رغم محاولة فيلم «Dunkirk» لـ«كريستوفر نولان» محاكاة أكبر قدر ممكن من الواقعية لعملية الإخلاء الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، فإن الحقيقة، كما هي العادة، تحتوي على تفاصيل أكثر قسوة.
وقعت أحداث دنكيرك في بداية الحرب العالمية الثانية، تحديدًا في الأسبوع الممتد من 26 مايو إلى 4 يونيو عام 1940، بعد أن نجحت القوات الألمانية في حصار قرابة 400 ألف جندي فرنسي وإنجليزي على شواطئ دنكيرك في فرنسا.
وفي عملية بطولية عُرفت باسم العملية «دينامو»، أُجلِيَ أكثر من 300 ألف جندي، وهو رقم أضخم من كل التوقعات، عن طريق جسر بحري من القطع البحرية الملكية البريطانية، ومئات السفن المدنية التي جاء أصحابها لحمل مَن يقدرون على حمله في سفنهم والعودة بهم إلى الوطن.
جاء هذا الحصار نتيجةً لنجاح قوات هتلر في اجتياح بلجيكا وفرنسا في العاشر من مايو، ممَّا مكَّن الزعيم النازي من صناعة ثغرة عزلت القوات الموجودة على الشاطئ عن بقية الجيوش.
لكن ما هي التفاصيل الأصعب لهذه الفترة التي لم يقدمها الفيلم؟ عرض مقال منشور على موقع «الغارديان» التفاصيل الدقيقة لأسود أيام دنكيرك.
دنكيرك: كارثة على الشاطئ
كان 29 مايو أصعب أيام الحصار على الإطلاق، فيروي المقال ذكريات الملازم «إليمان» عن هذا اليوم الذي بدت فيه النجاة كأبعد ما تكون، خصوصًا مع رؤية الجنود للسفن الإنجليزية القادمة لإنقاذهم وهي تغرق بعد قصف الطائرات لها.
يحكي إليمان أنه بعد وصوله مع عدد من الجنود إلى شاطئ «Malo-les-Bains»، بدأ القصف في المساء. كانت المدمرات البحرية الألمانية تلقي بقذائفها على الشاطئ ثم تختفي، بينما تدور الطائرات الألمانية «Stuka» فوقهم كأنها أسراب من طيور النورس.
مع توقف القصف على شاطئ دنكيرك، تكونت طوابير طويلة من الجنود في انتظار سفن الإجلاء، لكن الجرحى فقط وجدوا طريقهم إلى السفن.
كانت بداية هجوم القوات الألمانية أصعب المراحل وأكثرها تلاعبًا بأعصاب الجنود، إذ وصلهم شعور بأنهم عارون تمامًا على الشاطئ، وهكذا جمع الملازم إليمان جنوده واختبؤوا خلف سفينة محطمة لحين انتهاء القصف، لكن هذه كانت البداية فقط.
قررت الطائرات الألمانية أن تقترب أكثر من الشاطئ، فبدأ الجنود يشعرون بها تحوم فوق رؤوسهم مباشرة، ويروي إليمان أن ما شهده في الساعات الأولى من انفجارات أصابه بالتبلد، حتى أن اقتراب الموت لم يعد يصيبه بالخوف.
لم يكن الموت بعيدًا عنه فعلًا، إذ شعر فجأة بارتطام قوي ثم أحاط به الظلام، لكنه أدرك في ما بعد أنه نجا بالكاد. لم يكن بقية زملائه بنفس حظه، فلقي بعضهم مصرعه وأصيب آخرون، بينما فقد واحد السيطرة على أعصابه واضطر زملاؤه إلى حمله وهو يضحك بطريقة هستيرية.
بعد توقف القصف نسبيًّا، بدأ إليمان ومن معه في اتخاذ دورهم في الطوابير الطويلة المكونة من آلاف الجنود، التي اصطفت بانتظار السفن لتقلهم إلى إنجلترا، وهي الطوابير التي لم تتحرك تقريبًا، فقد وجد الجرحى فقط طريقهم إلى السفن. وبمرور الوقت، كان ما تبقى من الروح المعنوية أو الأمل في النجاة ينهار، فأصبح النوم مستحيلًا، ولا شيء بأيدي الجنود المُحاصرين سوى الانتظار.
اقرأ أيضًا: كيف تروِّج المخابرات الأمريكية للحرب في أفلام هوليوود؟
دنكيرك: كابوس في البحر
كأن الوضع لم يكن كارثيًّا بما يكفي، تسبب تسرُّع أحد الضباط في تقليل عدد سفن الإنقاذ التي ترسلها إنجلترا، بعد أن بعث رسالة خاطئة مفادها أن وصول السفن صار مستحيلًا.
كان وضع السلاح البحري كابوسيًّا بالفعل، فالسفن الإنجليزية تتساقط واحدةً وراء الأخرى، فشعر هذا الضابط بالفزع وأبلغ قياداته أن المرفأ غير مؤهل لاستقبال مزيد من السفن، لتتوقف القيادة عن إرسال السفن فعلًا طَوَال ليل يوم 29، إلى أن أعادوا تقييم الوضع صبيحة اليوم التالي.
