هذا الموضوع متوفر صوتيًّا، يمكنك الاستماع إليه هنا.
يحكي الناس عن ذلك الرجل الذي استيقظ باكرًا كعادته في تمام الخامسة صباحًا ليبدأ روتينه اليومي بالوقوف على الميزان لقياسِ وزنه، ويُفاجأ بأن الرقم الذي سجله هو 143 رطلًا (68 كيلوغرامًا).
نظر إلى الرقم وغمرته سعادة لم يكن يدري أحد سواه سببًا لها، ثم اتخذ قرارًا صارمًا بأن يفعل كل ما في وسعه ليحافظ على وزنه ثابتًا عند هذا الرقم. مارس الرياضة، وامتنع عن التدخين والمشروبات الكحولية، نام واستيقظ فى موعد محدد، إضافة إلى أنه أصبح نباتيًّا، لا ليحافظ على وزنه، بل لأنه «لم يكن يريد أن يأكل أي شيء له أم».
في ما بعد شرح ذلك الرجل سبب تمسكه بالرقم 143: «في الإنجليزية، لا يتطلب الأمر سوى حرف واحد لقول كلمة أنا، وأربعة حروف لكلمة أحبك، وثلاثة لأنت [لتكوين جملة I Love You]. إذًا: واحد، أربعة، ثلاثة.. 143».
استيقظ الرجل ليجد رسالة حب خاصة، وحده استطاع فك شفرتها، لم يشأ أن يحرم نفسه من هذه الرسالة حتى أواخر أيامه، إذ استطاع أن يحافظ على وزنه ثابتًا عند هذا الرقم السعيد لمدة 30 عامًا. لم يكتفِ باستقبال هذا الحب المجاني يوميًّا، بل جعل من هذا الحب دافعًا يملي عليه أفعاله.
في وقته الثري على هذه الأرض، عرفه الناس باسم «فريد روجرز».
حي السيد روجرز
اعتاد الأطفال روتينه اليومي وقت ظهوره على الشاشة. يدخل الاستوديو مبتسمًا وهو يغني افتتاحية برنامجه الشهير «Mister Rogers' Neighborhood» (حي السيد روجرز):
«إنه يوم جميل في هذا الحي
أتمنى لك يومًا جميلًا يا جاري العزيز
فهل لك أن تكون جاري؟»
ثم يغير الكلمات بشكل طفولي:
«إنه ليوم جيراني في هذا الجمال
يوم جيراني للجميلة
فهل لك أن تكن جاري؟
لطالما أردت جارًا مثلك
لطالما أردت أن أعيش في هذا الحي معك
لذا هيا بنا نستمتع بهذا اليوم قدر استطاعتنا
وبما أننا معًا، يمكنني أن أقول مجددًا:
هل لك أن تكون جاري؟».
وبينما يغني هذه الأغنية يخلع سترته الأنيقة ويضعها في خزانة ملابسه، ثم يستبدل بها سترة صوفية ملونة أصبحت علامته المميزة، يرتديها بسرعة، ويخلع حذاءه، ثم يستبدل به زوجًا من الأحذية الرياضية، وعندما تنتهي الأغنية يقول بوداعة: كيف حالك يا جاري؟
تبدأ الحلقة عادةً بإحضار مستر روجرز بعض الأغراض التي اشتراها ليُريك إياها، أو ليقص عليك ما فعله أمس بعدما تركك، أو ليُطلعك على شيء جديد تعلمه، أو ربما يستقبل زائرًا قد يكون «مستر مكفيلي»، ساعي البريد الذي يأتي في كل زيارة بشيء جديد غالبًا ما يكون استعاره أو أستأجره. ثم نراه يستعيد الغرض، ويمضي مسرعًا لإرجاعه.
حين ينتهي مستر روجرز من أعماله الصباحية، يجلس بجوار نموذج مصغر لعربة تروللي حمراء يسميها «عربة الخيال»، تأخذه العربة إلى عالمه الخيالي المليء بالمخلوقات الخيالية.
وكما يحدث في عالمنا الحقيقي، تتعرض شخصيات العالم الخيالي أيضًا لمواقف تتسبب في كثير من المشكلات، وتنتج عنها مشاعر متناقضة، ويتطلب الأمر بعضًا من التفكير المنطقي وحسن التصرف اللذين لا يتوفران دائمًا. وهنا يتدخل مستر روجرز ليطرح عددًا من الحلول والأفكار.
