ملكية الخطاب الديني: عن الحدود والمواريث والتجديد المتنازَع عليه
في أغسطس 2017، شكلت تونس لجنة «الحريات الفردية والمساواة». هدفها صياغة توصيات لتعديل المنظومة التشريعية، عملًا على توسيع الحريات وضمان قدر أكبر من المساواة. خلصت اللجنة إلى ضرورة تنظيم حالة الطوارئ، وإلغاء عقوبة الإعدام، ومساواة الرجال والنساء في المواريث، وإلغاء تجريم السلوكيات المثلية جنسيًّا، من بين أشياء أخرى.
نشرت اللجنة تقريرها في يونيو 2018، لتقر الحكومة مساواة المواريث رسميًّا في نوفمبر من نفس العام، فيما رأت أن التوصيات الأخرى بحاجة لمزيد من النقاش.
هذا الموقف لمجلس الوزراء التونسي، الذي لم يقر فيه إلا واحدة فقط تقريبًا من توصيات أكثر تمس بدرجات مختلفة أنظمة الاعتقال وقوانين الجنسية، كان مقدمة لجدل طال بعض أنحاء المنطقة العربية.
لم تعقب «هيئة كبار العلماء السعودية»، إذ كانت لا تزال منشغلة بالتعاطي مع قضية جمال خاشقجي، وردت هيئة علماء السودان بأن المطالب «ناتجة عن سوء فهم النظام الاجتماعي في الإسلام». أما الرد الأبرز فكان لـ«هيئة كبار العلماء» التابعة لمشيخة الأزهر في مصر، التي أصدرت بيانًا حاد اللهجة، قالت فيه إنه «قد سولت لبعض الناس عقولهم القاصرة، وخيالاتهم البعيدة عن الشرع وأحكامه، أن الإسلام ظلم المرأة حين لم يساوِ بينها وبين الرجل في الميراث تسوية مطلقة، وأنه ينبغي أن تأخذ المرأة، المظلومة في زعمهم، مثل ما يأخذ الرجل، لا يتميز عنها في شيء».
يُذكِّرنا البيان متأففًا بأن الأزهر أكد «قبل ذلك مرات عدة، أن هذا النوع من الأحكام لا يقبل الخوض فيه بخيالات جامحة وأطروحات تصادم القواعد والمحكمات، ولا تستند إلى علم صحيح».
يبدو هذا البيان للوهلة الأولى مناقضًا لتوصية الأزهر في 2016 بضرورة «عقد ندوات علمية متخصصة، تدرس أوضاع التشريع في المجتمعات العربية الإسلامية، وما مر به من تطورات حضارية، مبنية على فهم الأطر الكلية لوجود الأسباب وتحقيق الشروط وانتفاء الموانع»، وهذا من أجل «مواجهة الاتهامات التي تُرمى بها هذه المجتمعات من دعاة الغلو والتطرف من عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، بخاصة في بعض الحدود، نظرًا لجهلهم بالفلسفة الإسلامية وفقه التشريع المحكم فيها، والفرق بين المبدأ الشرعي الثابت بالنصوص القطعية، والحكم الوضعي الذي يضع في اعتباره الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأمة وأهداف ومقاصد التشريع».
مصدر التباين الشديد في اللهجة بين التوصية والبيان الأول، أن التوصية كُتبت أساسًا بهدف مواجهة «الجماعات المتطرفة»، وعندها يصبح مفهومًا أن يلوِّح البيان ويتمترس بمقولات من شاكلة: «الحكم المدني الدستوري على أسس ديمقراطية تحقق جوهر العدالة والحرية والمساواة بعيدًا عن فكرة الخلافة التاريخية، والتزام (الدولة) بمفاهيم المواطنة والعدالة الاجتماعية ورعاية المهمشين وسياسة التنمية، وكذلك وثائق منظومة الحريات التي تشمل حرية الاعتقاد وحرية الرأي والتعبير وحرية البحث العلمي والأكاديمي وحرية الإبداع الأدبي والفني».
