اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفه: كيف يعادي البشر الابتكار؟
يحفل تاريخ التكنولوجيا بالمعارك التي خاضتها الاختراعات الجديدة من أجل نيل الاعتراف بها. ومهما كانت هذه الاختراعات مفيدة، فإنها تجد دائمًا بعض المعارضة الفردية أو الجماعية. فكِّر في المنتجات والإبداعات الإنسانية كلها التي قوبلت في البداية، أو ما زالت تُقابل اليوم، بعنف. أيًّا كان حجم هذه الاختراعات أو أهميتها؛ فستجد أنه من الكتابة وحتى شبكات التواصل الاجتماعي، ومن الهندسة الوراثية وحتى الإندومي، هناك دومًا أصوات متشائمة ورافضة لكل ابتكار جديد.
هل يكره الإنسان كل ما هو جديد؟
يعتقد البعض أن كراهية الجديد يمكن تفسيرها دائمًا بالمعتقدات الشعبية أو الدين أو الأيديولوجيا، إلا أن هناك رأيًا آخر يرى أن الدين والأيديولوجيا لا يتحملان اللوم وحدهما بشأن النزعة المعادية للابتكار عند البشر. فهل يمكن أن تكون هذه النزعة عامة وطبيعية لدى الناس جميعًا؟ هذا بالضبط ما يعتقده «كاليستوس جوما» (Calestous Juma)، أستاذ التنمية الدولية في جامعة هارفارد، الذي أجرت صحيفة واشنطن بوست حوارًا معه بخصوص كتابه الذي يتناول مسألة عداء الناس للابتكارات الجديدة، وعنوانه «الابتكار وأعداؤه: لماذا يقاوم الناس التكنولوجيا الجديدة؟»، دافع فيه عن هذا الرأي بالذات.
يرى «جوما» أن الناس يقاومون الابتكار لأنه يتسبب في شعورهم بفقد جزء من هويتهم، كما يمكن أن تتسبب الاختراعات الجديدة في فصل الناس عن الطبيعة أو عن إحساسهم بالغاية من وجودهم. وينتهى حوار «كاليستوس جوما» مع واشنطن بوست إلى ثمانِ نقاط أساسية تفسر العلاقة المعقدة بين الناس والابتكارات المختلفة.
1. أحيانًا يرفض الناس ابتكارات تكون في صالحهم
يرى «جوما» أن الناس قد يرفضون الابتكارات الجديدة رغم كونها في صالحهم، ويعطي مثالًا على ذلك برفض نشطاء الحفاظ على البيئة التوسع في استخدام المحاصيل المعدلة وراثيًّا، على الرغم من أنها تؤدي إلى تقليل استخدام المبيدات، وهو واحد من أهداف هؤلاء النشطاء أنفسهم، الأمر الذي يعني أن كون الاختراع الجديد في مصلحتك لا يضمن بالضرورة ترحيبك به.
2. يتقبل الناس التكنولوجيا الجديدة بسهولة إذا سببت تطورًا ملحوظًا
إذا كان الابتكار الجديد فيه تحسين كبير لكل ما سبقه؛ فإن هذا يسهل انتشاره في رأي «جوما».
يضرب الرجل مثلًا بالقهوة؛ التي انتشرت في الشرق الأوسط بسرعة كبيرة، عكس أوروبا؛ لأن أئمة المساجد استخدموها كي يبقوا مستيقظين لإقامة الصلاة، إذ كانت القهوة تفوق أي شيء معروف في ذلك الوقت في القدرة على أداء هذه الوظيفة بالذات. أما على الجانب الآخر، فلم تجد أوروبا سببًا للتخلي عن مشروباتها المعروفة بالفعل؛ كالبيرة والنبيذ، من أجل القهوة، ولهذا انتشرت في أوروبا بصورة أبطأ.
3. يكره الناس الابتكارات التي تمس عاداتهم وتقاليدهم
حدد «جوما» في كتابه ثلاثة مصادر أساسية لمعارضة الابتكار: الفئات ذات المصلحة التجارية في المنتجات الأقدم، والفئات التي ترتبط هويتها الثقافية بالمنتج الأقدم، والفئات التي تفقد سلطتها نتيجة للتغيير.
دعاة التكنولوجيا الجديدة ومعارضوها يميلون إلى الاعتماد على مشاعرهم لتكوين الآراء.
ويبدو رفض الفئة الأولى للابتكار بديهيًّا؛ لأنه يؤدي لخسارتها الاقتصادية، كما يمكن فهم موقف الفئة الأخيرة ببساطة كذلك؛ لأن الابتكار قد ينزع عنها سلطة سياسية أو اجتماعية، إلا أن موقف الفئة الثانية ربما يكون أقل بداهة.
يرى «جوما» أن المستهلك العادي قد يعارض الابتكارات الجديدة إذا شعر أنها تسبب ضررًا لإحساسه بهويته، أو تهدد ثقافته التقليدية. فكِّر مثلًا في تمسُّك مواطني الخليج العربي بثيابهم التقليدية في مواجهة «البنطلون» أو السترات المستوردة، وكذلك تمسُّك النساء بالعباءة في مواجهة «التايير» أو الفساتين ذات التصميم الغربي.
4. يحكم الناس على الابتكارات الجديدة بمشاعرهم بدل اتباع الأدلة
ويرى «كاليستوس جوما» كذلك أن دعاة التكنولوجيا الجديدة ومعارضيها على السواء لا يلجؤون عادة في تكوينهم لآرائهم إلى بحث وتمحيص الأدلة الواقعية؛ ولكن يميلون بدلًا من ذلك إلى الاعتماد على مشاعرهم. وبسبب هذا الاستسلام للعاطفة، قد يبالغ البعض في تقدير المخاطر أو الحسنات المرتبطة بمنتج جديد؛ مثل زعم بعضهم في الماضي أن القهوة تسبب العقم أو تؤدي للجنون.
