متى تنجح معارك «Game of Thrones»، ومتى تفشل؟

الصورة: HBO

عبيد التميمي
نشر في 2019/04/13

في موسمه الأخير، يبدو أن مسلسل «Game of Thrones» سيتمحور بشكل كبير حول المعركة النهائية، والملحمة الفاصلة بين البشر وما يُعرف بالسائرين البيض (White Walkers). الحرب بين الخير والشر شارفت على النهاية، ويبقى السؤال المتكرر منذ الموسم الأول: من سيظل واقفًا بعد نهاية هذه المعركة؟ من سيجلس على عرش الممالك السبع منتصرًا؟

وفي ظل الأخبار المستمرة عن ضخامة حجم معارك الموسم الأخير ووصول مدة إحداها إلى ساعة كاملة، يبدو أن المسلسل سيضرب ضربته الأخيرة ويقدم معارك تفوق في ضخامتها ما قدمه في السابق. لكن، ما الذي يجعل «Game of Thrones» قادرًا على تقديم معارك خالدة وعالقة في ذاكرة المشاهدين؟

تُقارن معارك المسلسل بنظيراتها في أفلام ضخمة مثل «The Lord of the Rings»، لكنه أحيانًا يقدم معارك معروفة النتيجة، تمتلك كل المؤثرات البصرية والتقنية المطلوبة، لكنها مجوفة المحتوى.

قد أكون وحيدًا هنا في ذكر حلقة «Battle of the Bastards» كمثال على ذلك. كلنا كنا نجزم بانتصار جون سنو في المعركة على رامزي بولتون، مهما كانت ظروف المعركة حالكة بالنسبة لبطل الشمال، لأنه لم يكن من المنطقي إعادة سنو من الموت بعد انتظار المشاهدين سنة كاملة للموسم الجديد حتى يشاهدون مقتله في نهاية هذا الموسم، لذلك غياب «المحك» كان سببًا رئيسيًّا في كون تلك المعركة أقل من سابقاتها.

لكن ذلك ليس السبب الوحيد فقط، ولنعرف ماذا كان ينقصها، ينبغي علينا أولًا أن نعرف متى تنجح معارك المسلسل؟ وما العوامل الأساسية في نجاحها؟

لعبة العروش: الجميع يفعل ما يظنه صحيحًا

لقطة من مسلسل «Game of Thrones» - الصورة: HBO

لنأخذ أول معركة في المسلسل: لا أعتبر حلقة «Blackwater» من أفضل المعارك التي قدمها فحسب، بل إحدى أفضل حلقاته على الإطلاق.

المعركة التي كانت في أواخر الموسم الثاني بين عائلة لانيستر بقيادة تيريون، وعائلة باراثيون بقيادة ستانيس. وجود هذين الاسمين ضد بعضهما كافٍ لاستنتاج السبب الأول لنجاح المعركة، فلا يمكن اعتبار أحدهما طيبًا والآخر شريرًا، كلاهما يعمل لهدف معين، وكلاهما يفعل ذلك لأجل مصلحة، بل حتى وقت عرض الحلقة كان هناك انقسام بين متابعي المسلسل، والتعاطف طال كلا الطرفين.

أحد أهم السمات التي تميز فيها المسلسل (وهي سمة أخذها من سلسلة الكتب الأصلية) أنه في ظل الصراع المحتدم على عرش الممالك السبع، لا يوجد شر مطلق ولا خير مطلق، الجميع يفعل ما يظنه صحيحًا، والجميع يكافح حتى ينجو، يقاتل لأجل حقه، أو ما يعتقد أنه حقه، وحتى في ظل اقتناع بعض الشخصيات أنها تؤدي فعلًا شريرًا ووحشيًّا، يبقى كل ذلك تحت مظلة الأسباب الصحيحة بالنسبة إليهم، تحت مظلة حماية العائلة أو الأملاك.

إنه تصوير واقعي للغاية، ولطالما امتُدح المسلسل وقبله الكتب بأنهما تجسيد ممتاز لسياسات الدول في وقتنا الحالي، وأنها أعمال عن الصراعات البشرية السياسية قبل أن تكون عن الصراعات بين الخير والشر. جميع المواقف والأفعال مبررة، ويعود الأمر لك كمتابع بترجمة هذه الدوافع والمواقف على أنها صحيحة وأخلاقية أم خاطئة ودنيئة.