هذا التناقض الذي ندَّعيه بين الموقفين ليس تناقضًا بالطبع في رأي الأزهر، لكن عندما يتوجه البيان الأخير بخطابه قائلًا: «اقرؤوا أيها المسلمون في الشرق والغرب، في نهاية آية الميراث: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾، ثم قوله تعالى بعد ذلك: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم، وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾»، فإننا نتساءل قائلين: نقرأ كذلك ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، لكن لا شك أن جهلنا «بالفلسفة الإسلامية وفقه التشريع المحكم فيها» يجعلنا نرى تناقضًا بين الموقفين.
يحق لنا مع ذلك أن نتساءل بشأن «تجديد الخطاب الديني» الذي يبدو أنه توقف عند المواريث: ما هذا التجديد؟ وما الذي يُجدَّد بالضبط؟ وما أسبابه وشروطه وحدوده؟ ومن القائمون عليه؟ وهذا الخطاب الديني موضوع التجديد، إلى أي حد أصبح قديمًا؟ وما الذي جَدَّ، فأنتج ضرورة تجديده؟ وكيف أصبح هذا التجديد هدفًا ملحًّا للدولة والمثقفين، لدرجة أن يؤكد الأزهر «ضرورة الإسراع في تجديد الخطاب الديني»، هكذا؟
لنبدأ من النتيجة النهائية: لم يتوقف الخطاب الديني عن التجدد قط. وأحد أهم لحظات تجديده كانت أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، في المعارك التي اندلعت بشأن الاجتهاد والتقليد والحرية والاستبداد وحدود النقل عن الغرب، والتي تكاد تكون أنتجت المشهد الإسلامي المعاصر كله، بأزهره وإخوانه وسلفييه وجهادييه. بدلًا من تناول هذه الأسئلة نظريًّا، ربما يجدر بنا تناول نموذج من حالة تاريخية جُدِّد فيها الخطاب الديني بالفعل، لعلنا نتمكن من فهم طبيعة هذا التجديد وآليات عمله.
تجديد الخطاب الديني: دوام التطور
تستند دعاوى تجديد الخطاب الديني إلى اعتقاد مفاده أن هذا الخطاب قديم، وساكن منذ زمن يختلف تقديره، بطريقة تجعله لم يعد صالحًا لمستجدات التاريخ، ومن ثمَّ ينبغي تحديثه وتطويره كي يصبح منسجمًا مع العصر الحالي. أول ما يجب ملاحظته بشأن هذه الفكرة أنها خطأ أساسًا بالمعنى التجريبي، فخطؤها الأساسي لا يكمن في افتراض أن الخطاب لم يعد صالحًا أو منسجمًا مع «عصر حديث»، وإنما في الفكرة الأبسط التي تقول إنه كان ساكنًا لا يتطور لمجاراة التاريخ أو مستجدات السياسة أو المعرفة.
هذا ببساطة لأن «الخطاب الديني» دائم التجدد، وأسهل مجال يمكن فيه إثبات هذه الملحوظة مثلًا، هو مجال التفسير، إذ إن أي مقارنة تاريخية بين التفاسير الإسلامية تظهر فيها اختلافات كبيرة في مسائل جزئية أحيانًا، وأحيانًا في قضايا كبيرة نسبيًّا، وعادة ما تكون هذه الاختلافات ممكنة الفهم بردها إلى تطورات علمية أو اجتماعية أو سياسية.
للبدء بأمثلة بسيطة، خذ على سبيل المثال الآية 86 من سورة الكهف: ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا، قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾، ثم انتقِ أي تفسير عشوائي من أمهات التفاسير المنتمية للقرون الخمسة الأولى للهجرة، على اختلاف مذاهبها، وانظر فيه. ستجد أن هذه التفاسير مجمِعة، إجماعًا شبه تام، على حصر الخلاف بشأن الآية في لفظة «حَمِئة»، هل هي حمئة بمعنى «ذات حمأة، وهي الطينة السوداء» أم حامية، بمعنى حارة؟ لكنهم اتفقوا على أن الشمس تغرب في عين ماء عند أقاصي الأرض. يَرِد هذا التفسير عند الطبري والسمرقندي والثعلبي والطبراني والماتريدي والصنعاني.