قبيل نهاية كل حلقة، نجد العربة تغادر حي الخيال عائدةً إلى مستر روجرز، الذي يتأمل يوميًّا المشكلة التي يعرضها في الحلقة، ويفسر للأطفال سلوك الشخصيات، ويمدهم بالحل المنطقي عن طريق أغنية يؤلفها لهذا الغرض. وقبل أن يغادر الحي، يخلع سترته الصوفية وحذاءه الرياضي، ويرتدي سترته وحذاءه الأنيقين، ويستعد للخروج وهو يغني خاتمة البرنامج التي يقول في مقطعها الأخير:
«يا له من شعور رائع أن تعلم أنني سأعود غدًا بأفكار جديدة، وسيكون لدينا الكثير لنتحدث عنه».
ثم يوجه حديثه إلى الأطفال قائلًا:
«دائمًا ما تجعلون اليوم مميزًا، أتعلمون كيف؟ فقط بكونكم ما أنتم عليه. لا يوجد في العالم سوى نسخة واحدة من كل إنسان، وأنا أحبكم كما أنتم».
من هو فريد روجرز؟
وُلد في مدينة صغيرة بولاية بنسلفانيا الأمريكية تُدعى لاتروب، وكان وحيد أبويه. تخرج عام 1951 في جامعة رولينز في فلوريدا مختصًّا في التأليف الموسيقي، وتنقّل بعدها بين كثير من الوظائف كمؤلف موسيقى في قناة «NBC»، ثم تفرغ للكتابة من أجل برنامجه الأول «ركن الأطفال»، لكن روجرز لم يكن مرتاحًا للمحتوى الذي يقدمه التلفزيون في هذه الفترة، وشعر بضرورة أن يبدأ العمل بشكل مستقل، فاستقال من وظيفته في القناة.
عرض روجرز برنامجه لأول مرة في «هيئة الإذاعة الكندية» عام 1966 تحت اسم «Mr. Rogers»، قبل أن يتغير اسمه عام 1968 إلى «حي السيد روجرز»، الذي عُرِضَ على «التلفزيون الوطني التعليمي» و«خدمة الإذاعة العامة».
كيف كان روجرز مختلفًا؟
- مرافعة لا تُنسى
قبل أن نستعرض عددًا من المحطات المميزة في حياة فريد روجرز، دعونا نرجع بالزمن إلى الأول من مارس عام 1969، عندما مَثُل أمام اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ مستنكرًا قرار خفض ميزانية البرامج التلفزيونية، الذي سيؤدي إلى توقف برنامجه.
ذلك التخفيض سببه أن الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» كان مُقبِلًا على حرب فيتنام، فقرر خفض ميزانية البرامج التلفزيونية إلى النصف، وكانت وقتها تصل إلى 20 مليون دولار. ومن البرامج التي كان من المقرر خفض تمويلها بالدرجة الأولى برامج الأطفال والبرامج التعليمية.
بدأ روجرز في شرح الأسباب التي تجعل برنامجه يستحق الإنقاذ، في واحدة من أجمل المرافعات وأكثرها صدقًا أمام السيناتور السيد «باستوري»، الذي كان معروفًا بالحزم والصرامة.
في البداية، كان واضحًا أن السيناتور يميل إلى تفعيل القرار وسحب تمويل البرنامج، لكن مرافعة روجرز كانت مُحكَمة للغاية. بدا كما لو كان يحادث الأطفال في برنامجه عن إحدى المشكلات التي تتعرض لها شخصياتهم الخيالية. لم يكن يفعل في هذه الجلسة إلا ما يفعله في كل جلسة: الحديث بالعقل، والحث على التفكير.
قال للسيناتور إن الهدف الأساسي هو تعليم الأطفال، وتحريضهم على التفكير. لم يحوِّل الأمر إلى مسألة شخصية، بل حاول أن يتعامل مع الموضوع بشكل منطقي، ويشرح للسيناتور أين تُنفَق الأموال، مؤكدًا أنه يضغط النفقات، فهو من يكتب الأغاني، ومن يُحرِّك العرائس ويكتب حواراتها، وهو الذي يؤلف حكاية يرويها كل يوم. قال كل هذا بأسلوب هادئ، وشرح موقفه بوضوح، ما دفع السيناتور إلى أن يقول: «من المفترض أنني رجل قوي، لكنني لأول مرة تنتابني القشعريرة».