على سبيل المثال، الجميع كره آل لانيستر بعد حادثة «The Red Wedding»، والمذبحة التي أنهت آمال عائلة ستارك بالاستمرار في الحرب، لكن تايوين لانيستر يشرح وجهة نظره بعد ذلك في حوار بينه وبين ابنه القزم تيريون، يقول فيه إن القضاء على بضعة أشخاص في مأدبة زواج وإنهاء الأمر هناك، أفضل بكثير من القضاء على الآلاف في ميدان المعركة. وبطبيعة الحال، لم يفعل تايوين ذلك لأنه شخص نبيل، بل لأسبابه الخاصة والواضحة جدًّا، وهي الانتصار في الحرب والحفاظ على مكانة عائلته في الحكم.

في مثال أوضح، حين دفع جايمي لانيستر ببران ستارك من أعلى البرج في أول حلقة من المسلسل، برر فعلته تلك قبل أن ينفذها بجملته الشهيرة «أشياء أفعلها من أجل الحب». وبالرغم من صحة مقولته هذه بصورة كبيرة، إذ إن العلاقة التي تربطه بأخته سيرسي قوية جدًّا، لكن انكشاف علاقتهما في ذلك الوقت وفي ذلك المكان تحديدًا كان سيتسبب في أضرار من الصعب إصلاحها، ولن يدفع ثمن هذه الأضرار سوى عائلتهما.

جميعنا يتذكر تلك اللحظة البطولية التي ركز فيها جايمي حصانه واستل حربة وانطلق بكل ما يمتلك من عنفوان وجنون وغضب لينهي الحرب ويقتل كاليسي.

بانعدام الشر المطلق والخير المطلق، ينتج هذا زاوية جديدة لطالما استفاد منها المسلسل أكثر من أي عمل آخر، وهي اللامركزية في الشخصيات، تحديدًا في بدايات «Game of Thrones»، حين لم يكن من الممكن معرفة من هو بطل هذه القصة والشخصية التي تتمحور الأمور حولها.

قد يقترح أحدهم اسم ند ستارك، وقد يناقش آخر اسم دينيريس تارغاريان (كاليسي)، وبطبيعة الحال لن يمر اسم تيريون مرور الكرام في هذه المحادثة، أو حتى جون سنو، وتلك اللامركزية تجعل من الصعوبة بمكان التكهن بأحداث المسلسل ونتائج أفعال الشخصيات، ولذلك كانت معركة «Blackwater» من أفضل ما قدمه. فالمسلسل نفسه كان محايدًا تجاه شخصيات المعركة، لا أحد على صواب أو خطأ، لا يوجد بطل معين للقصة، ونتيجة كل ذلك؟ ملحمة استثنائية لا تزال تُذكر في كل مناسبة ممكنة.

تستمر هذه الثيمات الرئيسية بشكل أو بآخر في بقية معارك المسلسل الناجحة، والمرة الثانية التي نجح فيها المسلسل في معركة بهذا الشكل وبهذه الضخامة كانت في حلقة «The Spoils of War»، حين تواجه جيش الدوثراكي بقيادة دينيريس وتنينها، وجيوش عائلة لانيستر بقيادة جايمي.

وبرغم قصر مدة تلك المعركة مقارنةً بسابقاتها، فإنها تناولت موضوعًا غاب عن المسلسل في موسميه الخامس والسادس، بل وتجاهله بشكل مقصود، ألا وهو لامركزية القصة التي افتقدها في هذه المواسم، فالجميع كان مشدود الأعصاب وهو يشاهد كاليسي تواجه جايمي. وحتى لو جزمنا أن القصة تتمحور حول كاليسي أكثر من جايمي، فوقتها كان لا يمكن تجاهل التطور الكبير في شخصيته ومسار رحلته الطويل، الذي كان من أبرز المسارات على مدار عرض المسلسل.

ما يجعل هذا المشهد عالقًا في الأذهان، هو القرارات المصيرية التي اتخذت في ثوانٍ معدودة. جميعنا يتذكر تلك اللحظة البطولية التي ركز فيها جايمي حصانه واستل حربة وانطلق بكل ما يمتلك من عنفوان وجنون وغضب لينهي الحرب ويقتل كاليسي، جميعنا يتذكر التوتر في ذلك المشهد، جميعنا يتذكر رد فعل تيريون وهو يهمس لأخيه بغضب أن يهرب ويترك أرض المعركة.

لكن أعتقد أننا نحتاج إلى التفكير مليًّا في القرار الذي اتخذه جايمي، أن يتخذ ذلك القرار الانتحاري وسط معركة خاسرة، أن يرمي بكل أوراقه وينطلق لتوديع هذا العالم في لحظة بطولية أخيرة، أن يستخدم يده اليسرى لاستعمال الحربة، وكأنه بذلك يثبت لنفسه أنه ما زال الفارس الذي كان عليه قبل أن يخسر يده اليمنى. لقد تطلب هذا القرار كل ما في جعبة المسلسل من إثارة، وروح، وشاعرية أدبية.

