموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بصورة خاصة، لكنها بالتأكيد الأشهر رغم صعوبة معاني الكلمات.
كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته ليعارض بها قصيدة الشاعر التونسي الحصري القيرواني «يا ليل الصَّب متى غده»، التي عارضها كثير من الشعراء غيره، وقد جمع عيسى إسكندر المعلوف مجموعة كبيرة من المعارضات لهذه القصيدة في كتاب عام 1921، وكان قد سبقه في ذلك محيي الدين أفندي رضى عام 1919، وكانت من بينهم قصيدة أحمد شوقي، التي عندما سمعها الشاعر إسماعيل باشا صبري كتب معارضةً عليها كان مطلعها «قريبٌ من دنف غده».
في نهاية أربعينيات القرن الماضي، قرر عبد الوهاب أن يختار بعض أبيات معارضة شوقي ويلحنها، لتصبح من أهم قصائد عبد الوهاب في مسيرته الغنائية واللحنية، مثلما كانت معارضة شوقي من أرق وأعذب القصائد عن شوق الحبيب وهيامه، كقصيدة القيرواني.
اختلط الأمر عليَّ في بادئ الأمر، عبد الوهاب يغني الأغنية في نهاية الأربعينيات، وتأتي فيروز في منتصف الستينيات تغني الموشح الأصلي «يا ليل الصَّبُّ متى غده»، بنفس اللحن تقريبًا، ويُكتب على الموشح «تلحين توفيق باشا»؟ مَن سرق مَن؟ ومن صاحب اللحن الأصلي؟
اقرأ أيضًا: كيف نجا محمد عبد الوهاب من اتهامات سرقة الموسيقى؟
قدم اللحن من الشام إلى مصر، لكنه أصلًا آتٍ من التراث التركي.
في أولى مراحل البحث، ظهر تسجيل لعبد الوهاب يوضح اقتباسه من اللحن الديني «الحمد لربٍّ مقتدر»، الذي اشتهر بصوت الشيخ إمام على كلمات كتبها رفيقه أحمد فؤاد نجم. ويتضح أن عبد الوهاب كان يغير في سرعة أداء «الحمد لربٍّ مقتدر» عن المتعارف عليه، وعندما قرر تلحين «مضناك» تذكر تعديله على «الحمد لربٍّ مقتدر» وقرر أن ينحو نحوها.
إذًا، سرق توفيق باشا اللحن من عبد الوهاب، لكن كيف فعل ذلك؟ وكيف صمت عبد الوهاب؟
مع البحث وجدت تسجيلًا للشيخ أحمد إدريس يرجع وقته إلى عام 1910. إدريس كان أحد مطربي عصر النهضة في بدايات القرن العشرين، وكان في البداية ضمن كورس الشيخ يوسف المنيلاوي، ويغني الأغنية مثلما غنتها فيروز ومثلما غنى عبد الوهاب معارضة شوقي، ربما كان الاختلاف في الرتم البطيء.
إذًا، كلام عبد الوهاب صحيح، واللحن مأخوذ من أغنية «الحمد لربٍّ مقتدر»، واللحن يرجع أصله هكذا إلى التراث والفلكلور، ولكن من أين جاء هذا الفلكلور بالتحديد؟
اللحن قادم من الشام، وسنجد أن توفيق المنجد مطرب الشام القديم غناه، ويتضح لنا أن اللحن آتٍ من التراث التركي، ورُكِّب على موشح «يا ليل الصب متى غده»، وسنجده أيضًا قريبًا من لحن «قدُّكَ الميَّاس» التراثي.
قد يهمك أيضًا: كيف طارد باحث أمريكي «فن الصوت» في الكويت؟
إذًا، نحن أمام لحن تراثي جاء من تركيا إلى مصر مرورًا بحلب بالطبع، وكل ملحِّن عمل على اللحن أضاف إليه شيئًا بسيطًا من خصوصيته الموسيقية، وكان عبد الوهاب أكثر خصوصيةً وتفردًا كعادته في نقلاته بين المقامات، وقدم لحنًا من أحلى ألحانه.
