أيام قليلة تفصلنا عن حفل توزيع جوائز الأوسكار، الحدث السينمائي الأهم في السنة. لا يكترث أغلب المتابعين سوى بالجوائز الكبرى؛ مثل أفضل فيلم وأفضل ممثل وممثلة، فيما تهتم فئة أقل بالجوائز التقنية؛ مثل أفضل مؤثرات بصرية وأفضل مونتاج.
ويحاول مقال على موقع (IndieWire) مناقشة آليات المونتاج للإجابة عن سؤال مهم: كيف يمكن التفرقة بين عمل المخرج ولمسات المونتير في الفيلم؟
أفضل فيلم وأفضل مونتاج رفيقان دومًا
بعد فوزها بجائزة الأوسكار الأولى لها عن فيلم (Raging Bull)، قالت المونتيرة المتميزة «ثيلما سكونماكر » (Thelma Schoonmaker) في تواضع إنها نالت الجائزة عن عمل قام به مخرج الفيلم «مارتن سكورسيزي» (Martin Scorsese).
في لقاء لاحق ذكرت «سكونماكر» أن حصولها على الجائزة كان بسبب مشاهد الملاكمة تحديدًا، وأوضحت أن «المدقق في هذه المشاهد سيلاحظ دقة إعدادها وتصويرها الرائع، وهذا ما يضيفه المخرج المتميز للعمل».
أحيانًا يستطيع القطع بين لقطتين ليس بينهما علاقة مباشرة أن يُبرز معنًى جديدًا تمامًا.
المونتاج بالذات يكون دائمًا وثيق الصلة بالإخراج، وبالمرور سريعًا على تاريخ جوائز أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة «الأوسكار»، نجد أن جميع الأعمال الحاصلة على جائزة أفضل فيلم من 1981 إلى 2016 كانت مرشحة كذلك لجائزة أفضل مونتاج، وبعضها نالها فعلًا.
الاستثناء الوحيد كان فيلم (Birdman) عام 2015؛ بسبب اعتماده على اللقطات الطويلة والحركة الدقيقة للكاميرا، وهو ما أدى إلى غياب دور المونتاج نسبيًّا في الفيلم.
ما المونتاج؟
المونتاج (Editing) في أبسط تعريف ممكن، هو عملية ترتيب المشاهد المصورة وتجميعها، فبعد انتهاء التصوير يكون لدينا الكثير من المشاهد، يعمل المونتير على قَصِّها وترتيبها بالصورة النهائية التي نشاهدها. ليس الأمر بسيطًا بالتأكيد فكل شيء في المونتاج محسوب بدقة.
من مميزات السينما قدرتها على منحنا صورة كاملة عن الحدث من خلال القطع بين هذه اللقطة وتلك، وأحيانًا يستطيع القطع بين لقطتين ليس بينهما علاقة مباشرة أن يُبرز معنًى جديدًا تمامًا؛ كأن ينعق غراب على الشاشة في اللقطة التالية لتسلل قاتل إلى المنزل فندرك حدوث جريمة قتل.
هذا القطع والربط مهمة «المونتير» (الذي يُنفِّذ المونتاج)، ولهذا يُعدُّ من أهم مراحل خروج الفيلم بشكله النهائي. ويصعب وصف حجم إضافة المونتير للفيلم، إذ يتدخل أحيانًا لإصلاح بعض أخطاء التصوير.
ﻻ يتوقف الأمر عند القطع والربط وإخفاء عيوب اللقطات، وإنما يؤثر المونتاج بشكل واضح في إيقاع الفيلم؛ ففي مشاهد أفلام الحركة (Action) ضخمة الإنتاج مثلًا نرى اللقطات تتسارع على نحوٍ يُشعِر المشاهد وكأنه داخل ساحة القتال بالفعل.
لهذه الأسباب تنشأ علاقات عمل ممتدة ومستقرة بين المخرج والمونتير، ويصير الأخير أحد أذرع المخرج المهمة. «سكونماكر» و«سكورسيزي» مثلًا عملا معًا طَوَال 40 عامًا، كما يفضل المخرج الأمريكي الشهير «ستيفن سبيلبرغ» (Steven Spielberg) العمل مع المونتير «مايكل كان» (Michael Kahn).
ليست الصعوبة في إحصاء عدد مرات التعاون بين مخرج ومونتير بعينهما، ولكن في تحديد شكل هذا التعاون، وفهم إسهام كلٍّ منهما في الفيلم بصورته النهائية، فما الذي تفضله الأكاديمية في اختيارها لأفضل مونتاج؟
اقرأ أيضًا: الزمن الذي يهزم «سبيلبرغ».. الزمن الذي يقاومه «سكورسيزي»
الأوسكار تفضِّل هذه الأفلام
لا توجد إجابة محددة للسؤال السابق، ولكن هناك عوامل ترجح كفة هذا العمل عن ذاك فيما يتعلق بالمونتاج، مثلما يكون المرشح الأبرز لجائزة أفضل ملابس عادةً فيلمًا عن حقبة تاريخية قديمة.
الأفلام المرشحة لجائزة أفضل مونتاج لعام 2016 كان منها (Star Wars: The Force Awakens)، و(Mad Max: Fury Road)، وكذلك (The Revenant). العامل المشترك بين هذه الأفلام الثلاثة (من أصل خمسة ترشيحات في القائمة النهائية) أنها تضم مشاهد قتالية وحركة سريعة من النوع الذي يشد الأعصاب ويثبت العيون على الشاشة تنتظر المشهد التالي، ويمكن ملاحظة هذه السمات بالذات في الفيلم الأول، وكذلك في (Mad Max) الذي نال الجائزة.