معارك فاشلة وضحايا عشوائيون

حتى حينما تكون أطراف الخير والشر واضحة للغاية في المسلسل، لم يمنعه ذلك من إبقاء الأمور مثيرة للغاية في كثير من المناسبات.

في حلقة «Hardhome»، التي شهدت المواجهة الأولى بين جون سنو و«The Night King»، وفي ظل محاولة إقناع جون سنو للهمج بالانتقال معه خلف الجدار وتوحيد قواهم في سبيل نجاة البشرية، استطاع المسلسل الحفاظ على عنصر الإثارة في الحلقة بالرغم من المواجهة المباشرة بين الخير والشر، لكن في تلك الفترة لم يُفقد بعد ترف الشخصيات الوافرة والكثيرة، مما يجعل أي شخصية قابلة للتضحية بها، ومما جعل جون سنو في تلك اللحظات العصيبة، وهو يقاتل لأجل حياته وحياة من معه، في خطر حقيقي ومحدق.

لم يفشل المسلسل مثلما فشل في «Beyond the Wall»، الحلقة التي تحدثت عن احتجاز جون سنو وبعض رفاقه خلف الجدار.

أسهم في نجاح المعركة البناء المثالي لأحداثها، فالهدوء الذي سبق وصول «الوايت ووكر» كان فعليًّا الهدوء الذي يسبق العاصفة، وطريقة تصوير ضخامة أعداد الموتى وضحت للمشاهدين لأول مرة عظمة الجيش الذي يواجهه أبطال المسلسل، ولا ننسى المبارزة التاريخية بين جون سنو وأحد قادة الووكرز، وصوت اصطدام سيف جون سنو الفاليري بسيفه، والرنين الذي خلفه هذا الاصطدام الحاد في أذهان المشاهدين.

كل ذلك كان سيكون دون قيمة لولا التركيز والتقديم الرائع لشخصية ملك الموتى كخصم مرعب وحقيقي لا يبدو أنه من الممكن إيقافه، فقبل مشهده وهو يوقظ جميع الجثث ليضمها إلى صف جيشه، كان وقوفه فوق الجبل ينظر إلى جون سنو في الأسفل بكل ترفع وخيلاء، كأنه إله ينظر باستخفاف إلى كائن وضيع.

في ظل غياب بعض العوامل والثيمات التي تحدثنا عنها، يحصل أن يقدم المسلسل معركة لا ترقى للطموحات والتوقعات، كحلقة «Battle of the Bastards».

هذه معركة بصرية عظيمة جدًّا، تفوق فيها الإخراج على كثير من الأفلام، إلا أن سيناريو الأحداث في ما قبل وخلال المعركة لم يكن متوافقًا مع ضخامتها وجماليتها، ولم يكتفِ المسلسل بتقديم أحداث متوقعة ومكشوفة فحسب، بل المشكلة الأكبر كانت معاملة هذه الأحداث على أنها أحداث مفاجئة للغاية ولم يكن من الممكن التكهن بها، بالإضافة إلى انعدام العواقب (الذي حصل بنجاة جميع أبطال القصة)، إضافة إلى حتمية انتصار جون سنو في المعركة لأنه يجسد الخير، ضد رامزي بولتون الذي يجسد الشر حرفيًّا.

لكن لم يفشل المسلسل كما فشل في «Beyond the Wall»، الحلقة التي تحدثت عن احتجاز جون سنو وبعض رفاقه خلف الجدار، وحصول معركة مصغرة بينه وبين الووكرز. تلك المعركة فاشلة بمعايير المسلسل من نواحٍ عدة، فجميع النقاط التي كان «Game of Thrones» يستخدمها لصالحه في نجاحاته السابقة تجاهلها كليًّا، بل أصبح يستخدم ما هو عكسها.

كبداية، الواقعية التي اتصف بها المسلسل لفترة طويلة ضُرب بها عرض الحائط ونحن نشاهد قفزات زمنية غير منطقية خلال الحلقة، لم تساعد في توضيح المدة التي قضاها أبطال القصة خلف الجدار. ضحَّى المسلسل بشخصية الراهب ثوروس، وتعامل معها على أنها تضحية ضخمة في هذه الرحلة الانتحارية، وكأنه شخصية رئيسية، مع أنه غاب في كثير من الحلقات دون أي تأثير ملموس، وقد أدى دوره كليًّا ولم يعد يحتاجه المسلسل. ثم أُنقذ الأبطال عن طريق كاليسي وتنانينها، وحصل الشيء الإيجابي الوحيد من الناحية السردية، وهو خسارة أحد التنانين وموتها.

