روِّض دماغك: من يختلفون عنا هم «نحن»
لا بد أنك تتذكر على الأقل مرة أحسست فيها بعدم الراحة أو الكراهية تجاه شخص ما، رغم أنك لا تعرفه بما فيه الكفاية ولم يحدث بينكما ما يسمح ببناء كراهية مماثلة، صحيح؟ تتذكر بالتالي طبعًا شعورك بالذنب من تكوين هذه الصورة الانطباعية، وأنها بالطبع غير دقيقة، وفيها قدر من الظلم لشخص لم يصدر منه ما يُسيء، أليس كذلك؟
الخبر الجيد أنك لست وحدك. ويحاول «روبرت سابولسكي»، أستاذ البيولوجيا وعلوم المخ في جامعة ستانفورد الأمريكية، إيجاد إجابة في مقاله الذي نُشر في مجلة «Nautilus» العلمية.
الشمبانزي على اليمين، والغوريلا على اليسار
يقول سابولسكي إنه سُحر حين شاهد فيلم «Planet of the Apes» للمرة الأولى. بعدها بأعوام عرف قصة طريفة عن التصوير، هي أنه في وقت تناول وجبة الغداء، كان الممثلون الذين يؤدون أدوار الشمبانزي يجلسون في ناحية، وممثلو أدوار الغوريلات في ناحية أخرى، وتتناول كل فرقة طعامها بمعزل عن الأخرى.
حدث هذا بشكل تلقائي تمامًّا وبطريقة غير مقصودة من أيٍّ من المجموعتين. ما حدث أنه، تلقائيًّا، فصلت كل مجموعة نفسها عن الأخرى، وبشكل مثير للتأمل.
دماغك يستجيب للوجوه التي تشبهك في الجنس والعِرق بطريقة تختلف عن استجابته للوجوه التي تختلف عنك.
يقال إن هناك مجموعتين من البشر، مجموعة تقسِّم العالم إلى نوعين، ومجموعة لا تفعل. كثير منا يندرج تحت النوع الأول، وقد تتسع الرقعة كلما زادت التصنيفات.
لكن هناك مساحة للتفاؤل، فمعظم هذا التصنيف قائم بالأساس على نزعة بشرية بالكامل، وهو أننا جميعًا نملك توزيعات «نحن» و«هم» في رؤوسنا. «هم»، في موقف ما، قد يكونون «نحن» في موقف آخر، ويستدعي الأمر لحظة واحدة للتغيير بين الأمرين.
قوة «نحن» مقابل «هم»
تشير أدلة جديرة بالاعتبار إلى أن تقسيم العالم إلى «نحن» و«هم» شيء مبرمَج في عقولنا، إرث تطوري نحمله معنا منذ قديم الأزل، فنحن نكتشف الاختلافات بيننا وبين الآخرين بسرعة ملفتة.
يورد المقال تجربة علمية، وُضع فيها عدد من الأشخاص تحت تصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وهو مسح عقلي يبيِّن نشاط مناطق مختلفة من الدماغ تحت ظروف خاصة، وعُرض عليهم عدد من الصور لوجوه بشرية مختلفة، بمعدل صورة كل 50 جزءًا من الثانية.
وُجد أن الدماغ البشرية يستجيب للوجوه التي تشبهه في الجنس والعِرق، بطريقة تختلف عن استجابته للوجوه التي تختلف معه. فرؤية وجه شخص من عِرق مختلف عنك يُظهر نشاطًا تمييزيًّا في اللوزة الدماغية، وهي منطقة في عقلك ترتبط بمشاعر مثل الخوف والقلق والعدائية.
كذلك، تتسبب صور وجوه العِرق المختلف عنك في نشاط أقل في دماغك، عن النشاط الذي يُحدثه وجوه العِرق الذي تنتمي إليه في منطقة التلفيف المغزلي، التي تختص بالتعرف على الوجوه، وتتسم عملية تذكُّر وجوه العرق الآخَر بدقة أقل.
نحن نتذكر من يشبهنا إذًا، وتنشط أدمغتنا أكثر برؤية أشباهنا.
حين تشاهد مقطع فيديو توخز فيه يدٌ بإبرة، يسبب هذا ما يسمى «رد الفعل التماثلي» (isomorphic reflex)، وهو مصطلح مستعار من علوم الرياضيات والعلوم الطبيعية، إذ تُطابِق منطقة القشرة الحركية في عقلك الألم في المقطع بنشاط يديك وقبضتك.
لكن المفاجأة هنا أن نفس مشهد الفيديو سيُنتج في عقلك قدرًا أقل من النشاط العصبي لو كانت اليد التي توخَز في المقطع تنتمي إلى عِرق آخر يختلف عنك.
