الكتابة باسم مستعار: هل تهم معرفة الكاتب الحقيقي؟
اسم الكاتب علامة تجارية في حد ذاتها. لكن هناك كتَّابًا تخلُّوا عن أسمائهم مؤقتًا، فلم يضعوها على كتبهم لأسباب مختلفة، ليكتبوا بحرية ويتخلصوا من العبء الذي تضعه أسماؤهم على ظهورهم، أو لأسباب جندرية، أو لئلا يتقيدوا بنجاحهم السابق. فهل تميُّز كاتبك المفضل إذا نَشر باسم آخر؟
في زمن كانت الكتابة فيه مهنة ذكورية بالأساس، وبالتحديد في 30 أكتوبر 1811، صدرت رواية «العقل والعاطفة» للكاتبة الإنجليزية «جين أوستن»، أحد أهم الأصوات الأدبية في القرن الأخير، تحت اسم «سيدة».
كانت جين في الخامسة والثلاثين حينما صدرت الطبعة الأولى من الرواية، وإن كانت قد كتبت الرواية في الأصل في شكل رسائل، وهي في التاسعة عشر.
لم تكن الساحة الاجتماعية وقتها تسمح بظهور كاتبة بشخصيتها. ما فعلته جين كان ثوريًّا بطريقة ما، لأن الاسم الذي اختارته كان معبِّرًا عن جنسها.
في الواقع كتبت جين كل رواياتها تحت أسماء مستعارة. فبينما كانت روايتها الأولى صادرة تحت اسم «سيدة»، جاء على غلاف الرواية الثانية: «من الكاتبة التي كتبت عقل وعاطفة».
لم تكن شارلوت برونتي أسعد حظًّا من جين. عندما بعثت برونتي برسالة إلى أحد الناشرين في هذه الفترة، مرفقة بها مسوَّدة بمجموعة أشعارها التي رأت أنها تستحق النشر. كان رد الناشر عليها أن «العمل الأدبي ليس مما يجب أن تهتم به السيدة المحترمة».
رحلة البحث عن إيلينا فيرانتي
لا أحد يعرف من هي «إيلينا فيرانتي»، الكاتبة وصاحبة الرواية المتسلسلة «صديقتي المذهلة» (2011)، والتي تدور حول صديقتين تختفى إحداهما وتمحو كل أثر لها. صدر أربعة أجزاء من الرواية، وذاع صيتها في العالم، تُرجمت إلى عدة لغات من بينها العربية.
أعلنت إيلينا في أحد حوارتها الصحفية أنها كانت معجبة بمجهولية جين أوستن.
في 2016، اختارت مجلة «Time» الكاتبة الإيطالية إيلينا ضمن أكثر مئة شخصية مؤثرة في العالم. أصبح لها ملايين المعجبين، والناشر الإيطالي لا يفصح بأي معلومات عنها. كل ما نعرفه عنها أنها سيدة تبلغ 75 عامًا، تنشر مقالات أسبوعية في «The Guardian» ولا توجد أي معلومات عن لماذا تُخفي شخصيتها الحقيقية التي تعد أحد أكبر ألغاز الأدب الحديث.
تساءلت عشرات المقالات عن هذه المرأة المجهولة التي تسكن نابولي، لكن إيلينا نفسها تقول إن شخصيتها المجهولة تجعلها تستطيع التركيز فقط في الكتابة، وتبعدها عن كل أشكال الضغط.
إيلينا أعلنت أيضًا في أحد حوارتها الصحفية أنها كانت معجبة بمجهولية جين أوستن، حينما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وأخبرتها معلمة اللغة الإنجليزية بحكاية الكتاب الذي صدر واسم مؤلفه «سيدة». فضَّلت إيلينا أن تكون الكاتبة مجرد سيدة، ببساطة، دون اسم أول أو أخير، يبحث القراء عن شخصيتها بتتبع شخصيات الرواية.
