الرقص لغة يتفاعل بها الجسد مع الآخَر دون الحاجة إلى كلام. هذا التصور لا يبدو راسخًا في أذهان كثيرين في المنطقة العربية، نظرًا لانتشار ثقافة التحريم ومعاداة الفن.
في تونس، وفي مختلف الحقب التي مرت بها البلاد، بقي فن الرقص متأصلًا في الموروث الحضاري وراسخًا في المخيال الشعبي، عن طريق نساء امتهنَّ الرقص وكُنَّ سابقات لعصرهن، ونتحدث هنا عن فترة تمتد من عشرينيات القرن الماضي إلى اليوم.
تكمُن أهمية الحركة الثقافية، التي شجعت الراقصات في تونس ومثلت حافزًا لهن، في تزامنها مع حقب مهمة من تاريخ البلاد (فترة ما بين الحربين، ونهاية الحرب العالمية الثانية، إلخ)، ليتحول الرقص إلى علامات فارقة نؤرخ بها لأحداث مهمة وتحولات مجتمعية لافتة.
في هذا الموضوع، سنتتبع تاريخ أهم الراقصات التونسيات والتغييرات التي طرأت على هذا الفن من حقبة إلى أخرى.
زهرة لمبوبة: أيقونة الرقص
في عديد من أعماله، مثل كتاب «التقاليد والعادات التونسية»، يشرح المؤرخ والأكاديمي التونسي عثمان الكعاك البيئة التي نشأت وانتشرت فيها ثقافة الرقص في العاصمة خلال فترة الاستعمار وبعد الاستقلال.
بدأت زهرة لمبوبة بخطًى بطيئة مع عازفي الإيقاع في الأماكن المفتوحة، لتصل للاحتراف عن طريق العمل المنظم والرقص في «الكافي-شانطة».
أحياء مثل باب سويقة كانت قلبًا نابضًا للحركة الفكرية والفنية في تلك الفترة. وعلى امتداد عقود متتالية، أصبحنا نميز بين مكانين مختلفين يمارَس فيهما الرقص:
- محلات التجار، التي تُخصَّص في النهار للبيع والشراء وتتحول في الليل إلى أماكن لهو ورقص، وهي أماكن رجالية بامتياز.
- الأماكن التي ظهرت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، لتحتوي الراقصات اللاتي كن يقدمن عروضًا بمقابل مادي، ومن هنا ظهرت زهرة لمبوبة (أي فانوس في اللهجة التونسية)، وسميت هكذا لأنها كانت تطوِّق خصرها بمجموعة من الفوانيس عندما تصعد لترقص.
اقرأ أيضًا: رشدي بلقاسمي: الراقص التونسي الثائر
من مدينة جندوبة شمال غربي تونس إلى العاصمة، كانت بدايات هذه الراقصة متواضعة وبخطًى بطيئة مع مجموعة الفرق التونسية وعازفي الإيقاع في الأماكن المفتوحة، لتصل في ما بعد إلى الاحتراف عن طريق العمل المنظم والرقص في أماكن مغلقة تسمى «الكافي-شانطة»، وهي كلمة فرنسية صارت متداولة في اللهجة التونسية، تعني المكان الذي يحتضن سهرات وعروض الرقص، وهذه الأماكن من الإرث الاستعماري الفرنسي.
انتشرت ثقافة الرقص والموسيقى في الحاضرة بشكل لافت، فلمبوبة اكتُشفت موهبتها صدفةً عند مرورها في وسط العاصمة في ساحة باب الأقواس، حين وجدَت مجموعة من العازفين مع الفنان الشعبي الشهير إسماعيل الحطاب.
ومن فرقة «الطبالة» (عازفو الإيقاع باللهجة التونسية) إلى الخطوات الأولى مع الحطاب، وصولًا إلى بناء مسيرة حافلة مع الراقص حمادي اللغبابي، أحد أشهر الراقصين في تاريخ تونس، رسمت زهرة ملامح حقبة مهمة في تاريخ الرقص التونسي، وتحولت إلى همزة وصل بين عالمَيِ السياسة والفن من خلال عروضها، التي ذاع صيتها وأصبح الجميع مقبلًا عليها، حتى الطبقة السياسية الحاكمة.
ليست زهرة لمبوبة مجرد ظاهرة فلكلورية عابرة، فقد عرف معها فن الرقص مرحلة جديدة، ذلك أننا انتقلنا من مرحلة كان فيها الرقص الشعبي حكرًا على الرجال في الأماكن العامة، ويجسد حركات تعكس كبتًا جنسيًّا لا يجد متنفسًا سوى الرقص، إلى مرحلة مغايرة أُضفي خلالها بعدًا جماليًّا قوامه التركيز على تموجات الخصر والبطن والتمايل على إيقاعات آلة الدربوكة.
كان للرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة دور مهم في تشجيع هذا الفن وتطويره، وكانت تونس من أولى البلدان العربية التي خصصت إدارة للرقص سنة 1958، وهو ما أسهم في ظهور عديد من الراقصات مثل الأختين زينة وعزيزة.
زينة وعزيزة: من باب سويقة إلى العالمية
لعب الفنان الشعبي إسماعيل الحطاب دورًا محوريًّا في اكتشاف موهبة الأختين زينة وعزيزة، مثلما كان الحال مع زهرة لمبوبة.
بعد أن كان الرقص حكرًا على الرجال في أماكن مغلقة خلال العشرينيات والثلاثينيات، فتحت زهرة لمبوبة، بصحبة جيل كامل، المجال أمام مجموعة من الراقصات اللاتي سطع نجمهن في العقود التالية.