لكن أقلية ضئيلة من مفسري القرن الخامس لم تفسر الآية بظاهر لفظها، فعرضت لخلاف آخر، هو ما إذا كان ذو القرنين قد رأى الشمس تغرب فعلًا في عين ماء، أم إنها بدت له كذلك. يقول الماوردي: «فيها وجهان: أحدهما أنها تغرب في نفس العين. الثاني: أنه وجدها تغرب وراء العين حتى كأنها تغيب في نفس العين»، وهذا الخلاف يصبح أكثر جلاءً في القرن السادس، فتذهب نسبة أكبر من التفاسير للإشارة إليه.
هكذا يخبرنا ابن عطية عن «ذهاب بعض البغداديين إلى أن في بمنزلة (عند)، كأنها مسامتة من الأرض، فيما يرى الرائي لـ(عين حمئة) وقال بعضهم: قوله (في عين) إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها، أي هي آخر الأرض». ويقول الطبرسي: «لما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كأن الشمس تغرب في عين، كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء»، و«ربما توهَّم متوهِّم أن هذه الشمس على عِظَم قدْرها تغوص بذاتها في عين ماء، وليس كذلك»، على قول ابن الجوزي.
يُطلعنا الطوسي على نبذة صغيرة من الخلاف، إذ «قال أبو علي الجبائي والبلخي: المعنى وجدها كأنها تغرب في عين حمئة، وإن كانت تغيب وراءها. قال البلخي لأن الشمس أكبر من الأرض بكثير، وأنكر ذلك ابن الأخشاد، وقال: بل هي فى الحقيقة تغيب في عين حمئة على ظاهر القرآن». ها نحن أمام مفسر يتمسك بظاهر النص وآخرون يلجأون إلى صرف النص عن ظاهره من أجل حفظ اتساقه مع مقولة فلكية قد تبدو لنا بديهية: الشمس أكبر من الأرض بكثير.
يلتزم عدد من مفسري القرن الخامس وبعده بالتقليد الأقدم، مثل الزمخشري والبغوي، لكن هؤلاء يصبحون أقلية بالتدريج، ويصبح صرف نص القرآن عن ظاهره جزءًا حاضرًا دومًا من التفسير المعتمَّد للآية. ما نقرؤه من هذا التطور هو امتصاص التفسير تدريجيًّا لمجموعة من مقولات علم الفلك، ثم استجابته لها بتعديل قراءته للآيات.
يتطور الخطاب الديني طوال الوقت، ويتفاعل بطرق مختلفة مع تطورات السياسة والعلوم والاجتماع.
في نفس الفترة تقريبًا، أي القرنين الخامس والسادس، ستبدأ الآية 30 من سورة النَّازعات: ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، أي مدَّها وسطَّحها، في إثارة إشكال مشابه. كان الاختلاف بالنسبة إلى مفسري القرون الخمسة الأولى يتعلق بلفظ «بعد ذلك»، الذي يشير إلى أن دحو الأرض كان بعد تسوية السماء، ما يبدو مناقضًا ظاهريًّا لقول القرآن في موضع آخر: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَات﴾.
يأتي «الدَّحْو» عند كل المفسرين الأقدم بمعنى مباشر وواضح: المد والتسطيح، لأن «الدحو إنما هو البسط في كلام العرب، والمد. يقال منه: دحا يدحو دَحْوًا، ودَحَيْتُ أَدْحِي دَحْيًا، لغتان»، بحسب الطبري. لكن منذ أواخر القرن الخامس وبداية السادس كذلك، يستوعب متن التفسير مشكلة أخرى هي أن الأرض كروية، لا مسطحة، وهذا تناقض ظاهري يستلزم الدفع. هكذا تبدأ التفاسير كلها تقريبًا في إثارة هذه المشكلة والتفاعل معها، فيصبح الدحو بمعنى شق الأنهار فيها وحرثها وجعلها صالحة للسكن، أو بمعنى بسطها، قياسًا إلى حجم الإنسان.
