تمامًا، دائمًا، أبدًا: اللغة تكشف اكتئابك
كل شيء يتغير بوجود الاكتئاب. تتبدل ردود أفعالك ونظراتك، وحتى وضعية نومك. لا شيء يبقى على حاله ما دام الاكتئاب قد طرق جدران عالمك. يترك أثره في كل شيء، لكن محاولاته في أن يثبت وجوده في حياتك تظهر جليةً في لغتك وطريقة كتابتك، أي ما تُعبِّر به عن نفسك لغويًّا، فيخلق لنفسه لغة مستقلة عن كل اللغات ووسائل التعبير.
لغة الاكتئاب تؤثر أحيانًا بقوة في الآخرين المحيطين بالمصاب بالاكتئاب. تأمّل مثلًا تأثير شِعر «سيلفيا بلاث» أو كلمات أغاني «كيرت كوبين» في العالم، كلاهما أنهى حياته بسبب المعاناة من أمراض نفسية.
التكنولوجيا كوسيلة لتحليل الخطاب
حاول العلماء منذ فترة طويلة أن يفهموا بدقة العلاقة بين الاكتئاب واللغة، وتساعدهم التكنولوجيا الآن على توضيح المفاهيم والوصول إلى الصورة الكاملة.
وضّحت دراسة جديدة نُشرت في مجلة «Clinical Psychological Science»، وأجراها الباحثان «توم جونستون» ومحمد الموساوي، أن هناك فئة من الكلمات تساعد بدقة على معرفة إذا ما كان شخص ما يعاني الاكتئاب.
في مقاله الذي نشرته صحيفة «الإندبندنت»، يشرح الموساوي أنه في الماضي كانت التحليلات اللغوية للنصوص تُنفّذ عن طريق القراءة وتدوين الملاحظات بواسطة الباحثين، أما الآن، فإن طُرق تحليل النصوص الإلكترونية تسمح بمعالجة مجموعة هائلة من البيانات خلال دقائق معدودات، الأمر الذي ساعد الباحثين على تحديد سمات لغوية ربما لم يكن بمقدور الإنسان أن يلاحظها، إضافة إلى حساب النسبة المئوية لتكرار الكلمات، وتحديد فئاتها، ومتوسط طول الجملة، وكثير من المقاييس الأخرى.
وحتى الآن، فإن المقالات الشخصية والمذكرات التي كتبها أشخاص مصابون بالاكتئاب شكّلت أهمية في هذه الدراسة، مثل كتابات سيلفيا بلاث وأغاني كيرت كوبين. ونتائج هذه البحوث أظهرت اختلافات واضحة وجوهرية بين لغة المصابين بالاكتئاب وغير المصابين.
بحسب الموساوي، يمكن تقسيم اللغة إلى قسمين:
- محتوى
- أسلوب
المحتوى هو ما يُعبِّر البشر عنه، أي المعنى أو الأمر الذي يرغبون في توضيحه. لن يُفاجأ أحد حين يعلم أن أولئك الذين يعانون أعراض الاكتئاب يستخدمون عددًا كبيرًا من الكلمات التي تحمل مشاعر سلبية، مثل «وحيد» و«حزين» و«بائس».
هل الاكتئاب يجعل الناس يستغرقون أكثر في ذواتهم، أم الاستغراق في الذات يؤدي إلى الاكتئاب؟
المثير للاهتمام هو استخدامهم للضمائر. فنلاحظ أن المكتئبين يستخدمون «أنا» و«نفسي» و«لي» بكثرة لدرجة أن الأمر يكون ملحوظًا، في حين أنهم نادرًا ما يستخدمون ضمائر الغائب مثل «هم» أو «لهم» أو «هي».
هذا النمط من استخدام ضمير «الأنا» يشير إلى حقيقة أن الأشخاص الذين يعانون الاكتئاب يركزون على أنفسهم أكثر، ولا يستطيعون النظر إلى العالم. وهم كذلك، نفسيًّا، أقل ارتباطًا بمن حولهم.
تتبُّع استخدام الضمائر يُعد وسيلة موثوقة لتحديد الاكتئاب أكثر من تتبع الكلمات العاطفية السلبية.