نحن نتألم حين نرى من يشبهنا يتألم.
كل واحد فينا يرى طعام بلده ألذ، وموسيقاه مليئة بالطاقة والحيوية، ولغته أكثر منطقيةً وشعرية.
يتجلى اختلاف تعامل أجسادنا معنا عن الآخرين أيضًا في معدل ومراحل إفراز هرمون الأوكسايتوسين، وهو هرمون معروف بآثاره الاجتماعية الإيجابية، لأنه يدفع الناس إلى أن يكونوا أكثر ثقةً وتعاونًا وكرمًا. لكن تأثير الأوكسايتوسين الإيجابي يظهر في سلوكك تجاه أفراد مجموعتك، أما حين يتعلق الأمر بـ«الآخرين»، فيؤكد روبرت سابولسكي أنه يفعل العكس تمامًا.
كيف نرى أنفسنا؟
في كل الثقافات، وعلى مدار التاريخ، يرى المنتمون إلى مجموعة ما أنفسهم بطرق متشابهة، يعبِّرون عن ذواتهم بشكل متشابه. نحن بالتأكيد على حق، نحن أكثر حكمة وأقدر على التفكير، وأكثر جدارة بالاستحقاقات. يشمل ذلك أيضًا تضخيم مزايا الأمور التي تشتهر به المجموعة، فطعام البلد الذي ننتمي إليه ألذ، وموسيقانا مليئة بالطاقة والحيوية، واللغة أكثر منطقيةً وشعرية، وكلنا نشعر بالالتزام تجاه بعضنا بعضًا بشكل ما.
نرى كل أفراد المجموعات المغايرة لنا متشابهين تمامًا، لا اختلاف بينهم، في حين أننا نرى أنفسنا مميزين.
طَوّر عالم النفس البولندي «هنري تاجفيل» طريقة بحثية سُميت «نموذج الحد الأدنى»، واستُخدمت في تجارب قُسِّم المشاركون فيها إلى مجموعتين وفقًا لأمور سطحية للغاية، كنتيجة لعبة ورق مثلًا أو تبعًا لألوان قمصانهم، لكن حتى هذه الطريقة العشوائية في التقسيم جعلت كل واحد منهم يميل إلى مجموعته ويفضِّلها على المجموعة الأخرى.
فتصور قوة المَيل لو كانت الاختلافات مبنية على أسس عقائدية أو حزبية.
كيف نرى الآخر؟
يسمى أحد الانحيازات المعرفية بـ«انحياز الجماعة المغايرة»، ويعني أننا نعتبر الأفراد الذين نتنمي معهم إلى مجموعة واحدة أفضل بكثير من المجموعة الأخرى التي لا تنتمي إلينا، مهما كان السبب الذي نقارن على أساسه.
في مقاله الذي نشر على موقع «سايكولوجي توداي»، يقول «فرانك مكآندرو»، أستاذ علم النفس في كلية كنوكس الأمريكية: «جرب أن تسأل أي شخص عن نوعية أفراد المجموعة التي ينتمي إليها، في دار العبادة أو حتى رابطة تشجيع فريقه المفضل، سيسترسل في الحديث عن صفات المجموعة، وما يميزها من وجهة نظره، لكنه في نقطة ما سيقول إننا جميعًا مختلفون لكن يجمعنا حب كذا. بعدها، جرب أن تسأله عن مجموعة منافسة لمجموعته، أول ما تسمعه سيكون على الأغلب: هؤلاء المجانين، كيف تقارننا بهم؟».
نحن نرى كل أفراد المجموعة المغايرة لنا باعتبارهم متشابهين تمامًا، لا اختلاف بينهم، في حين أننا نرى أنفسنا مميزين ولكلٍّ منا طابع خاص.
هل يفسر لنا هذا الطريقة التي نتعامل بها مع المختلفين عنا في العِرق أو اللون أو الجنس؟ ألا يذكرنا هذا بتعميمات نراها مع الوقت تكتسب سطوة الحقيقة: كل النساء يفعلن هذا، كل الرجال يتميزون بكذا، الأفارقة لهم رائحة عَرَق مميزة، بيض البشرة أضعف بدنيًّا من الأعراق الأخرى، وغيرها من التعميمات العنصرية؟
ربما يمكننا أن ننظر إلى ما يحدث بطريقة نقدية.