لا عجب أن فخر الدين الرازي مثلًا، الذي كان واسع الدراية بعلم الفلك، كتب واحدًا من أكثر التفاسير انتباهًا لهذا النوع من المشكلات في زمنه. نحن هنا أمام تجديد ملموس في واحد من قطاعات «الخطاب الديني»، يحدث بسبب استيعاب هذا الخطاب مجموعة من المقولات التي أنتجها علم آخر.
ثمة أسئلة شديدة الأهمية بالطبع عن توقيت هذا الاستيعاب، إذ إن علماء الهيئة المسلمين كانوا على دراية بنظريات «بطليموس» الفلكية منذ القرن الثاني الهجري، لكن هذا سؤال عن طبيعة الجماعات العلمية في القرون الوسطى ودرجة اتصالها، وعن آليات انتقال المعرفة آنذاك، ربما يجدر تأجيل النظر فيه إلى مقام آخر.
تجديد الخطاب الديني: قواعد التطور
إذًا لم يكن النص ثابتًا أو رافضًا للتطور كمبدأ، والفكرة عن الثبات الكلي للنص، التي يعتقد بعض الناس أنها مستمرة منذ نشأة الإسلام، أو أنها مستمرة من عصر التدوين، أو أنها بدأت في القرن الثامن الهجري أو غير ذلك، هي فكرة خطأ، إذا كان المقصود ثباتًا شاملًا، وتكرارًا مستمرًّا للمقولات نفسها دون استثناء.
تُروِّج دعوة «تجديد الخطاب الديني» رأيًا مفاده أن هذا الخطاب متيبس ويتطلب جهدًا هائلًا لتحريكه.
أول ما يخطر للذهن في هذه الحالة أن التحولات التي قد تطول بعض العلوم الشرعية أو نتائجها، ربما تتأثر بتطورات العلوم الطبيعية، وأن هذا يختلف عن تفسير آيات الأحكام وفهمها على سبيل المثال.
على أن هذا ليس دقيقًا لأن بعض التطورات العلمية لم تنعكس على الموقف التفسيري التقليدي، وأجلى الأمثلة وضوحًا هنا نظرية التطور، التي أصبحت واحدة من ركائز علوم الحياة الحديثة، في وقت لا يزال بعض المناوئين لها على أسس دينية يكررون أن النظرية «سقطت في الغرب»، بدرجة إنكار قد تكون ملهمة في إصرارها.
إضافة إلى ذلك، فإن قراءة آيات الأحكام، ومن ثَم الاستدلال الفقهي القائم عليها، يتطور كذلك، وأشهر مثال من هذا النوع الموقف الإسلامي الرسمي من الرِّق وملك اليمين، إضافة إلى موقف الأزهر الرسمي من تعطيل الحدود مثلًا.
في سياق الجدل الذي دار بشأن المواريث كذلك، ومقارنة بعض الناس هذا التحول بالتعطيل الدائم للحدود الشرعية في مصر مثلًا، رفض الشيخ عباس شومان المقارنة لأن «أحكام الحدود باقية كما وردت في نصوصها، ولا سلطة لبشر في تغييرها أو استبدالها. فإن توفرت شروط تطبيقها ولم تُطبَّق، أَثِمَ مَن عطَّلها. وإن لم تتوفر شروطها أو بعضها لم تُطبَّق، لفساد الذمم المورِّثة للشك في شهادات كثير من الشهود، أو لشبهة الجوع والاضطرار، أو لانتفاء الحرز كما في السرقة مثلًا».
يعتقد شومان هنا أن القانون الوضعي يمثل استثناءً لقاعدة لم تكتمل شروط تطبيقها، مع أن النظام القانوني القائم لا ينظر حتى في هذه الشروط أو يبحث عنها قبل تعطيله للقاعدة الشرعية على سبيل «الاستثناء»، إذ إن قانون العقوبات القائم هو القاعدة الوحيدة محل التنفيذ. هذا طبعًا بغض النظر عن اعتقاده أن «فساد الذمم» ظاهرة حديثة، يترتب عليها تعطيل أحكام شرعية.
