يشتهي أن يلاقي الحقيقة: أدباء اقتربوا من الموت، فكتبوا عنه
يزعجنا الموت، ليس لأننا نخافه بقدر أننا لا نفهمه. كيف يبدو الأمر على الجانب الآخر من النهر؟ لا أحد يستطيع أن يجزم. يختلف تصوُّرنا عن الموت باختلاف معتقداتنا واتجاهاتنا، فهناك من يراه مرحلة انتقالية إلى الحياة الأبدية، وهناك من يراه الفناء ولا شيء بعده.
شئنا أم أبينا، فإن الموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا الكون. طوال الوقت، نحاول جاهدين أن ندفع الموت عن عالمنا. نفكر في الاستنساخ وطرق حفظ الأجساد، نسهر في معامل الأبحاث مُفتِّشين عن وسائل لتجنُّب الشيخوخة، نحقن أجسادنا بالأدوية واللقاحات، لكن يبدو أن أيًّا من ذلك لا يفلح. ما زال الموت يجد طريقه إلينا.
عدد من الأدباء مروا بتجربة الموت. علموا أن النهاية اقتربت أو أُنقِذوا في اللحظات الأخيرة. حاول كلٌّ منهم أن ينقل إلينا التجربة، أن يجعلنا نعيش معه تلك اللحظات ونطَّلع عليها. بالاقتراب من تلك الكتابات، سندرك كم أننا جميعًا نختلف في رؤيتنا لذلك الشبح الغامض.
أمل دنقل: في الموت التأمُّل
في تجربته كان أمل دنقل مختلفًا. لم ينافق أحدًا طوال حياته، أو ينطق بغير ما في قلبه، فلِمَ يتصنَّع في لحظاته الأخيرة؟
أُصيب أمل دنقل بالسرطان في سن الأربعين. وبعد ثلاث سنوات، توقف العلاج، وأعلن الأطباء أن الرحلة شارفت على النهاية.
في الفترة الأخيرة من حياته، سكن أمل الغرفة رقم (8) في المعهد القومي للأورام. سجَّل لنا لحظاته تلك في ديوان شعر يحمل اسم «أوراق الغرفة 8». صوَّر أمل تجربته على هيئة أوراق تتساقط من شجرة الحياة، فمثَّلت كل قصيدة تأمُّلًا لديه.
في الديوان نتأمل حديث شخص يخط طريقه نحو الموت. لا يخجل أمل من أن يُظهِر أيًّا من بواطن نفسه في شعره. وهنا، في حديثه الأخير قبل الموت، يحدثنا أمل عن هواجسه وآماله. تجربة كهذه جعلته يرى الأشياء بعين المتأمل، والتي زالت عنها كل الإطارات. الخيل ليست العاديات ضبحًا. سفينة نوح لم يجرِ إليها سوى الجبناء. صلاح الدين رحل وتركنا في الهزائم المتكررة. الأشياء التي نقدسها تفقد قدسيتها في لحظات كهذه.
امتزجت عين أمل المتأملة بشكل عام، بعين المريض الذي يرقد على سريره دون حراك، بينما يخبره الأطباء بأنه لا علاج مجديًا لمرضه. في مثل تلك المواقف، يحاول الإنسان أن يتظاهر ببعض الشجاعة، ربما رغبةً في طمأنة نفسه أولًا، أو رغبةً في تسكين الخائفين من حوله. «لا تحزنوا عليَّ، سأرحل إلى عالم أفضل»، «لا تبكوا، سأرتاح أخيرًا من الألم»، جمل نسمعها كثيرًا على ألسنة المُقبلين على الرحيل. لكن أمل في تجربته كان مختلفًا. لم ينافق أحدًا طوال حياته، أو ينطق بغير ما في قلبه، فلِمَ يتصنَّع في لحظاته الأخيرة؟
مُقبلًا على الموت، يتخلل العجز جسد أمل. يرى نفسه مقيدًا إلى سريره بالمستشفى كأن كليهما جماد.