اقرأ أيضًا: التكنولوجيا عدو أم صديق؟
5. يرحب الناس دائمًا بالتكنولوجيا التي توفر لهم مزيدًا من الاستقلال وحرية الحركة
من اللافت للنظر أن الناس رحبوا بسهولة بمعظم الابتكارات التي وفرت لهم درجات أعلى من الاستقلالية وحرية الحركة. تذكر كل الاختراعات التي وهبتك مزيدًا من الاستقلالية في حياتك اليومية، وكيف تبدو حياتك دونها أكثر عقمًا: منذ اختراع الهاتف الأرضي مثلًا، لم نعد بحاجة إلى التنقل بأنفسنا للحديث مع شخص آخر، ومنذ اختراع الهاتف المحمول لم نعد بحاجة للجلوس جوار الهاتف الأرضي من أجل الغرض نفسه.
يرفض الناس الابتكارات لأنها تهدد بفقد جزء من هوياتهم، أو أساليب حياتهم، أو أمانهم المادي.
يُقابَل هذا النوع من الابتكارات بترحيب غير مشروط في رأي «جوما»؛ وهو ما أدى إلى نجاح الكثير من المنتجات الجديدة. فلهذا السبب مثلًا نجد اتجاهًا لدمج قدر أكبر من التكنولوجيا في السيارات باستمرار، فالسيارات توفر للإنسان درجة كبيرة من حرية الحركة، وعادة ما يقابل الناس أي تعزيز لهذه الحرية بالترحاب.
6. لا يخشى الناس التكنولوجيا الجديدة؛ بل الخسارة المادية والمعنوية الناتجة عنها
لا يعود رفض الناس للابتكارات، في رأي «جوما»، إلى كونها جديدة أو غير مفهومة؛ وإنما لأنها تهدد بفقد جزء من هويات الناس أو أساليبهم للحياة أو أمانهم المادي.
ويرى «جوما» أن فهم مصدر هذا الخوف قد يساعد الشركات والحكومات على التخفيف من حدة المقاومة التي تلقاها الابتكارات الجديدة، خصوصًا إذا استطاعت هذه الشركات أو الحكومات أن تُشرك الأطراف التي تشعر بالتهديد في تصميم التكنولوجيا الجديدة؛ كي تخرج بالشكل الذي يتواءم معهم.
قد يعجبك أيضًا: خبير سابق في غوغل يرصد هوسنا بوسائل التواصل الاجتماعي
7. لا يهتم المبتكرون عادة بتأثير اختراعاتهم على المجتمع
ومما يزيد الأمر سوءًا أن المخترعين يبدون اهتمامًا ضئيلًا عادة بالتبعات التي تحملها منتجاتهم على المجتمع ككل. فانهماك المطورين والمبتكرين في المسائل التقنية، وعدم انشغالهم بأي شيء آخر خارج تفاصيل تخصصهم؛ يؤدي في العادة إلى المزيد من الخوف بالنسبة للرجل العادي، الذي ربما يرى هؤلاء المبتكرين في الصورة التقليدية لـ«العالِم المجنون».
ويشير «جوما» إلى الذكاء الاصطناعي مثالًا لهذه المسألة؛ فقد أدت الاهتمامات التقنية المتخصصة للمشتغلين بالمجال إلى إهمال تبعاته الاجتماعية، لكن الأمر تغير بعد ذلك نتيجة للضغط على الشركات من الخارج. وبسبب المخاوف العامة من تعاظم قدرة الذكاء الاصطناعي بشكل يصعب السيطرة عليه، بدأت شركة غوغل مثلًا في العمل على إضافة خاصية تسمح بغلق جميع منتجاتها نهائيًّا؛ لاستخدامها في الطوارئ في مواجهة «انقلاب الذكاء الاصطناعي» متى وقع.
قد يهمك أيضًا: مسلسل «Westworld» يثير التساؤل: هل نعيش في واقع افتراضي؟
8. لا تفهم الحكومة أن الابتكار ليس عملية بطيئة/خَطِّية/تدريجية
لا تفهم معظم الحكومات، بحسب «جوما»، أن التكنولوجيا تتطور بشكل «أُسِّي» وليس بشكل «خَطِّي» (الزيادة الخطية تكون بالإضافة، مثل 1، 2، 3... إلخ، أما الزيادة الأُسِّية فتكون بالمضاعفة، مثل 2، 4، 8... إلخ)، ويؤدي هذا في رأيه إلى اندهاش المسؤولين باستمرار من الابتكارات الجديدة وعجزهم عن التعامل معها.
ويقدم المقال شركة «أوبر» (Uber) مثالًا على ذلك؛ فقد انفجرت شعبيتها بشكل مباغت؛ مسببة احتجاجات واسعة من سائقي التاكسي التقليديين، وكانت الحكومات بطيئة ومرتبكة في التعامل مع هذه المشكلة. ويفسر «جوما» هذا البطء بأن الحكومات تفكر في الابتكار باعتباره عملية بطيئة وخطِّية، وقد «كان الأمر كذلك في الماضي بالفعل، إلا أنه لم يعد كذلك الآن». ويدعو كاتب المقال إلى مقاومة هذه العقلية بلجوء الحكومات إلى المستشارين ذوي المعرفة الواسعة بالعلم والتكنولوجيا، ويبدو أن هذا أصبح أمرًا لا غنى عنه في عصر تتشابك فيه التكنولوجيا مع السياسة أكثر من أي وقت مضى.
أحمد الشربيني