هل يحدد ماكياج المرأة مدى قبولها اجتماعيًّا؟
تعود علاقة المرأة بماكياجها إلى أيام الحضارات الإنسانية الأولى، ففي مصر القديمة قبل ستة آلاف عام اعتُبرت مستحضرات التجميل مصدر قوة، وكان الرجال والنساء على حد سواء يستخدمون الكُحل والظلال الزرقاء والخضراء لتجميل مظهر العين.
واختلف شكل استخدام مستحضرات التجميل مع مرور الوقت، فقبل بدء الثورة الفرنسية عام 1789 كان رجال الطبقة الارستقراطية هم الذين يضعون مستحضرات التجميل ويرتدون الشعر المستعار أكثر من النساء أنفسهن، لأن الاهتمام الزائد بالنفس كان يرمز مباشرة للمكانة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد.
وبحلول العصر الفيكتوري (1837-1901)، تحولت مساحيق التجميل إلى أدوات قهر للنساء، إذ كان يُنظر للمستحضرات على أنها وسائل تدل على انعدام العفة والانفلات، وكانت النساء اللواتي يستخدمن الماكياج بحرية هن العاهرات.
أصابع الاتهام تُوجَّه للأنثى المتجمِّلة على اعتبار أنها سطحية و تسعى للفت الانتباه.
انعكس الوضع عام 1915 بعد دخول النساء سوق العمل وزيادة طلب توظيف النساء بسبب غياب الرجال في الحرب العالمية الأولى، إذ باتت المرأة تتزين كأسلوب للتعبير عن استقلالها الفردي؛ كونها امرأة عاملة قادرة على تحمل تكاليف الماسكارا وقلم الحُمرة، فكان الماكياج بيان استقلال عن الرجل الذي فرض عليها العفة إكراهًا في عصور سابقة، وخرجت النساء إلى الشوارع بشفاه ملونة وحواجب رفيعة للتعبير عن حرية الاختيار.
إن علاقة المرأة بالماكياج متذبذبة تاريخيًّا، تتطور حسب تفاعلها مع محيطها الذي غالبًا ما يحكمه الذكور، لكن رغم كل ما مرَّت به النساء، فإن أصابع الاتهام لا تزال توجَّه لها إن تجمَّلت، وتُوصم بالسطحية والسعى للفت الانتباه، بينما يرى البعض أن الماكياج أداة قوة واحتفاء بأنوثة المرأة وجمالها،فما هي إذًا علاقة الماكياج بالنسوية؟ ولماذا نربط الاثنين معًا؟
«أليشيا كيز»: امرأة قررت مقاطعة الماكياج
في مايو 2016، اتخذت المغنية الأمريكية «أليشيا كيز» (Alicia Keys) موقفًا شخصيًّا من الماكياج؛ إذ قررت عدم استخدامه بتاتًا، بل روَجت لهذا الأمر عبر ظهورها الإعلامي الشهير في برنامج (The Voice)، واستخدام المظهر نفسه في حملة ترويج ألبومها الجديد، من الغلاف للفيديو كليب، الذي اعتمد على المظهر الطبيعي.
بدأت مشاهير النساء في تقليد مظهر «كيز» الجديد، وأولهن «كيم كارداشيان»، التي اشتهرت بتسويق عشرات مستحضرات التجميل عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ كمحددات الوجه والرموش الدرامية، فظهرت بوجه خالٍ من المساحيق في أحد عروض الأزياء، وهو ما استحدث صرعة جديدة من «اللاماكياج» بين الفتيات في مختلف دول العالم.
وفي الوقت نفسه، شاركت مجلات الأزياء في هذه الموجة الجديدة بتخصيص أغلفة أعدادها لظهور عارضات أزياء بوجه نضر بلا مساحيق، إلى جانب حشو أعمدة النصائح بأفضل طرق الحصول على مظهر «اللامكياج» بأقل قدر منه.
بدأ الموضوع بكتابة «كيز» مقالًا تشرح فيه موقفها تجاه مستحضرات التجميل، والسبب الذي دفعها للإقلاع عن استخدامها تحت الأضواء.