«هذا السرير
ظنني مثله فاقد الروح
فالتصقت بيَ أضلاعه
والجماد يضم الجماد ليحميَه من مواجهة الناس»
عاش بعين التأمل، فجاءت تجربته مع الموت على هيئة أفكار متناثرة. جلب الموت داخله صراعًا حول كل شيء. قلب موازين عقله، وجعله يعيد التفكير في الأشياء من حوله. نقل لنا أمل تجربته دون استحياء من تناثرها. يتأمَّل كل ما يتحرك من حوله في المستشفى، ويذكِّره ذلك البياض الطاغي على كل شيء بالكفن، فيكتب لنا قصيدة «ضد من». ينظر إلى باقات الورد المُرسَلة إليه من الزوار، فيكتب عنها قصيدة «زهور».
بعد قليل يرى نفسه مُقيدًا إلى سريره في المستشفى، ملتصقًا به، فيكتب قصيدة «السرير». يمر به ديسمبر، وطقسه الباهت، فيكتب لنا ما أثاره في نفسه، في قصيدة تحمل اسم «ديسمبر».
في ورقته الأخيرة، حدَّثنا أمل عن كل من رحلوا وأثقلوا كاهله. كانت هذه قصيدته الأخيرة، وكانت النهاية تقترب، فربما أراد أن يعزِّي نفسه بأنه ذاهب إلى أُنس من افتقدهم في الدنيا. سمَّى القصيدة «الجنوبي»، وكأن هؤلاء الذين رحلوا هم من شكَّلوه. كانت جملته الأخيرة:
«فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة، والأوجه الغائبة»
اقرأ أيضًا: رسائل أمل دنقل العاطفية: الشاعر يمارس طفولته ببراءة وحرارة وصدق
رضوى عاشور: لا وقتَ لديَّ لهذا الهراء
كان عمل رضوى عاشور الأهم هو الكتابة، ولم تكره شبح الموت الأسود إلا لأن وجوده حولها زادها شكوكًا بقدرتها على الكتابة مرة أخرى.
كتبت رضوى عاشور «الصرخة» في عام 2014، وكان آخر ما سطرته في الكتاب بتاريخ السابع من سبتمبر، قبل أن ترحل عن عالمنا في نوفمبر من نفس العام.
كتبت رضوى «الصرخة» في أعتى مراحل مرضها. بشكل ما، كانت تدري أن النهاية تقترب، فقررت أن تسجِّل بقلمها تلك اللحظات. من السطور الأولى ستدرك أن رضوى تعاملت مع الموت كأنه منافس لها في مسابقة من مسابقات الجري. أعطى أحدهم صافرة البدء، فتسابق الاثنان. من وقت إلى آخر ينهك رضوى التعب، فتقف لالتقاط أنفاسها، تنظر إلى خصمها لتجده قد سبقها، فتستجمع قواها، وتنطلق من جديد.
كما يظهر لك في صفحات الكتاب، لم تتوقف رضوى لتتأمَّل الموت نفسه. لم تفعل مثل كثير من الأدباء وتتعامل مع الموت كأنه تمثال تدور حوله بانبهار، وتنقل لنا تأملاتها عنه. كان الموت لرضوى مثل شبح أسود ظهر في منتصف الطريق، فعرقل جدول أعمالها.
تتخيَّلها طوال الكتاب تنجز أعمالًا مهمة، ثم يظهر لها ذلك الشبح الأسود، فتتأفف كأنها تقول: «أنت مرة أخرى؟»، وتبحث سريعًا عن طريق آخر تسلكه لتكمِل أعمالها.
كان عمل رضوى الأهم هو الكتابة، ولم تكره الشبح الأسود إلا لأن وجوده حولها زادها شكوكًا بقدرتها على الكتابة مرة أخرى، وهو الهاجس الذي ظلت تذكره لنا طوال صفحات الكتاب.
ففي الفصل الأول من كتابها سطرت: «أريد أن أتحدث عن أمرين: ...، وثانيهما شكوكي في قدرتي على الكتابة، والتي سيحدد القارئ وحده إن كان لها ما يبررها، أم أنها مجرد هواجس بلا أساس». رضوى عاشور، الحائزة على جوائز عدة ومباركات صادقة من القرَّاء، جعلها الاقتراب من الموت تتشكك في قدرتها على الإمساك بالقلم مرة أخرى.