وصل حديث روجرز إلى نهايته عندما تَوّج خطابه العظيم بطلبه أن يلقي على مسامع السيناتور قصيدة كتبها للأطفال في برنامجه عن إمكان التحكم في المشاعر السلبية، مثل الغضب:
«ماذا تفعل بالغضب الذي تشعر به؟
حين تشعر بغضب شديد لدرجة الرغبة في العض
عندما يبدو العالم بأكمله وكأن به خطأ ما
ولا يبدو أن أي شيء تفعله صحيح
ماذا ستفعل؟
هل تلكم كيسًا، أو تدق على طين أو صلصال؟
هل تجمع أصدقاءك من أجل لعبة ملاحقة ولمس (المسّاكة)؟
أو ترى إلى أي حد يمكن أن تكون سريعًا؟
من الرائع أن تقدر على التوقف
حينما تكون خططت لفعل شيء خاطئ
وأن تكون قادرًا على أداء شيء بديل
وأن تفكر بهذه الأغنية
أستطيع التوقف حين أريد، أستطيع أن أتوقف عندما أشاء
أستطيع أن أتوقف، أتوقف، أتوقف في أي وقت
ويا له من شعور رائع أن أكون على هذه الحال
أن أعرف أن هذا الشعور حقًّا ملكي
أن أعرف أن هناك شيئًا في أعماقنا
يساعدنا في أن نصير ما نحن عليه
لأن بنتًا بإمكانها في يوم من الأيام أن تصير سيدة
ولأن ولدًا بإمكانه في يوم من الأيام أن يصبح رجلًا».
انتهت الجلسة لصالح روجرز وزملائه بتمويل البرامج التلفزيونية كما اعتادوا بـ20 مليون دولار، بل قرر السيناتور أن يزيد الميزانية إلى 22 مليونًا.
- كان ثوريًّا
كان يرد على كل الرسائل التي تصل إليه من الأطفال، آلاف الرسائل يقرأها بصبر، ويرد عليها باهتمام.
لم تتوقف أفكار فريد روجرز ومعتقداته الثورية عند برنامجه، بل كان مناهضًا للعنصرية، والدليل أنه وظف، ولأول مرة في تاريخ التلفزيون في ذلك الوقت، أمريكيًّا من أصل إفريقي يُدعى «فرانسوا كليمو» كشخصية في برنامجه،، وليست أي شخصية، فقد لعب شخصية ضابط. ويمكن لكم أن تتخيلوا كيف استقبل المشاهدون الأمر في ذلك الحين.
وعن هذا يحكي كليمو قائلًا: «وُلدت في حي فقير، لذلك لم يكن لديّ رأي إيجابي عن ضباط الشرطة. عانيت بشدة لتقمص هذا الدور، لهذا السبب لم أكن متحمسًا لأداء دور الضابط على أي حال».
في البداية رفض كليمو الدور، لكنه خضع في النهاية بعد إصرار روجرز، الذي كان يعرف جيدًا معنى أن يضع رجلًا أسود في منصب قوة في برنامج يُعرَض في الستينيات.
- كان صادقًا في حبه
هناك تلك الحكاية الشهيرة التي يتداولها محبوه عنه، والتي أُحبُّ أن أحكيها مرارًا وتكرارًا.
طفلة ضريرة عَلِمَت أن مستر روجرز يمتلك حوض سمك، لكن لأنها عاجزة عن الرؤية، فلم تكن تعرف إن كان روجرز يطعم أسماكه أم لا. لذا، فقد بعث والدها برسالة إلى روجرز طالبًا منه أن يقول على الهواء إنه يطعم أسماكه حتى تطمئن الفتاة. وبالفعل في كل حلقة، ولمدة 33 عامًا، كان مستر روجرز يعلن على الهواء أنه يُطعم أسماكه.
كان يرد على كل الرسائل التي تصل إليه من الأطفال، آلاف الرسائل يقرأها بصبر، ويرد عليها باهتمام. لم يحدث ولو مرة على مدار البرنامج أن رسالة أُرسلت إليه ولم يرد عليها. كان يهتم بما يقوله ويفعله، ويهتم باهتمام الناس به.
كان في الواقع كما هو على الشاشة: محبًّا، وهادئًا، ومسالمًا، وروحانيًّا، وعادلًا. هكذا أكد طاقمه وأصدقاؤه وكل من عرفه.
- تقاطع فريد
ظهر فريد روجرز لمرة واحدة في برنامج «Sesame Street» (شارع سمسم)، الذي أطلقه «جيم هينسون».
في هذه الحلقة، ظهر روجرز ليُعَلّم «Big Bird» (الطائر الكبير) الفارق بين الواقع والخيال. كان الأمر قد اختلط على الطائر، لكنه التقى روجرز مصادفة وتحدثا لفترة قصيرة، ثم رحل روجرز لأنه كان على موعد مع صديق. وعندما عاد الطائر الكبير وحكى لأصدقائه عن هذه المقابلة الفريدة، لم يصدقه أحد، لذلك اعتقد أنه ربما تخيل الأمر كله.