نعلم أن الاستغراق في الذات والعزلة الاجتماعية سمتان مشتركتان من أعراض الاكتئاب. لكن القائمين على البحث لا يعرفون إذا ما كانت هذه النتائج تعكس الاختلافات في التركيز المُبالَغ فيه، أم في أسلوب التفكير. بمعنى: هل الاكتئاب يجعل الناس أكثر استغراقًا في ذواتهم، أم الاستغراق في الذات يؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب؟
حتى أسلوبنا يتغير بالاكتئاب
أسلوب اللغة يتعلق بكيفية التعبير عن أنفسنا. يوضح الموساوي أن التجربة بُنيت على إجراء تحليل كبير لبيانات النصوص الموجودة في 64 منتدًى مختلفًا للصحة النفسية على الإنترنت، وفحص أكثر من 6400 فرد.
وجد الباحثون أن استخدام الكلمات التي تعبِّر عن المفاهيم المطلقة أو الاحتمالات، مثل «دائمًا» أو «لا شيء» أو «تمامًا»، يُعد علامة أكثر وضوحًا ودلالةً على الاكتئاب من استخدام الضمائر أو الكلمات العاطفية السلبية.
في البداية، توقع الباحثون أن المصابين بالاكتئاب، أو الذين يعانون أعراضه الأولية، تكون نظرتهم إلى العالم مبنية على الثنائيات دائمًا: أبيض، أو أسود. وهذه النظرة تنطبع على أسلوبهم اللغوي، فاستخدام «الكلمات المطلقة أو المجردة» يزيد بنسبة 50% في المنتديات المعنية بحالات القلق والاكتئاب أكثر من غيرها، ويزيد بنسبة 80% في المنتديات المعنية بالأشخاص ذوي الميول الانتحارية.
التفكير المجرد يلعب دورًا في حدوث نوبات الاكتئاب.
أيضًا، شمل البحث تحليلَ محتوى منتديات التعافي من الاكتئاب، التي يكتب فيها أشخاص يشعرون بتحسن في حالتهم النفسية مشاركات وقصصًا إيجابية ومشجعة عن رحلة تعافيهم.
هنا وجد الباحثون أن الكلمات العاطفية السلبية استُخدِمت بنسبة مشابهة للمنتديات الأخرى، في حين ارتفع معدل استخدام الكلمات العاطفية الإيجابية، مثل «حب» و«سعادة» و«تعاطف»، بنسبة 70% تقريبًا. ورغم أن استخدام «الكلمات المطلقة أو المجردة» ظَل كثيرًا، فإنه كان أقل مما كان عليه في منتديات القلق والاكتئاب.
الأهم من ذلك أن الذين عانوا من الاكتئاب في السابق هُم الأكثر عرضةً للإصابة به مرةً أخرى. ولذلك فإن ميلهم إلى التفكير المطلق أو المجرد، حتى عندما لا يعانون من أعراض الاكتئاب، علامة على أن التفكير المجرد يلعب دورًا في حدوث نوبات الاكتئاب.
لا نعرف حتى هذه اللحظة ما إذا كان للأشخاص ذوي القدرة الأكبر على التفكير المجرد قابلية أعلى للإصابة بالاكتئاب، أم أن الاكتئاب يتضمن في تأثيراته توجيه الإنسان ناحية التفكير المجرد أكثر فأكثر.
أدوات الكشف المبكر
يوضح الموساوي أيضًا أنه يُحتمَل أن يستخدم شخص غير مصاب بالاكتئاب كلمات ذات دلالات اكتئابية، لكن في نهاية الأمر ما يؤكد الإصابة هو شعور الشخص بنفسه وبمن حوله بمرور الوقت.
يبذل الباحثون جهودًا مُضنية لكشف أعراض الاكتئاب مبكرًا، هذا الوحش الذي يسيطر على الإنسان ويفتك بروحه. إذ تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 300 مليون شخص في العالم يعيشون مكتئبين، وهذه النسبة تزايدت أكثر من 18% منذ عام 2005.
إتاحة المزيد من الأدوات والوسائل لتحديد الإصابة بالاكتئاب، والكشف المبكر عن الأعراض التي تثير القلق، والتدخل المبكر، هي بالتأكيد مهمة ينظر إليها كثير من الباحثين بقدر كبير من الجدية. الهدف دائمًا تحسين الصحة العامة، والتدخل السريع قبل حدوث حالات الانتحار أو الانغلاق على النفس. إنها حرب لا تهدأ مع عدو لا نعرف عنه الكثير حتى الآن.
مريم ناجي