هل ترانا نلتقي؟
يخلق البشر ثنائية «نحن» و«هم» على أسس مختلفة، كالعرق والجنس واللغة والدين والسن والوضع الاجتماعي والاقتصادي. نفعل هذا بسرعة ملحوظة وكفاءة عصبية، إذ نمتلك تصنيفات معقدة ومنوعة نضع فيها الآخرين، ونفعل هذا خلال دقائق معدودة، معتمدين على مشاعر خالصة يتبعها البحث عن بدائل عقلانية تُمَنطق شعورنا.
لكن هل لنا مهرب من أدمغتنا؟
يقترح سابولسكي بعض الطرق التي يمكن أن تخفف وتقلل حدة رؤية أدمغتنا للآخرين:
1. التواصل
قدّم «جوردون ألبورت»، عالم النفس الأمريكي، نظرية التواصل في خمسينيات القرن الماضي، ويمكن تطبيقها بطريقتين:
- طريقة غير دقيقة تمامًا: بوضع مجموعة من «نحن» و«هم» في مكان واحد دون هدف أو خطة محددة، دون منافسة بتعبير أدق. ستختفي العداوات، وتحل التشابهات محل الاختلافات.
- طريقة أكثر دقة: بوضع المجموعتين في ظروف وملابسات محددة. ستذوب الفروق دون شك في كل الحالات، لكن في الحالة الثانية يمكنك تعميق العلاقات وتوطيد الفكرة.
الأثر الذي تُحدثه الملابسات المحددة مسبقًا (مثل تكليف المجموعتين بمهمة أو هدف بعينه عليهم أن يعملوا معًا لتحقيقه) ربما يكون محدودًا، لكن حين يسبب التواصل تغييرات جذرية ممتدة، فهذا تقدم حقيقي.
يخبرنا العلم أن الطريقة المثالية لتذويب الفروق بين الناس هي معاملتهم بطريقة واحدة، أو توجيههم نحو هدف أسمى أو أكبر.
2. تقريب المسافات
يسود تصور أن الفقراء أكثر رفاهيةً ويستمتعون بالحياة، بينما الأغنياء غارقون في التعاسة.
مكافحة الصورة النمطية واحدة من الطرق الجيدة، فعلى سبيل المثال، يمكنك تجريب هذه الطريقة بنفسك: ذكِّر مجموعتك (نحن) بشخصية مشهورة محبوبة تنتمي إليـ«هم».
أو استخدم طريقة الإقناع بالحوار: تظاهر أنك أحد أفراد مجموعة «هم» واشرح شعورك ودوافعك، أشعرهم بالألم الذي تعانيه.
3. هدم التسلسل الهرمي
يُقوِّي التسلسل الهرمي الاقتصادي الاختلافات بين «نحن» و«هم»، إذ يبرر من يعتلون القمة موقفهم بتشويه سمعة الأدنى منهم، بينما تتعامل الطبقات الأدنى مع الطبقات الأعلى على أنها أقل في الدفء والاتزان.
على سبيل المثال، يسود تصور أن الفقراء أكثر رفاهيةً ويستمتعون ببهجة الحياة البسيطة، بينما الأغنياء غارقون في التعاسة والضغط والمسؤوليات.
إذًا، في أمل؟
الإجابة المختصرة هي: نعم. والإجابة المفصلة هي: نعم، بالتأكيد.
يبدو أن النزعة الإيجابية ليست فقط من صُنع السينما والتلفزيون، فالبشر يميلون رغم كل شيء إلى التفاؤل والتمسك بالأمل، إذ يقول مكآندرو إنه رغم تشاؤمه تجاه إمكان التغلب على التعصب في الطبيعة البشرية، يعتقد أن تثقيف أنفسنا حول التحيزات المعرفية التي نتشاركها جميعًا قد تجعلنا نشك في حدسنا تجاه الآخرين، وأن نصبح أكثر ترويًا في ردود أفعالنا تجاه من نختلف معهم.
أما سابولسكي فيوضح أن ثنائية «نحن» و«هم» تسببت في كثير من الآلام، لكن رغم ذلك «لا أظن أن هدفنا يجب أن يكون معالجة أنفسنا من الثنائية، لأن هذا مستحيل، إلا إذا لم تكن لديك لوزة دماغية».
التحيُّز جزء من الطبيعة البشرية، ولطالما كان وسيلة تطورية مهمة وعنصرًا أساسيًّا في حركة التاريخ إلى الأمام. لكن هذا لا ينبغي أن يعمينا عن أن هذه الأداة التطورية ربما تحمل معها عيوبًا علينا تلافيها والتعامل معها بحكمة. هناك أمل في تقليل التصنيف والعنصرية بمساعدة العلم، ربما إلى حد أن تتقاسم الغوريلا والشامبنزي في هوليوود طاولة غداء واحدة.
سلسبيل صلاح