استهوى إيلينا كل ما كتبته جين، وفي ما يبدو أن جين أوستن نفسها أحد أسباب هذا اللغز. تقول إيلينا في مقطع من رواية «صديقتي المذهلة»: «كانت تريد أن تتبخر، وأن يتلاشى كل خلاياها، حتى يصبح من المستحيل أن يعثر أي أحد على شيء يخصها».
كتابة بالأنا الأُخرى
كان «بينجامين فرانكلين» يبلغ من العمر ستة عشر عامًا عندما قرر نشر سلسلة مقالات، باسم «فاعل خير صامت» في الجريدة التي يعمل بها أخوه جيمس، وتقمص فيها شخصية سيدة في منتصف العمر، بسبب اعتقاده أن أخيه سيرفض نشر مقالاته.
ذاع صيت هذه المقالات، وظل فرانكلين محتفظًا بالسر عن أخيه حتى بعدما توقف عن كتابتها، عندها نشر جيمس إعلانًا يسأل من هو فاعل الخير المجهول، اعترف فرانكلين بأنه فاعل الخير الصامت، وتسبب الأمر في خلاف بينهما.
بعدما اكشاف أحد عمال المكتبات إن ريتشارد باكمان هو اسم ستيفن كينغ المستعار كانت نهاية باكمان. إذ أعلن ستيفن وفاته بـ«سرطان الاسم المستعار».
أما «ستيفن كينغ»، الكاتب الأمريكي الشهير وغزير الإنتاج، فقد اعتقد الناشرون أن إصدار كتاب واحد له في العام يكفي. ماذا يفعل ستيفن إذًا ليُصدر أكثر من كتاب في العام ولا يتسبب هذا في تشبُّع سوق الكتب؟
يتحول إلى «ريتشارد باكمان» الذي عاش فنيًّا في الفترة بين 1977 و1985. أقنع ستيفن الناشر بإصدار روايات باسم مستعار. وتحت هذا الاسم، أصدر كينغ خمس روايات. عُرِف عن باكمان بعض المعلومات، مثل أنه وُلد في نيويورك، وقضى في الخدمة العسكرية البحرية أربع سنوات.
توفي باكمان فنيًّا عام 1985، بعدما كشف أحد عمال المكتبات هذا التحايل لأنه قرأ ستيفن كينغ بشكل دقيق، وشعر بأن كتابته متقاربة مع ريتشارد باكمان، وأن أسلوبهما متشابهان. كتب الرجل خطابًا إلى ستيفن ليُطلعه على هذا الاكتشاف، وهو ما أكده ستيفن، وكانت نهاية باكمان بالفعل. إذ أعلن ستيفن وفاة باكمان بــ«سرطان الاسم المستعار». يقول ستيفن إنها كانت محاولة لمعرفة هل كان نجاحه موهبة أم حظًّا. ومحاولة النجاح مرة أخرى بعيدًا عن ظل نجاح الاسم الأول.
جيه كيه رولنغ
هل كانت «جيه كيه رولنغ» ستلقى نفس النجاح لو نشرت كتبها باسم «جوان رولنغ»؟ مؤلفة سلسلة «هاري بوتر» الشهيرة التي صدر منها ملايين النسخ، لم يقتنع بها أيٌّ من الناشرين في البداية، لأسباب تتعلق بجنس الكاتبة بالكامل. اعتقد كثير من الناشرين أن الذكر المراهق لن يفضل قراءة رواية كتبتها سيدة في منتصف العمر. لذلك كان عليها أن تجد اسمًا أكثر ذكورية، اختارت «ج» لجوان، و«ك» لاسم جدتها.
لكن حتى بعد الانتشار الكبير الذي حققته روايات «هاري بوتر»، عادت المؤلفة إلى الكتابة باسم مستعار آخر هو «روبرت غالبريث» في 2013، وأصدرت تحت هذا الاسم ثلاثة روايات قبل أن ينكشف الأمر.