في جميع الأحوال، يحيل شومان إلى خارج النص من أجل تبرير تعطيل الحكم، الأمر الذي لا يتصوره في ما يتعلق بآيات المواريث، لسبب غير واضح بما يكفي. وهو يحيل في استدلاله إلى قاعدة فقهية هي «درء الحدود بالشبهات»، وإلى وقائع اجتماعية هي «فساد الذمم» و«شبهة الجوع والاضطرار»، وأخيرًا إلى الآية. والإحالة إلى الواقع الاجتماعي، وإن كان تبريريًّا واعتذاريًّا، يكفي في بيان أن التعاطي مع النص لم يتوقف قط عن التطور بالتفاعل مع واقعه.
هناك مع ذلك تفسير آخر يمكن اللجوء إليه بدل ما يقترحه شومان من فساد الذمم، وهو أن قراءته للآية تأتي تالية لواقع تعطيل الحدود على يد الدولة ببساطة، وهو ما نراه كثيرًا في التحولات التي تطال مواقف المؤسسات الدينية الرسمية تجاه مستجدات السياسة، كالتحول المفاجئ في موقف هيئة كبار العلماء في السعودية مثلًا من قيادة النساء للسيارات، مع ثبات الموقف من الحدود التي تستمر السعودية في تطبيقها.
تبدو أي محاولة لتفسير الخلاف بين موقفي الأزهر وهيئة كبار العلماء في السعودية، بناءً على «فساد الذمم» في مصر وصلاحها في السعودية، مربكة قليلًا، فيما يبدو الموقف أسهل على الفهم إذا فُسِّر باعتباره موقفًا تبريريًّا بسيطًا للوضع القائم بالفعل.
ما الذي نروم إثباته من كل هذا؟
ها هو الخطاب الديني يُجدَّد مرة أخرى، ولم يكن الاتساق أكثر من مطلب ثانوي بالنسبة إليه، فهو وإن كان دائم التطور، لا يتطور بالضرورة استجابة لمحفزات محددة وواضحة، كالتطور العلمي مثلًا كما يظهر من الموقف الديني التقليدي من نظرية التطور، أو من استمرار ابن باز في الاعتقاد في مزيج من الفلك البطلمي وصورة أكثر بدائية عن الكون حتى ستينيات القرن العشرين على الأقل. وهو كذلك لا يتطور بالضرورة استجابة لأي تطور أخلاقي عام، كالإيمان بالمساواة أو الديمقراطية أو أي قيمة حديثة أخرى. لكنه مع ذلك يتطور، طوال الوقت، ويتفاعل بطرق مختلفة مع تطورات السياسة والعلوم والاجتماع.
يعني غياب الاتساق هذا أن كل المواقف ممكنة بدرجة ما على الأقل: تستطيع أن تقبل مستجدات علم الفلك وترفض مستجدات علوم الحياة، أو تعطل الحدود وترفض التعديل في المواريث، وتظل متمسكًا بالاعتقاد في اتساقك النظري، حتى لو بررته في النهاية بأدلة سوسيولوجية وفلسفية طريفة، كفساد الذمم في العصر الحديث.
الخلاصة إذًا: لم يتوقف «الخطاب الديني» قط عن التطور، وليس لهذا التطور قواعد ثابتة واضحة مبنية على حفظ الاتساق الداخلي للخطاب، وهذا التطور سلس وغير ملحوظ في أحيان كثيرة، وأحيانًا يحدث بين يومٍ وليلة، كما في مسألة قيادة المرأة على مستوى المؤسسة الرسمية.
تُروِّج دعوة «تجديد الخطاب الديني» رأيًا معاكسًا تمامًا، مفاده أن هذا الخطاب متيبس ويتطلب جهدًا هائلًا لتحريكه، فما مصدر هذه الفكرة إذًا؟ وما سر الإجماع عليها؟
أوهام الدولة وأوهام المثقف
ما الذي يجعل تجديد الخطاب الديني فكرة بهذه الجاذبية؟ لا يبدو أن «تجديد الخطاب الديني» يشير إلى أي شيء محدد، وموضوع هذا السؤال، أي الخطاب الديني الساكن والمتحرر من أي علاقة بالواقع، والذي يعمل فقط على إعاقة حركة هذا الواقع، هو موضوع مُخترَع ووهمي، وربما ليس أكثر من امتداد للتفكير الاستشراقي عن الإسلام.