اختار عبد الوهاب أبياتًا معينة من قصيدة شوقي، واستخدم «الأبوا» (آلة نفخ خشبية) في التوزيع، وكانت الكمنجات تتحرك مع صوته وتضع بصمتها بين الجمل، والكورس واضح أنه يجمع بين رجال ونساء، ويتحرك عبد الوهاب في مقام الحجاز، ينتقل بينه وبين الراست والبياتي بكل سهولة وخفة وقدرة.
عبد الوهاب عندما يعجبه لحن من ألحانه يأخذه إلى جلساته، فتسمعه في جلسة يغني «مضناك» على عوده، برفقة عازف الكمان أنور منسي، وهنا يمكنك سماع جمال اللحن أكثر، وحلاوة صوت عبد الوهاب، ومهارة وإحساس أنور منسي.
بالطبع غنى الأغنية عديد من المطربين من أنحاء الوطن العربي، من أشهرهم وأحلاهم كان صوت أنغام في مهرجان الموسيقى العربية الثامن عام 1999، حين أدتها بكل ثقة ونعومة وإحساس.
ومن أنغام إلى الخليج والمغرب، وجلسة بين عبادي الجوهر وأسماء لمنور، يتقاسمان فيها الغناء مع عود عبادي المبهر. غناها كذلك الموسيقار اليمني أحمد قاسم بإيقاع يمني، وقدمتها ولاء الجندي في برنامج المسابقات «The Voice»، وبالطبع غناها كثيرون مثل عبد الله الرويشد وعبد الهادي بلخياط، وغيرهم عديد.
ومن الغناء إلى الموسيقى، فقد أداها لاعب الناي الشهير رضا بدير، وقدمتها فرقة الإذاعة بقيادة الموسيقار أحمد فؤاد حسن، وقدمها أيضًا عازف العود الفلسطيني سيمون شاهين. وفي جلسة خاصة تجمع ثلاث دول مختلفة، لعبها عازف القانون التركي هايتش توجان، وعازف الكمان المصري ألفريد جميل، وعازف العود الكويتي فيصل الحواج.
حتى أغنية فيروز «يا ليل الصَّب متى غده» غناها كثيرون من بعدها، أشهرهم نور الهدى في مسلسل من ثلاث حلقات اسمه «ثلاثية الغربان».
تغني «يا ليل الصب» كمديح نبوي بعض فرق المديح في سوريا، مثلما تغنَّى عديد من الأغاني في سوريا بشكلها الصوفي إلى جانب غنائها بشكلها العاطفي الإنساني، كأغنية «كم بعثنا مع النسيم سلاما» التي غناها حسن الحفار، وأغنية «هيَّمَتْني» التي غناها صباح فخري وغالية بن علي، ويمكن سماعها في جلسة في المدينة المنورة.
في عام 1953، قدم أنور وجدي فيلم «دهب» بطولة الطفلة المعجزة فيروز، وجاء فيه مونولوج فكاهي بعنوان «كروان الفن»، من كلمات بيرم التونسي وتوزيع محمد البكار، واللحن هو ذاته لحن أغنية «مضناك».
يستمر اللحن في جذب الانتباه، وتقرر فرقة «بركة» بقيادة مريم صالح أن تقدم مونولوجًا فكاهيًّا سياسيًّا على نفس لحن الأغنية في 2007 تقريبًا، فيكتب ميدو زهير «وطن العك» وتغنيها مريم صالح، ثم تقدمها لاحقًا في ألبومها «حلاويلا» مع زيد حمدان.
حتى الموشح الأصلي لم يسلم من الكتابة عليه، وسنجد أنه في أول أجزاء المسلسل اللبناني «من يوم ليوم» عام 1970، قدم الأخوان رحباني مع المطرب ماجد أفيوني أغنية «يا ليل الحبس متى غده».
يمكن أن نحسب هذه الرحلة. إنها رحلة في رحاب الموسيقى، تأكيدًا لأن الموسيقى حياة، وأن الموسيقى الجيدة تتفاعل مع الزمان والمكان، تتلون وتتغير وتتشكل من جديد، لكنها لا تموت ولا تفقد رونقها الخاص، طالما أن من أعاد تشكيلها يُكِنُّ لها وللموسيقى بشكل عام كل الاحترام والتقدير، وأيضًا قادر على الاشتباك معها وهو مدرك قيمة الزمان والمكان، والماضي والحاضر.