ولأنها تعاملت معه كما السباق، جعل الموت رضوى تُسارع في إخبارنا عن كل ما لم تخبرنا به من قبل. عكفت تنقل لنا ما أثقلها خلال رحلتها، وكأنها أرادت أن تتحرر قبل المواجهة الأخيرة. في كل فصل، كانت تلتقط من فوق كتفها همًّا مختلفًا تلقيه لنا، فحدَّثتنا عن احتجاجات جامعة القاهرة، عن عائلة علاء عبد الفتاح ونضالاتهم، عن حادث عربة الترحيلات، وما أثاره في نفسها، وعن غيرها كثير من الهموم التي امتلأت بها نفسها.
جاءت كتابتها خفيفة وجملها سريعة. تتحدث عن شيء، ثم تتذكر شيئًا آخر، فتحدثنا عنه، ثم وسط كل ذلك تخبرنا عن هاجس يسيطر عليها، أو أمنية ترغب في تحقيقها. صحبتنا معها في رحلتها بكل تفاصيلها. لم تذكر الموت إلا قليلًا، ولم تكن التجربة بالنسبة إليها سوى عامل زادها سرعة وإصرارًا على إنجاز مزيد من المهمات.
أسمت كتابها «الصرخة» كأنها أرادت أن تُطلِقَ صرختها الأخيرة، وربما تكون قد لخَّصت لنا إحساسها في تلك المرحلة حينما كتبت في فصلها الأول واصفةً لوحة الصرخة:
«تبقى اللوحة على طريقة الفن، تتجاوز هذا الظرف الشخصي لتجسد تجربة دالة لشخص مُفرد ينتبه فجأة إلى رهبة الوجود ووحشته وتوحُّشه، فيرتجف هلعًا وهو يتلقط صرخته أو يرددها».
أحمد خالد توفيق: الأمر ليس كما نظن
كاتب الشباب الأول كما يسميه بعضهم. عندما توقف قلبه للمرة قبل الأخيرة، كتب لنا عن التجربة في مقاله المنشور في كتاب «قهوة باليورانيوم».
جميعنا لدينا تصورات مختلفة عن الموت قد تكون نابعة من محض تخيلاتنا للأمر. الصدمة أن نكتشف أن لا شيءَ من ذلك حقيقي. أحمد خالد توفيق أيضًا كانت لديه تصوراته عن الموت. موت أبطاله كان دائمًا ملحميًّا، مصحوبًا بآلام شديدة في أحيان، ومصحوبًا برؤىً وأشباح في أحيان أخرى.
عندما زاره الموت في عقر داره، تحدث كاتبنا عن الأمر ببساطة. لم تجعله التجربة يرى الأمور بعين مختلفة مثلًا. لم تصبه كثرة التأمل كما أصابت غيره. لم تنقلب موازينه. أخذ الأمر كما هو، ورواه لنا كما هو أيضًا. نقله مرحلة ما بعد التجربة كان عمليًّا وخاليًا من الفلسفة. «أُصبتُ بالاكتئاب وزاد الدوار وصعُب التنفس»، هكذا أخبرنا. ربما لأن بالنسبة إليه كان الموت دائمًا زائرًا منتظرًا، يذكره ويكتب عنه لمرات يصعب علينا حصرها.
لم يُظهِر أحمد خالد توفيق مزيدًا من الحكمة أو الفلسفة بعد اقترابه من الموت لتلك الدرجة. مرت به التجربة، وتركته لنا كما هو، وكأنها عبرت خلاله في سلاسة.
البساطة كانت تلخص التجربة نفسها أيضًا. يخبرنا أنه لم يرَ سوى الظلام. «أنت هنا، أنت لم تعد هنا». أين الأشباح؟ أين مغامرات الانتقال إلى العالم الآخر حتى ولو بشكل مؤقت؟ لا شيء.
