الرهان على يونس بلهندة: الفرصة الجميلة، لا المضمونة
في هذه السلسلة يكتب لنا كُتَّاب «منشور» وأصدقاؤه رهاناتهم الشخصية في كأس العالم، كلٌّ حسب تفضيلاته. ليست رهانات أو تحليلات فنية، بل تفضيلات وأهواء شخصية منطلِقة من موقعهم كمتفرجين ومشجعين لا أكثر.
في نهاية 2010 اختار المغربي مواليد فرنسا، يونس بلهندة، تمثيل منتخب المغرب بدلًا من فرنسا. تكلم بلهندة وقتها عن مدينة الجدة في المغرب، وعن تأثره بها في الزيارات. حينها كانت فرنسا لا تزال مشتعلة بالمعركة الدائرة بين أصول لاعبيها المتنوعة، معركة وصلت صداها إلى إضراب شهير للاعبي المنتخب عن نزول التدريب الأخير قبل لقاء مصيري أمام جنوب إفريقيا في كأس العالم 2010، تلاه خروج كارثي من الدور الأول للبطولة.
ترك بلهندة كل هذا الصراع وراءه، وذهب للانضمام إلى كتيبة منتخب ممتع سابقًا، يبحث عن مغامرات كروية غائبة.
تطور بطيء للمنتخب المغربي رفقة بلهندة الشاب وزملائه، وتطور كبير له على مستوى الأندية. أسهم في إحراز بطولة تاريخية للدوري الفرنسي مع مونبلييه، وسط مناخ عنصري مسموم وصل ذروته بخروج تسريبات لمدرب المنتخب الفرنسي والنجم السابق لنفس نادي بلهندة، «لوران بلان»، يؤيد فيها قرارات تمييزية لاتحاد الكرة الفرنسي بتحديد نسب محاصصة (كوته) بين اللاعبين في المنتخبات الفرنسية بمراحلها المختلفة، على أساس لونهم وأصلهم، ليبدو أن اختيار بلهندة «الذي بدا تراجعًا» للمغرب كان القرار الأمثل.
ظل بلهندة يرشَّح لأفضل لاعب بالدوري الفرنسي، ويحصد جوائز فردية كأفضل محترف إفريقي، قبل أن ينتقل إلى شالكة الألماني، ومنه في خطوة مفاجئة للجميع إلى الدوري الأوكراني مع دينامو كييف، ثم العودة معارًا إلى نيس الفرنسي، ليحقق المركز الثالث في الدوري، ويتأهل معه إلى «يوروبا ليغ».
لم يستمر الهدوء، وكان انتقالًا مفاجئًا آخر لمن تفنن في الترحال: المحطة الجديدة جالتا سراي التركي، مصرحًا بأنه قادم لمساعدة النادي ليعيد سيطرته على البطولات المحلية.
انتقالات ملفتة للاعب كان من أفضل لاعبي الدوري الفرنسي، ومن أفضل صناع اللعب في القارة، انتقالات تجعلنا نتأمل في تفضيلات بلهندة ومزاجه غير المستقر، وتثير الشك حول: لماذا نحلم مع بلهندة الآن وهو في الثامنة والعشرين من عمره؟ ولماذا نصدق أنه خُلِقَ كلاعب كرة قدم مغربي من أجل لقطة للذكرى حان وقتها؟
إذا كنت تريد أن تصبح لاعبًا مغربيًّا عظيمًا، فعليك أن تحرز الأهداف الاستعراضية والأكروباتية.
في صيف 1994، وفي طقس حار جدًّا، ومباريات صباحية تحت الشمس الحارقة من أجل ضمان مكاسب حقوق البث، استضافت أمريكا كأس العالم، ووقعت المغرب في مجموعة تضم بلجيكا والسعودية وهولندا.
في اللقاء الثاني أمام السعودية، وبعد هزيمة أولى من بلجيكا، تأخر المغرب بهدف لسامي الجابر، أصبح المنتخب المغربي قريبًا من توديع البطولة.
أرسل الدفاع المغربي كرة طولية شتتها الدفاع السعودي، وصلت إلى أحمد بهجا، لاعب المغرب المهاري بجوار خط التماس. توقع الجمهور أن يتركها تخرج، ويستفيد من رمية التماس، لكنه أوقف الكرة على الخط، وبلمسة صغيرة للأمام أطاح بلاعب المنتخب السعودي خلفه زاحفًا خارج الملعب، وانطلق في اتجاه منطقة الجزاء، وبسهولة جديدة تجاوز المدافع الثاني، واتجه للمرمى قرب خط نهاية الملعب، حتى وصل إلى الحارس السعودي بعد فاصل من المراوغة دون أن يلمس الكرة، فقط يوحي بأنه سُيخرجها من قدمه، فيسقط مدافع جديد أمام مرماه، ويخاف الآخرون من الانقضاض حتى لا يلاقوا مصير الزاحف في بداية اللقطة.