لم يكتفِ المسلسل بهاتين الضحيتين ورمى بشخصية عشوائية في المعمعة، هو بينجن ستارك (عم جون سنو) لإنقاذ ابن أخيه، الذي كنا نعلم بالطبع أنه لن يموت. وفي سبيل إنقاذه، ضحى بينجن بنفسه رغم أنه كان يستطيع الهرب بكل سهولة مع جون سنو إلى بر الأمان. المشكلة في النقطة الأخيرة هي انعدام الحاجة إليها، وكان من الواضح أن المسلسل يحاول أن يتخلص من شخصية تناساها لفترة طويلة وأصبحت عبئًا، وفي نفس الوقت يتخلص منها بشكل بطولي وجذاب ليستعطف المتابعين.

فقدان النص وتحدي النهاية

ليس من المصادفة أن معركتي «Battle of the Bastards» و«Beyond the Wall» كانتا بعد توقف سلسلة الكتب عقب الكتاب الخامس، واضطرار كاتبي المسلسل إلى تأليف بقية الأحداث وعدم الاتكال على المادة الأدبية الثرية التي خلفها جورج مارتن كاتب الرواية الأصلية.

اتضحت المعاناة مع بداية الموسم الخامس، وهو آخر المواسم التي اقتُبست من الرواية بشكل كامل. انخفض مستوى المسلسل تدريجيًّا في موسميه السادس والسابع، وأعتقد أن نضوب المادة الأدبية التي اعتمد عليها «ديفيد بينيوف» و«دانيال وايس»، كاتبا المسلسل، أثر فيه من ناحيتين أساسيتين:

  1. فقدان النص العظيم والحوارات الاستثنائية في الروايات، ولا أتوانى هنا عن استخدام هذه المصطلحات لأن روايات جورج مارتن عمل مستقل بحد ذاته، وقراءتها رغم العلم المسبق بأحداثها تجربة فريدة للغاية
  2. فقدان المخزون الهائل من الشخصيات التي قُدمت في الكتب، ولعل هذا ما يجعل كاتبي المسلسل يترددان في المواسم الأخيرة بقتل الشخصيات، لأن في السابق كانا يعلمان تمامًا أن أي مارتن قادر على تعويض أي شخصية يتخلص منها بشخصية لا تقل عنها إطلاقًا، لكن الآن الموضوع يختلف كليًّا، وأي شخصية جديدة تحتاج إلى بنائها من الصفر، وهو أمر حتى إن كنت تبرع فيه، فلن يكون سهلًا في ظل اعتمادك المستمر على مصدر رئيسي وضخم كالكتب

حتى حينما لم يرتقِ المسلسل للتطلعات من ناحية النص، فإنه إطلاقًا لم يخيب الظن من الناحية البصرية.

الآن يواجه بينيوف ووايس أكبر تحدياتهما، فالحديث عن أن الحلقة الثالثة من الموسم الأخير ستُخصص للمعركة بين جيش الأموات والأحياء، الشر والخير، تجعل الضغوط لا تتوقف عند تقديم نهاية مرضية للقاعدة الضخمة من متابعي المسلسل فحسب، بل تمتد إلى تقديم هذه المعركة بأفضل صورة ممكنة.

يواجه الكاتبان مرة أخرى التحدي الجديد في الموازنة الصعبة بين العواقب التي ترتبط بهذه المعركة، لكن أكبر ميزة يملكها المسلسل الآن أنه في الأمتار الأخيرة وليس لديه أي شيء يخسره. كل شخصية مهما كانت أهميتها قابلة للتضحية، والجميع لا يهتم بالنتيجة النهائية بقدر اهتمامه بطريقة الوصول لهذه النهاية.

لا ننسى أهم ميزة تصب في مصلحة المسلسل: الميزانية الضخمة المخصصة والإمكانيات المتاحة التي لا أعتقد أنها سبق وتوفرت لعمل تلفزيوني، لذلك من الناحية الإخراجية والتصويرية لن نكون قلقين إطلاقًا، وأجزم بأننا سنشاهد ملحمة تاريخية سنتحدث عنها طويلًا، فحتى حينما لم يرتقِ المسلسل للتطلعات من ناحية النص، فإنه إطلاقًا لم يخيب الظن من الناحية البصرية.

نحن على مشارف النهاية، وكمية الأحداث المرتقبة والمتراكمة على مدى عدة مواسم سابقة من «Game of Thrones» تعني بشكل كبير أن الموسم الأخير لن يترك مجالًا لالتقاط الأنفاس، وسينطلق بأقصى سرعة منذ البداية. وفي حال نجح المسلسل في توظيف هذا، سيكون بالطبع قادرًا على تقديم أفضل مواسمه على الإطلاق.

مواضيع مشابهة