ربما أكبر صدماتنا تكمن في اكتشافنا أن الأمور في الحقيقة ليست كما ظنناها دائمًا. الموت شيء مُبهَم تكثر حوله الأساطير، لكننا وجدنا من ذهب إليه وعاد ليخبرنا عنه.
«الموت يأتي بسرعة فائقة، فلا تراه قادمًا.. ومن ماتوا لم يجدوا فرصة ليخبروا الآخرين بهذا. أنا من القلائل الذين عادوا، ويمكنهم أن يؤكدوا لك ذلك!»
قد يهمك أيضًا: أحمد خالد توفيق: من المحيط إلى الخليج
علاء خالد: الموت يكشف سر الحياة
أصبح الموت صديق علاء خالد كما كتب في كتابه «مسار الأزرق الحزين»، ومع الوقت أصبح يرى كل شيء من خلال أعين صديقه ذاك.
بالنسبة إلى علاء خالد، كانت تجربة الموت كاشفة. اقترب خالد من الموت عندما أخطأ الطبيب، وثقب له أمعاءه في عملية جراحية كان من المتوقَّع أن تكون بسيطة. دخل خالد قسم العناية المركزة، وظل فيه أسابيع. وفي كتابه «مسار الأزرق الحزين»، حاول أن ينقل إلينا تجربته وهو بين الحياة والموت.
قادت تجربة الموت كاتبنا إلى سلسلة من التساؤلات قادته بدورها إلى سلسلة من الأجوبة. جاءنا الكتاب في جمل قصيرة، وكلمات هادئة تجبرك على قراءتها ببطء وسكون. ربما عَكَس ذلك حالة علاء خالد حينها، فرغم أنه نجا من الموت، فإن تلك التجربة ظلت تشكِّل إطارًا حوله يرى بداخله كل شيء في الحياة. «بدأت الحياة تفتح لي مساحات غير منظورة بداخلها، كأنها تودعني، بعد أن رأت هذا الغريم الضيف»، هكذا كتب لنا.
لم تُعنوَن فصول الكتاب لأنه تحدث في كل منها عن كل شيء. حدثنا بوضوح عن كل ما أثاره الموت في نفسه، من تأملات وذكريات ورؤية مختلفة لأشياء لم يتنبه إليها من قبل. أخبرنا: «هذا الامتحان وفَّرت له براءةُ الصدفة مناخًا مناسبًا حتى يجوب كل أراضي الأزمات في نفسي بحثًا عن الأحجار التي تعوق مرور المياه في نهر الوجود».
وهو ما رأيناه بكل صدق عبر صفحات كتابه. كانت تجربة خالد مع الموت مثالية، منحته عينًا ثاقبة، ووفرت له الوقت الكافي للتأمل. حدثنا عن الموت بصدق. أخبرنا بأنه من قبل كان يثير في نفسه الهلع، لكن الاقتراب من الموت نفسه أزاح تلك الحدود. أصبح الموت صديقه كما كتب لنا، ومع الوقت أصبح يرى كل شيء من خلال أعين صديقه ذاك.
اقرأ أيضًا: الشاعر لا يرى في الموت شاعرية: من صرخ فرحًا لمولد اللون الأزرق؟
جلب لنا «مسار الأزرق الحزين» مصدرًا شديد اللطف لعدد من التأملات. كان الكاتب يبدأ كل فصل بتأمل بسيط يقوده بدوره إلى سؤال، ثم يقوده السؤال إلى ذكرى، وتقوده الذكرى إلى تأمل أكبر. وفي نهاية كل ذلك يتوصَّل إلى الإجابة. في كتابة كهذه سترى بعينيك كيف أن طرح الأسئلة يقودنا دائمًا إلى أجوبة. الجهد المُضني في البحث والتأمل يُكلَّل دائمًا براحة العثور على إجابة. منحنا خالد بتجربته قدرةً على رؤية أفكارنا مكتوبة. رأينا سيل الأفكار الذي يأتينا في كل محنة، متضاربة وغير منسقة ومجهدة، لكنها تجتمع في النهاية لتصنع نسيجًا واضحًا من الركائز التي تشكلنا، تمامًا كما شكلت كاتبنا هنا.
شروق مجدي