تنجح هذه الأفلام في نقلك إلى قلب الحدث، وهذا واحد من العوامل التي ترجح كفة الفيلم في فئة المونتاج. تكون الجائزة عادةً من نصيب أفلام تمزج بحرفية بين قصة مُحكمة البناء ومشاهد حركة يصعب نسيانها، ونلاحظ هذه النقطة بوضوح في فيلم (Hell or High Water)، المرشح لجائزة المونتاج لعام 2017، والذي يحتوي على كثير من المطاردات ضمن سيناريو جذاب يستحوذ على تركيز المُشاهد منذ بدايته.
تدخل الأفلام التي تقدم عنفًا مستندًا إلى أحداث واقعية مع دراما نفسية ضمن الترشيحات في العادة. وللبحث عن أمثلة مشابهة، يمكن أن نلقي نظرة على الأفلام التاريخية أو المُستقاة من قصص واقعية في السنوات السابقة؛ مثل (The Hurt Locker) الذي فاز بجائزة المونتاج عام 2010، و(Inglourious Basterds)، و(Hacksaw Ridge) المرشح هذا العام للجائزة.
فيلم (Whiplash)، الفائز بأوسكار أفضل مونتاج عام 2014، قد يدخل ضمن الفئة نفسها، مع أن عِصِيَّ الدرامز ليست أسلحة قتالية بالتأكيد، لكنها كانت بشكل أو بآخر «سلاح» البطل للتعبير عن نفسه، وبشكل بدا عنيفًا في أكثر من مشهد.
هذا الاهتمام بالملامح الداخلية أو الصراع النفسي للشخصية يلفت الأنظار أيضًا، وهكذا كان الأمر مع (Raging Bull) و(Black Swan).
قد يهمك أيضًا: أفلام القوات المسلحة: كيف استغلت الأنظمة السينما للترويج للجيش والحرب
كيف يدخل المونتاج في «حدوتة» الفيلم؟
بالإضافة لكل هذه البصمات الواضحة لصُنَّاع المونتاج على «روح» الفيلم، فإن لهم دورًا آخر مهمًا كذلك؛ هو التركيز على «الحدوتة» أو الحكاية وسيرها بشكل واضح دون إطالة مدة الفيلم. مثلًا، أسهمت «ثيلما سكونماكر» في حذف 45 دقيقة يمكن الاستغناء عنها من كل واحد من فيلمي «سكورسيزي» الأخيرين؛ (The Wolf of Wall Street) و(Silence).
القدرة على الحكي وإبراز سير القصة موهبة لا يدرك كثيرون ضرورة وجودها في المونتير الجيد. أحد الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل مونتاج هذا العام هو (Arrival)؛ ويقول مؤلفه إن مونتير الفيلم، «جو ووكر» (Joe Walker)، تفاهم مع المخرج «دينِس فيلنوف» (Denis Villeneuve) وأسهم إلى حدٍّ كبير في توضيح عدد من العناصر؛ ليخرج الفيلم بشكل أوضح وإيقاع أفضل.
مع عمل يعتمد بالأساس على تتبع تطور شخصية رئيسية في ثلاث مراحل عمرية مختلفة، وهو (Moonlight) المرشح أيضًا للأوسكار في فئة المونتاج؛ يمكن الإشارة إلى قدرة الفيلم على سرد قصة الشخصية والاهتمام في الوقت نفسه باتزان المساحة بين المراحل الثلاث دون أن يطغى أي فصل على الآخر، مع المحافظة على إيقاع جذاب للمشاهد.
في العام الماضي انتصر فيلم حركة، فهل يتكرر هذا في العام الحالي؟
أما فيلم (La La Land)، المرشح كذلك لنيل جائزة أفضل مونتاج لهذا العام، فيكفيه المشهد الذي يعيد حكاية الفيلم بأكمله من البداية حتى النهاية من منظور مختلف، ليكون مثالًا على دور المونتير في سرد الأحداث. هذا قطعًا بالإضافة إلى كمية الاستعراضات التي تتطلب جهدًا يساوي الجهد المبذول لإخراج مشاهد المعارك الحربية المتقنة.
والفائز بالأوسكار هو...
يمكن في كل ما سبق ملاحظة أن دور المونتير المميز، الذي يصل بفيلمه إلى المرحلة النهائية في ترشيحات الأوسكار، ليس فقط تركيب وترتيب المشاهد؛ بل النفاذ إلى عمق القصة السينمائية وضبط إيقاعها وطريقة حكيِها على الشاشة.
مؤخرًا، منحت «جمعية نقاد السينما في لوس أنجلوس» جائزة أفضل مونتاج للفيلم الوثائقي (O.J.: Made in America)، الذي يمتد إلى قرابة ثماني ساعات طولًا. كانت هذه لفتة مهمة بالنسبة لقيمة المونتاج، إذ يستطيع المونتير المميز صناعة قصة كاملة من مادة غير مكتوبة.
في العام الماضي انتصر فيلم حركة، فهل يتكرر هذا في العام الحالي، أم تذهب جائزة أوسكار أفضل مونتاج إلى فيلم استعراضي؟