يجتمع عاملان أساسيان في منح هذه الفكرة بريقها. العامل الأول هو اعتقاد أذرع الدولة الثقافية أن دورها الأساسي هو العمل كماكينة للبروباغندا، تُستخدم من أجل تشكيل عقول المواطنين وإعادة تأهيلها وفق برامج سياسية قومية.
لا شك أن كل الدول تلجأ لحملات توعية لأغراض مختلفة، لكن في المنطقة العربية تحديدًا، ولأسباب تاريخية مرتبطة في مجملها ببناء دول الاستقلال الوطني في المنطقة، تظن المؤسسات الثقافية الرسمية ظنًّا صريحًا أنها مُكلَّفة بالبناء الكامل لداخل الإنسان، روحًا وثقافة، ومن هنا تشديد الأزهر على «ضرورة الإسراع في تجديد الخطاب الديني»، لأن الوضع لم يعد يحتمل بالطبع، وكأننا نتحدث عن مشروع إنشاء هندسي مثلًا.
العامل الثاني هو موقف المثقف العربي التقليدي من دوره الاجتماعي. فبتأثير الأسباب التاريخية نفسها، لم يعد المثقف العربي يتصور نفسه إلا مثقفًا للسلطة أو لسلطة مضادة، ولا يتصور معرفته إلا باعتبارها جزءًا من واجبه الوطني المباشر المرتبط بأزمات اجتماعية حالية يجب أن يسهم في حلها، كصوت لهذه السلطة أو لمعارضتها.
النتيجة الحتمية لهذا الوضع أن يتشكل «تجديد الخطاب الديني» مشروعًا مشتركًا لمثقفي الدولة والمعارضة، لا لأن هناك خطابًا دينيًّا يتطلب تجديدًا بالفعل، إذ إن هذا الخطاب جُدِّد ويُجدَّد باستمرار، حتى لو لم يستجب للخطط الهندسية الحالمة، وإنما تشكل هذا المشروع لأنه موضوع مناسب لهذا الوهم بالذات: أي قدرة المؤسسة الثقافية على إعادة سبك «العقل الوطني».
ليس الانغماس في هذا الوهم مسألة أليفة، أو مجرد حادث غير ذي أثر على هامش الواقع، كأن يكون هناك مريض بالعُصاب يتصور أشياء غير موجودة في الواقع، فلا يؤثر فيه سلبًا ولا إيجابًا. لكن انغماس المؤسسة الثقافية في هذا الوهم يعمل على تشويه السياسة والمعرفة معًا، فهي تتصور السياسة نشاطًا معرفيًّا/توعويًّا/ثقافيًّا أساسًا، كما لو كانت الدولة فصلًا دراسيًّا، وتتصور أن المعرفة تتأسس بغاية تحقيق أهداف سياسية حالية، كما لو كان العلم مشروعًا هندسيًّا.
النتيجة الوحيدة لهذا الخلط أن المؤسسة الثقافية، سواء تابعة للدولة أو مستقلة عنها، لا تمارس السياسة ولا تنتج المعرفة، وإن كانت تستمر في ترويج هذه التصورات الملتبسة عن الاثنين، إضافة إلى استمرارها في إنتاج الأيديولوجيا، أي الممارسة غير الواعية للسياسة وتبريرها معرفيًّا.
إذًا، ما الذي نحتاجه بديلًا عن «تجديد الخطاب الديني»؟
ربما أن يرتضي المثقف دوره في تقسيم العمل الاجتماعي، باعتباره منتجًا للمعرفة وساعيًا للفهم، ويقنع بأن هذه الأشياء غايات في ذاتها وليست وسائل اجتماعية، وأن يلجأ إلى ممارسة السياسة بدايةً من أسئلتها البدهية: أين موقعي من العالم؟ وأين موقع خصومي؟ وما المشروع الذي أحمله؟ ربما يفاجأ عندها أن هذه الأسئلة، على بداهتها، أصعب كثيرًا من توجيه النقد للبخاري والشافعي، ومن الجهد الرائع الذي أنفقه في تفكيك «الثقافة العربية» و«بنية العقل الإسلامي».
أحمد الشربيني