أخرج بهجا التمريرة لزميله أمام الشباك ليتعادل المغرب، ويجري الجميع على بهجا، ويجرى هو محتفلًا بنفسه، فيضطر الشاوش مُحرز الهدف لمطاردته بعد أن سرق بهجا منه اللقطة، وسرق معها أعيننا.
عادت السعودية وسجلت مجددًا عن طريق فؤاد أنور، وفازت، بل وصعدت إلى الدور الثاني. وسجل سعيد العويران اسمه بهدف تاريخي في المباراة التالية أمام بلجيكا، وودع المغرب البطولة، ولكن ظل ما فعله بهجا عالقًا في الذهن لأن ما فعله لا نره كثيرًا من فرق عربية في كأس العالم، لاعب ذهنه لا يشوبه قلق وسط هذا التجمع الكروي الضخم والمهيب، أدَّى استعراضًا وكأنه في الكوكب المراكشي يلعب وسط عشاقه.
بعد البطولة انتقل إلى الأهلي السعودي، ومنه إلى اتحاد جدة السعودي، وظلت الأسطورة تنتشر وسط المشجعين: السعودية اشترت بهجا «للتستر على الإهانة». ظلت المتعة والألعاب الأكروباتية محتكَرة لدى الدوري السعودي، واختفت أخبار بهجا تدريجيًّا رغم أنه ظل يلعب حتى مطلع الألفية، وبقيت الذكرى فقط.
في الوقت الحالي نسمع أخبارًا صحفية متضاربة عن أن نادي جالطا سراي التركي يبحث في الاستثمار بيونس بلهندة في الدوريات الخليجية، ليس غريبًا أن نجد بلهندة بقميص اتحاد جدة المهتم به من سنوات، ليرتدي نفس قميص بهجا السابق، لكن لا يزال يتبقى له «لقطة عمره» الكروي.
على ملاعب رملية مليئة بالمطبات والثقوب كنا نتدرب أطفالًا في مركز شباب غرب حلوان في حي ذي كثافة عمالية بجنوب القاهرة. أضعنا مئات الفرص المبشرة حتى نصنع لقطة مثل بهجا، تعثرت الكرة في الحصى الصغير في الأرض، دخل خصوم علينا بعنف أطاحوا بنا على الأرض نحن والكرة، خسرت مباريات عدة بسبب الرغبة في الاستعراض مثل بهجا.
بعد لقاء مع مركز شباب منافس، أوقفنا مدربنا، كنا ثلاثة بالفريق نعشق الاستعراض، كتم غيظه من الخسارة، وبصوت هادئ خاطبنا: «أنا بقول أجيب قفص عصافير احطكو فيه، واحد ياخد الكورة على صدره، والتاني ينطقها على فخده، وتنسوا من موضوع الماتشات».
تركنا ورحل، والمفاجأة أنه لم تضايقنا كلمته، وظللنا نحن الثلاثة نحاول سرقة اللقطة في الماتشات، حتى أصبحت هذه اللعبات أهم لدينا من المكسب، بل كنا نبدأ في عدد الكرات التي أصبنا بها العارضة في اللقاء مرددين بفخر: «سمعت رنة العارضة كام مرة انهاردة؟».
الحركات الأكروباتية تورَّث لدى لاعبي المغرب. في يناير 1998 أحرز مصطفى حجي هدفًا في المنتخب المصري من لعبة خلفية مزدوجة. من يومها، صرنا (كمصريين) كلما شاهدنا لاعبًا يصنع حركة مماثلة نقول صنع «حركة حجي».
وضعتُ حركة حجي هدفًا لي وأنا مراهق، راهنت على تنفيذها، فسقطت كثيرًا محتضنًا «النجيلة» العشبية العالية وغير المهذبة دون حتى أن ألمس الكرة الطائرة، وأنقذني عدم تهذيبها من مصير التونسي الهادي بن رخيصة الذي حُكي لنا كذبًا أنه توفي في الملعب نتيجة تنفيذه كرة هوائية مزدوجة، واكتشفنا بعدها أنه توفي نتيجة أزمة قلبية. وأنت مراهق صغير يتفنن الأهل والأقارب والمدربون في بث الخوف في قلبك من أي حركة أو نشاط غير متوقع غير متفق عليه.
الهدف المغربي كان الوحيد الذي دخل مرمى مصر في بطولة 98 التي فزنا بلقبها، وجعلنا ننتظر خمسة أشهر لنرى حجى في نفس العام في كأس العالم بفرنسا.