وقالت «أليشيا كيز» (35 عامًا) في المقال: «كنت في جلسة تصوير لألبومي الجديد، واقترحتْ عليَّ المصورة أن تلتقط صورًا لوجهي وهو عارٍ من المستحضرات، فكانت الصورة الظاهرة لوجهي حقيقية كما عهدتها بعيدًا عن عدسات المصورين، وشعرت بالتحرر من قيود ذلك القناع الذي فرضه عليَّ عملي في مجال الموسيقى. لقد هدم الجدران التي بنيتها لنفسي طَوَال السنوات الماضية».
عندما سُئلت «كيز» عن موقفها في برنامج (Today Show)، أكدت أنها تحب ملمِّع الشفاه والكحل السائل وأحمر الخدود، وأن موقفها ليس تجاه مستحضرات التجميل بالتحديد، لكنها لا ترغب في الشعور بأن عليها وضعها كي تكون جميلة.
واليوم، تتمنى «أليشيا كيز» أن تبدأ ثورة من الرضا عن المظهر بلا حاجة لأي رتوش، بعيدًا عن الاختباء خلف قناع، وتضيف: «لا وجهي ولا عقلي ولا روحي ولا حتى أفكاري أو معاناتي، لا أريد إخفاء أي جزء آخر مني بعد اليوم».
«تشيماماندا أديشي»: امرأة قررت أن تعود للماكياج
«تشيماماندا أديشي» كاتبة نيجيرية اختارت أن تعبِّر عن تجربتها الشخصية مع مستحضرات التجميل في الحملة الدعائية التي نفذتها لمنتجات شركة (N7) البريطانية.
وتذكر «أديشي» في الإعلان أنها توقفت عن استخدام الماكياج تمامًا لفترة من الوقت؛ لأنها كانت ضحية التمييز العنصري ضد المرأة الجادة، لكنها تراجعت عن رأيها لأنها تريد أن تشعر بالسعادة، والماكياج يُشعرها بالرضا والثقة في مظهرها الخارجي، ففي اليوم الذي ترسم فيه كحل العيون بطريقة جميلة تحس بالرضا عن نفسها؛ كونها نجحت في إبراز عينيها بطريقة أجمل.
وتضيف: «أعتقد أن الوقت حان كي نتوقف عن إشاعة الفكر السخيف، الذي يشير إلى أن هناك علاقة مباشرة بين جديَّة المرأة ورثاثة مظهرها الخارجي».
قد يعجبك أيضًا: أبرز الأفلام التي تناولت حياة وقضايا المرأة العربية
«هيلاري كلينتون»: امرأة لم تضع الماكياج لمدة يوم واحد فقط
في الأسابيع التالية لإعلان دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت هيلاري كلينتون بلا ماكياج في إحدى المناسبات الاجتماعية التي دُعيت إليها لإلقاء خطاب للمساهمة في دعم قضية إنسانية، على عكس ما اعتادت أن تظهر به في فترة الترويج لحملتها الانتخابية.
وسبَّب ظهورها بهذا الشكل صدمة لدى الصحافة، التي وجدت في الحدث مادة دسمة لتناقل الأخبار، كما عمد المحللون السياسيون إلى التكهن بالأسباب التي دفعتها للحضور بوجه عارٍ من الماكياج.
هذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها ماكياج كلينتون عُرضة للنقد؛ ففي حملتها الانتخابية الأولى عام 2008 تعرضت للنقد الشديد من قِبل أحد الصحفيين، الذي رأى ماكياجها إحدى نقاط ضعفها كمرشحة رئاسية، لأن وضع مستحضرات التجميل يأخذ وقتًا من جدولها المزدحم، وبالتالي يضعها في موقف سيئ بالمقارنة مع المرشحين الرجال أوباما وماكين.
بات الأمريكيون أكثر تساهلًا مع واضعي الماكياج من الذكور.