قد يهمك أيضًا: قصة نجاح الحركة النسوية في تونس
لعل أبرز هؤلاء على الإطلاق الثنائي زينة وعزيزة، فقد تمكنتا من تحقيق شهرة واسعة بفضل تغير العقليات وترسيخ ثقافة فن الرقص في المخيال الشعبي، مع عديد من التسهيلات والعوامل التي ساعدت الأختين على البروز، مثل فتح المجال أمام الظهور الإعلامي للتعريف بهذا الفن.
بدأت شدلية ومحبوبة بوزيان (اسماهما الحقيقيان) المسيرة من الملاسين، وهي منطقة شعبية في العاصمة. ففي ليالي رمضان، كانت السهرات الراقصة المؤثثة بالغناء والسمر عادة دأب عليها سكان الحاضرة. فشهر الصيام فرصة للسهر في «الكافي-شانطة»، ومن هناك بدأت زينة وعزيزة أداء لوحاتهما الراقصة، التي جلبت الأنظار نحوهما منذ بدايتهما في الخمسينيات.
المتمعن في تاريخ الراقصات التونسيات سيلحظ حضورًا دائمًا للفنان الشعبي إسماعيل الحطاب. فكما كان الحال مع زهرة لبمومة، لعب هذا المغني دورًا محوريًّا في اكتشاف موهبة الأختين، اللتين ستعوضان ثنائيًّا نسويًّا كان في فرقته، هما عيشة ومامية.
هذه الفرصة الذهبية كانت البداية الحقيقية لزينة وعزيزة، فقد عملتا على تطوير مهارتهما واكتساب مزيد من الخبرة إلى جانب قامة فنية مهمة مثل الحطاب.
وفي سنة 1962، وسعت الأختان مجال نشاطهما ودخلتا مغامرة جديدة، لتكونا صحبة الراقص حمادي اللغبابي في الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، أول مكان ينشط فيه الراقصون ويمارَس فيه الرقص بطريقة جماعية مستقلة ومنظمة.
واصلت زينة وعزيزة نشاطهما ضمن الفرقة، مع تقديم عروض خارج أرض تونس في شتى أنحاء العالم. هذا الولع بالرقص والأداء المبهر والمتناسق بين الأختين جعل الصحافة العالمية تسلط الضوء على هذه الظاهرة وتهتم بها. وسيثبُت هذا الثنائي كمرجع في فن الرقص بعد الانضمام إلى فرقة عازف الكمان والمغني رضا القلعي، الذي كان يقود فرقة موسيقية في باب سويقة.
عام 1965 كان البداية الحقيقية للعالمية، فقد بلغ الأداء أوجَه وأصبحت الأختان نموذجًا يحتذى، ومرجعًا في فن الرقص يمثل تونس في كل بلدان العالم، يُعرف بالثقافة الفلكلورية التونسية.
حطمت زينة وعزيزة كل الحدود، وتعددت تجاربهما في مختلف الميادين، فشاركت زينة في فيلم «Goha» لجاك باراتي، بطولة عمر الشريف و«كلاوديا كاركينالي». كانت زينة وعزيزة ثنائيًّا أسهم بشكل كبير في تطوير فن الرقص، والارتقاء به من المحلية إلى مرتبة العالمية.
سهام بلخوجة: ثمانينيات الانفتاح
منذ أواخر السبعينيات، خرج فن الرقص في تونس من حواجزه التي كان حبيسها، وتخلص منها لينفتح على أشكال جديدة من الفنون.
سهام بلخوجة إحدى أبرز الراقصات التونسيات اللاتي اتبعن هذا النهج التجديدي. فمن قاعة «بن رشيق» في العاصمة، عمدت بلخوجة منذ بداياتها إلى التشبع بتاريخ الرقص والانفتاح على أنواع جديدة ورؤى مغايرة. ومع بداية الثمانينيات، شهدت تونس حقبة جديدة وجيلًا يعتبر الرقص وسيلة للتغيير والتأثير في المجتمع.
ما يميز بلخوجة عن راقصات مثل لمبوبة وزينة وعزيزة هو السعي إلى تمرير ثقافة الرقص، لا من خلال عروض فقط، بل أيضًا بإنشاء أماكن مخصصة لتدريس قواعد هذا الفن.
بدأت سهام بلخوجة مغامرتها مع الرقص عن طريق الظهور مع مذيعين تونسيين يؤمنون بأن هذا الفن مهم ومحوري، مثل نجيب الخطاب، منذ 1985 إلى 1995. فتح ذلك المجال أمامها لتشارك في أعمال مسرحيين ومخرجين مثل الفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي، لتصل إلى مرحلة العالمية يوم استضافتها القناة الفرنسية الثانية في برنامج «كلمات منتصف الليل».
هذه التجربة التي لم تقتصر فقط على تونس هي ما دفع بلخوجة إلى السعي نحو تطوير العقليات وإبراز أهمية هذا الفن في حياة الفرد.
قد يعجبك أيضًا: نزهة في مفهوم الموهبة
يبدو تاريخ الرقص في تونس حافلًا بإنجازات الراقصات اللاتي اقتحمن ذلك المجال بعدما كان حكرًا على الرجال، وقاومن بالرقص العقليةَ الذكوريةَ السائدة. بدأت ملامح الحركة الثقافية الساعية إلى ترسيخ فن الرقص في الأذهان منذ أربعينيات القرن الماضي، وهي متواصلة إلى اليوم عن طريق الشباب والنوادي والجيل الجديد من الراقصات، اللاتي يعملن على تمرير الرسالة وتسليط الضوء على أهمية الرقص.