في المباراة الافتتاحية للمغرب في مواجهة النرويج، وفي مجموعة تضم البرازيل وأسكتلندا، انطلق المنتخب المغربي كعادته يطمع في نقاط اللقاء الأول كاملة.
كرة طويلة في اتجاه حجي، يركض مسرعًا بالكرة، ويدخل منطقة الجزاء، يتراجع معه المدافع، يحرك حجي قدمه اليمنى فوق الكرة، ويتحرك بجسده لتكون الكرة على يساره، تتوقع أنت هنا مع المدافع أن «التغزيلة» انتهت هنا، يميل المدافع بجسده لاهثًا يحاول غلق فرص حجي للعب بيساره، يحرك حجي الكرة بيساره في اتجاه قدمه اليمنى، ليخرج تمامًا المدافع من اللعبة، يصاب بالتخشب، ويطلقها حجي بيمينه في الشباك، افتتاح لاستعراض طويل في البطولة، واقتراب من الصعود بعد الفوز الساحق في المباراة الأخيرة بثلاثية على أسكتلندا، ثم توديع البطولة بعد تخاذل برازيلي مفضوح أمام النرويج، والسقوط أمامها في اللقاء الأخير ليصعدا معًا إلى الدور الثاني.
ودع المغرب، وظلت عالقة في أذهاننا لقطة مدربهم الفرنسي «هنري ميشيل» يركل كرسي الاحتياط من الغضب، لكن الاستمتاع بالعرض المغامر واللقطات المبدعة لجيل حجي ونور الدين نايبت علق في رؤوسنا كذلك.
أما بلهندة، فقد واجه منذ ما يقرب من ستة سنوات، فريق مارسيليا، البطل القديم للدوري الفرنسي.
انتقلت الكرة من على الأطراف لتصل إليه، هيَّأها بصدره، وقبل أن يتركك تفكر في ماذا سيصنع، أفلت قدمه من على الأرض طائرًا، وركل ضربة مزدوجة بقدمه تعانق الشباك، وتكتب هدفًا ثالثًا قاتلًا لمونبلييه يقربه من اللقب التاريخي.
قبل أيام من انطلاق كأس العالم 2018 أنهى المغرب استعداداته بمباراة ودية مع سلوفاكيا.
بهدف مباغت تأخر المغرب، قبل أن يعود متعادلًا، وقبل النهاية، وصلت الكرة العرضية التي شتتها المدافع السلوفاكي إلى بلهندة على حدود منطقة الجزاء، فضغطها بصدره إلى الأرض، ومال بجسده يسارًا قبل أن يضربها بيمينه كالمطرقة من أعلى إلى أسفل، بشبه مقصية أرضية تتحرك الكرة للشباك، هدف للكاميرا يخبرنا فيه بلهندة أنه جاهز لإمتاعك وصنع لقطة تحفظ رفقة بهجا وحجي، هدف يعلن جاهزية صانع الألعاب المغربي لقيادة الثلث الأخير في منتخب ممتع، رفقة زميله مبارك بوصوفة.
في أثناء المراهقة تكررت على مسامعنا في فرق الناشئين بمراكز الشباب وأندية الدرجة الثالثة ودوري القطاعات، تعليمات تشبه ما ردده المدرب صاحب الفيديو المشهور على مواقع التواصل: «عرفت تشوط من بعيد شوط، عرفت تجري اجري، إنما أهم شيء لمس الكورة من الفيرست تايم، الملعب الكبير هيقطع نحبك في الربع ساعة الأولاني، منتش داري عليه مش عيب، ما هيَّ الدنيا كده».
تعليمات محفوظة جعلتني منذ الصغر أعرف أن «هي الدنيا كده»، شكلت وعينا الكروي، وتناسبت مع منتخبنا المصري ذي التاريخ الحريص المتحفظ في نهائيات كأس العالم، المؤمن بأن كثيرًا من الحذر والتنظيم يحافظ على الأمل الضعيف في المزاحمة على الحلم، جعلتنا نستمتع بالحذر.
لكن ظللنا نبحث أيضًا عن متابعة تنويعة جديدة للكرة، تشبه مغامرة بلهندة ورفاقه في المجموعة النارية رفقة إسبانيا والبرتغال وإيران، سيقود بلهندة منتخبًا أقل ما تعلمه من خبراته السابقة هو الحذر، على موعد مع التسرع والمغامرة، يؤمن بأن الفرص القصيرة لا تُخاض إلا بروح انتحارية، فريق في رحلة البحث عن صنع لقطة جمالية، مقطع صغير ليوتيوب سنتداوله بعدها لسنوات طويلة، لوحة فنية تخلد رحلتهم القصيرة. لا تفوتك اللقطة، لكن حافظ على مسافة تحفظك من التعلق بالأمل والوعود الكبيرة وقسوة السقوط الدراماتيكي.
بسام مرتضى