يعود مستر روجرز مرة أخرى ويبحث عن صديقه، بعدما شعر أنه لم تتح له الفرصة لمعرفته بشكل أفضل، ليجده رافضًا أن يصدق أن هذا أيضًا حقيقي. وهنا يُعلِّمه روجرز كيف يفرق بين الحقيقة والخيال، ثم يُعلِمه بأنه لا يميل إلى أىٍّ منهما أكثر من الآخر، وأن كليهما له جمالياته وقدرته على تغيير حياة الناس.
بعدها ظهر «الطائر الكبير» في حلقة من «حي السيد روجرز». ولهذا الظهور قصة تُظهر الفارق بين رؤية روجرز وجيم هينسون للخيال.
في البداية، اقترح فريد روجرز على الممثل «كارول سبيني»، مؤدي شخصية الطائر الكبير، أن يظهر بشخصيته الحقيقية في برنامجه، لكن سبيني رفض، إذ إن هذا اللقاء سيدمر الشخصية ويكشفها للأطفال، وهو ما اقتنع به روجرز. ثم وضع شرطًا لظهور «الطائر الكبير»، وهو أن لا يظهر في العالم الحقيقي للحلقة، بل يظهر في «حي الخيال»، لأنه لم يؤمن بقطع ذلك الخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال، على عكس هينسون، الذي كان يسير الخيال في عالمه جنبًا إلى جنب مع الحقيقة.
هل يحبه أطفال اليوم كما أحبه الأطفال حينذاك؟
حين سُئل عن عدد الأطفال الذين ساعد في تغييرهم، رد روجرز إنه لا يهتم.
الإجابة هي لا.
السبب ليس اختلاف الزمن وتغير الأذواق، بل لأنه حتى في ذلك الوقت لم ينل حب جميع الأطفال. لقد نال حب كثير منهم، لكن منهم أيضًا من كان يفضِّل ما عاش روجرز يحاربه: الألعاب العنيفة، وبرامج المسابقات، ومشهد شخصين يتقاتلان، ورجل يلقي بكعكة في وجه آخر. لقد كان برنامجه أخلاقيًّا وتثقيفيًّا.
حين سأله مقدم البرامج الشهير «تشارلي روز»: «أعطني رقمًا تقريبيًّا لعدد الأطفال الذين تظن أنك ساعدت في تغييرهم»، رد عليه روجرز قائلًا إنه لا يهتم. كل ما يهمه أنه كان موجودًا بجسده وعقله وروحه. ثم استطرد في الحديث عن أن أفضل ما يمكن أن يفعله إنسان لإنسانٍ آخر هو أن يوليه كل اهتمامه. وهذا ما فعله روجرز خلال مسيرته في العمل مع الأطفال.
نعم، يمكنك أن تقول إنه بطل
في مقال بعنوان «هل يمكنك أن تقول... بطل؟» يستعرض الصحفي «توم جنود» مَشاهد إنسانية في حياة روجرز، رآها عن قرب خلال الفترة التي اقترب فيها منه لعمل ملف عنه لمجلة «Esquire».
هناك مشهد محدد لا أنساه في هذا المقال. يحكي جنود عن تلك الحادثة المفجعة التي راح ضحيتها ثلاثة أطفال في مدرسة بولاية كنتاكي في ديسمبر 1997. بدأ الأمر بمراهق أخبر زملاءه أنه سيفعل شيئًا كبيرًا في الغد. وفي اليوم التالي، أحضر بندقية وأطلق النار على زملائه، ليقتل ثلاثة منهم.
عندما سمع روجرز بالحادثة شعر بالأسى، والتفت إلى توم وقال ببراءة: «هل توافقني على أن العالم كان سيصبح مختلفًا لو قال الولد إنه سيفعل شيئًا صغيرًا في الغد؟».
هل نوافقه؟ ربما كان هذا جوهر فلسفة روجرز بالكامل. لقد اقتنع فريد روجرز تمامًا (وأراد تعليم الأطفال كذلك) بأنه من اللطيف أن تفعل شيئًا، ولو صغيرًا، لكنك تراه مهمًّا وذا جدوى. كانت محاولاته كلها في هذا الاتجاه. وبجملته الشهيرة التي يختم بها برنامجه في كل حلقة «أحبك كما أنت»، كان يؤكد هذه الرسالة المسالمة الهادئة.