قد يهمك أيضًا: لعبة «هذه الحرب حربي»: سيرة هؤلاء الذين رأوا كل شيء
أول هذه المآسي كان مع المدمرة «HMS Wakeful»، التي حملت الكثير من الجنود لإعادتهم إلى الأراضي البريطانية، قبل أن يفاجئها طوربيد من سفينة ألمانية ليدمرها تمامًا. في 15 ثانية فقط كانت مقدمة السفينة ومؤخرتها قد غرقتا تمامًا، ولم يبقَ من هيكلها إلا الجزء الأوسط الذي تشبث به بعض الناجين، فيما تحاول السفن البريطانية الأخرى إنقاذ من يمكن إنقاذه ممَّن سقطوا في المياه.
كانت هذه مجرد بداية فقط، فبعد ذلك حاولت المدمرة «HMS Grafton» الاقتراب لتقديم يد العون، فرصدتها غواصة ألمانية معروفة باسم «U-boat»، ليطلق قائدها طوربيدًا على المدمرة ويصيبها بعد مرور دقيقتين وعشر ثوان فقط من سقوط المدمرة السابقة عليها.
لم ينجح الطوربيد في إغراق المدمرة «HMS Grafton»، لكن هذا لا يعني أن الأمور جرت على ما يرام، لأن أحد زوارق الإنقاذ المحيطة تأثر بالموجة الناتجة عن الانفجار، وسقط عدد من ركابه في المياه.
كان من سقطوا في المياه مع ذلك أفضل حالًا ممَّن بقوا داخل الزورق، إذ اقتربت مدمرة ثالثة من المنطقة، وبسبب الارتباك واختلاط الألوان في الظلام، تخيل الطاقم أن الزورق تابع لألمانيا وفتحوا نيرانهم عليه، ليقتلوا كل من كان فيه باستثناء خمسة رجال فقط.
الطائرات تحصد المزيد
ركز نولان في فيلم «دنكيرك» على ثلاثة خطوط، الميناء والبحر والجو، وتعرَّض لأهوال الجنود الذين احتاجوا إلى أكثر من محاولة للنجاة.
في هذا اليوم نفسه قررت ألمانيا إرسال قواتها الجوية «Luftwaffe» للمرة الأولى إلى شواطئ دنكيرك، ووصلت الخسائر التي سببتها هذه الطائرات إلى تدمير وإيقاف 10 مدمرات بحرية و8 سفن مدنية، بجانب عدد من القطع البحرية الأصغر، ومن بين هذه المدمرات التي تعرضت للقصف واحدة كان عليها قرابة ألف جندي.
لم ينجُ كذلك من كان بالقرب من الشاطئ من نيران الطائرات، وأحد هؤلاء هو الجندي «بوب بلوم»، الذي كان في عمر التاسعة عشرة بحسب المقال، وانفجرت قذيفة على المدمرة التي التي كان على متنها، ممَّا أدى إلى إصابته بشدة، لكنه لم يمت، ورأى بعينيه أحد زملائه وقد خرجت عظام صدره مخترقةً جلده.
نظر بلوم إلى يديه ليجد أن الجلد سقط عنهما كما لو كان يخلع قفازًا، وعرف في ما بعد أن أنفه لم يعد في مكانه، وبسبب سوء حالته أعطاه زملاؤه حقنة مورفين، ولم يستيقظ إلا وقد وصل إنجلترا بالفعل.
لكن رغم كل ذلك، ومع أن الوضع كان منبئًا بالهلاك لكل من كانوا على شاطئ دنكيرك وكل من يحاول الاقتراب منه، فإن عمليات الإنقاذ حققت نتائج معجزة. فرغم أن الخسائر في المدمرات البحرية بلغت 25 قطعة وقرابة 170 سفينة أخرى، أُجلِيَ نحو 315 ألف جندي، 185 ألفًا من الإنجليز والبقية من الفرنسيين، بخلاف الجرحى.
قد يعجبك أيضًا: كيف استغلت الأنظمة السينما للترويج للجيش والحرب
في فيلمه، حاول كريستوفر نولان نقل كثير من الوقائع التي حدثت إلى الشاشة، فركز على ثلاثة خطوط هي الميناء والبحر والجو، وعرض عبر هذه الخطوط عددًا من الوقائع، مثل غرق سفن الإنقاذ وانفجار المدمرات بالطوربيدات، وتعرَّض لأهوال الجنود الذين احتاجوا إلى أكثر من محاولة للنجاة.
ظن بعض الجنود أن ما حدث هو النهاية، وأن انتصار ألمانيا صار حتميًّا، لكن عملية الإنقاذ كانت تمثل بداية جديدة لمواصلة الحرب وإنقاذ العالم لاحقًا من النازيين.