يبدو أن مستحضرات التجميل هي موضع التساؤل في كل مرة، فعندما تضع المرأة العاملة الماكياج يعتبرها البعض علامة ثقة بالنفس، وعندما تُكثر منه يقال إنها تحاول لفت الانتباه، وفي بعض الحالات التي تتبوأ فيها منصبًا قياديًّا مهمًّا، يُتوقع منها أن تظهر بشكل جاد وتتوقف عن وضعه تمامًا، كما حدث مع هيلاري كلينتون.
قد يهمك أيضًا: كيف تحيا المرأة السعودية تحت ولاية الرجل؟
«ماني غوتيريز»: رجل يضع الماكياج
عندما أعلنت شركة (Maybeline) عن وجهها الإعلاني لمنتج الماسكارا الذي أطلقته مؤخرًا، كانت المفاجأة في اختيار الشاب «ماني غوتيريز» (Manny Gutierrez) ليمثل هذا المنتج التجميلي.
وقالت (Maybeline) إن «غوتيريز» يمثل شريحة كبيرة من الذكور الذين يتابعون آخر صيحات التجميل ويضعون المساحيق على وجوههم بإتقان وحرفية، وهو ما شجع الشركة على استقطابه وجهًا إعلانيًّا يمثل الجيل الجديد من «الذكور المتزينين»، خصوصًا أن لديه قناة خاصة على «يوتيوب»، يشرح فيها بطريقة سهلة كيفية وضع الماكياج، ويقدم آراءه في آخر المنتجات التي تطرحها شركات التجميل.
إن ظهور أمثال «غوتيريز» وثقة المنتجات التجميلية به لترويج منتجاتها يشير إلى أن الوضع في الولايات المتحدة بات أكثر تساهلًا مع الذكور واضعي الماكياج، على غرار الرجال المتزينين أيام مصر القديمة وفرنسا ما قبل الثورة.
اقرأ أيضًا: تقاطعات بين المثلية والنسوية
ما علاقة النسوية بالماكياج؟
من وجهة نظر الكاتبة النسوية الشهيرة «سيمون دي بوفوار» (Simone de Beauvoir)، فإن المجتمعات هي صاحبة الأثر الأكبر على المرأة الشابة والنساء عمومًا من حيث المبالغة في إظهار الأنوثة.
وتقول «دي بوفوار» إن هذا الأثر يأتي على شكل ضغط اجتماعي شديد الصرامة على الفتاة أكثر من الرجل، فتجد المظهر الخارجي عند الفتاة عائقًا لها في بعض الأحيان عن حريتها، إذ إن أدوات الزينة أو الثياب أو حتى آداب الحديث كلها تكون موضع نقد في حالة المرأة أكثر من الرجل.
قد يفسر ذلك الكثير عن طرق تعاملنا مع المرأة، وكل ما يتعلق بمجموعة التوقعات التي تُشعرها بالضغط الاجتماعي في أحيان كثيرة.
وبالمقارنة بين موقف «كيز» و «أديشي»، سنجد أن الأولى توقفت عن استخدام مستحضرات التجميل للسبب نفسه الذي عادت من أجله الأخيرة لاستخدامها، وهو الشعور بالضغط الاجتماعي والتعرض للنقد؛ كونهما امرأتان تسعيان للظهور بشكل مقبول اجتماعيًّا، وبالتالي فإن مظهرهما الخارجي عُرضة للتدقيق والحكم الجماعي من الأفراد في البيئة المحيطة بكل منهما.
لكن النقد يأخذ أبعادًا أعمق في حالة «كلينتون»؛ كونها سيدة ترشحت لأهم منصب سياسي في الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني أن مظهرها سيكون عُرضة للنقد طَوَال الوقت، وترْكُ وجهها ولو ليوم واحد بلا زينة قد يثير تساؤلات وتوقعات حيال حالتها النفسية وسلامة عقلها.
إن التوقعات التي يفرضها الآخرون على النساء والرجال بخصوص المظهر والتصرف ومساحيق التجميل هي خاصة بهم، ولا تعكس شيئًا واقعيًّا عن الشخص نفسه وأهدافه في الحياة؛ لأنه كما تؤكد «أديشي»: «لا يوجد هدف من العيش بناءً على تخيلاتك لردِّ فعل الآخرين».
سحر الهاشمي