في حديثها بعد ذلك عن هذه التجربة، قالت إن الأمر ببساطة يتمثل في رغبتها الشديدة في الكتابة بأسلوب مختلف، دون مقارنةٍ بما كتبته قبل ذلك، ودون وضعه في سياق قديم. أرادت أن تبدأ من الصفر.
بدأت الكتابة من الصفر. وفي مستهل أول رواية لها، كتبت الاقتباس التالي: «تعيس هو من تُضفي شهرته شهرة على مآسيه».
اقرأ أيضًا: 20 عامًا على «هاري بوتر»: رواية الأطفال التي أثرت حتى في الكبار
كُتاب عرب دون أسماء
حين يصل الأمر إلى المنطقة العربية، تختفي أسباب كثيرة، غالبًا ما تكون سياسية. وكما يقول مهدي عامل الكاتب المتخفِّي أيضًا، «إنها لمخاطرة أن يفكر الواحد منا موقفه باللغة العربية».
مهدي عامل، الكاتب اللبناني الماركسي، هو نفسه حسن عبد الله حمدان. كانت بدايته في مجلة «الطريق» باسم مهدي عامل، وعُرف بعدها بهذا الاسم، وأصدر أول ديوان شعري «تقاسيم على الزمان» باسم هلال بن زيتون.
بعد اغتيال مهدي عامل في أحد شوارع بيروت عام 1987، جُمِعَت مقالاته العلمية وكتاباته التربوية في كتاب بعنوان «في قضايا التربية والسياسة التعليمية».
قد يهمك أيضًا: مهدي عامل: الماركسية في إطار عربي مهيب
الكتاب المتحققون يختارون الكتابة باسم مستعار ليتفادوا نجاحهم السابق الذي يلاحقهم كالظل.
أما محمود حسين، الاسم الذي عُرِف في الأوساط اليسارية، فليس كاتبًا متخفيًا، إنما كاتبان قررا أن يكتبا باسم واحد كتبًا مشتركة، هما بهجت النادي وعادل رفعت، مصريان مقيمان في باريس منذ منتصف الستينيات.
صدر كتابهما، أو كتاب محمود حسين، بالفرنسية عام 1969، بعنوان «الصراع الطبقي في مصر»، ثم تُرجم إلى العربية. سبق اعتقالهما في عهد عبد الناصر خمس سنوات، وقضيا السنتين الأخيرتين في نفس الزنزانة. هنا بدأت صداقتهما الفريدة التي ستجعلهما بعد ذلك كاتبًا واحدًا.
عندما كتبا هذا الكتاب قدماه إلى الناشر الذي استهجن فكرة أن يكون للكتاب كاتبان لأنه لن يباع في رأيه، وعرض عليهما أن يُنشر الكتاب باسم أحد منهما. رفضا الفكرة، فكان الاسم المستعار هو الحل.
نشرا أيضًا رواية «تحدي الآلهة» التي يتحدث فيها محمود حسين عن تجربة السجن على لسان بطل واحد. كانت بداية عملها المشترك وتجربتهما معًا كما يقول بهجت عندما وصل إلى فرنسا عام 1966، ولم يكن يجيد الفرنسية، فكان يكتب مقالات بالعربية ويترجمها رفعت، ثم اندمجا ليصبحا اسمًا واحدًا.
للكتابة باسم مستعار أسباب كثيرة. الكتاب المتحققون يختارون هذه الطريقة ليتفادوا نجاحهم السابق الذي يلاحقهم كالظل. محاولة للبحث عن هوية جديدة في الكتابة، يبدو أنهم لا يتصورونها دون تغيير أسمائهم ذاتها.
بعضهم يغيرون أسماءهم خوفًا من النقد أو السلطة، وبعضهم يريد فقط الانعزال في هدوء، أن يكتب دون أن يعرفه أحد، ودون أن يُعرِّف نفسه للعالم باعتباره صاحب هذه الكلمات.
ميرهان فؤاد