لماذا نتجاهل الفتيات المصابات بالتوحد؟
العديد من الأفلام تناولت قضايا اضطراب التوحد، ولعل أشهرها «My Name is Khan» و«I Am Sam»، إلا أن معظم تلك الأفلام أبطالها من الذكور، أفلا يصيب التوحد النساء؟
تجيب الكاتبة والمحررة بيث آركي على هذه التساؤلات في مقال لها على موقع Childmind.org، تستعرض فيه نسب الإصابة باضطراب التوحد بين الإناث والذكور، وتباين أعراض الاضطراب لدى كل منهم، والتحديات التي تواجهها المصابات في حال تأخر تشخيصهن أو عدم تشخيصهن من الأساس.
المعاناة الصامتة
تبين الدراسات، بحسب آركي، أن عدد الأولاد الذين يشخصون باضطراب طيف التوحد يفوق عدد الفتيات بفارق كبير: أكثر من أربع حالات من الأولاد لكل حالة من الفتيات، وفقًا للإحصائيات الأخيرة لمركز مكافحة الأمراض. وتشير إلى أن الباحثين يعزون ذلك إلى الاختلافات الجينية. بيد أن الأطباء والباحثين خلصوا أيضًا إلى أن كثيرًا من الفتيات «الأسمى أداء» من المصابين بالتوحد يُغفَل تشخيصهن بمنتهى البساطة، ويطلَق عليهن وصف «الفتيات المفقودات» أو «المختبئات في مرمى البصر»، نظرًا لتجاهلهن أو تأخر تشخيصهن. فهن لا يتواءمن مع الصور النمطية للمرض، أو أن أعراض مرضهن تفسر على نحو خاطئ باعتبارها شيئًا آخر. ووفقًا لبيث، قد تكون هؤلاء الفتيات أكثر قدرة على إخفاء دلائل مرضهن، على الأقل في صغرهن.
حتى عندما تكون حالة الفتيات أكثر وضوحًا، قد يتعرضن للتجاهل. وتضرب الكاتبة مثالًا على ذلك بطفلي سيدة تدعى ميليسا، كلاهما مشخص بالتوحد، لكن رغم أن أعراض الابنة ليسا أكثر وضوحًا بكثير من أعراض الابن جاستين، تجاهل الأطباء أعراضها لمدة ثلاث سنوات.
تقول ميليسا: «نظريًا، بدا أنها تعاني من كل أعراض المرض». عانت ليسا من تأخر لغوي ملحوظ، وعجزت عن تكوين جُمل حتى سن الرابعة، ولم تمارس ألعاب التظاهر، إضافة إلى العديد من النوبات العصبية التي عانت منها كل يوم. تشير الأم إلى علامات أخرى ظهرت على ابنتها، إذ كانت تجمع دُماها المحشوة في صف واحد، وتلف في دوائر، وتسعى باستمرار إلى الحصول على مدخلات حسية، فضلًا عن عدم قدرتها على التعامل مع أي تغيير في روتينها اليومي.
ورغم أن الصعوبات التي واجهتها ليسا جعلتها مؤهلة للحصول على تشخيص مبكر وعمرها 18 شهرًا، فإن ذلك لم يحدث إلا وهي في السادسة من عمرها، عندما شخصها طبيب أعصاب تنموي بالتوحد.
النموذج الموجود لتشخيص أحدهم باضطراب التوحد التقليدي مفصل على الذكور.
شُخص ابن ميليسا أيضًا في عمر السادسة، ولكن من قبل أول طبيب يُعرض عليه، رغم أن أعراضه كانت أقل وضوحًا بكثير.
تستكمل ميليسا قصتها قائلة: «لم يعتقد طبيب الأعصاب التنموي الذي فحص ليسا أن التوحد شائع لدى الفتيات، واختلق أعذارًا لسلوكها وأسبابًا تبرر استحالة إصابتها بأي درجة من التوحد». وتردف: «لدرجة أنه عند مرحلة ما، قيل لنا إن ابنتي كانت ثقتها في نفسها متدنية، ولهذا السبب وحده لم تتكلم. وقيل إن مشاكلها، بالطبع، كانت نابعة عن أخطاء في التربية. لم يخبرنا أحد قط بأمور مماثلة عن ابننا».
الفتيات و«الصورة النمطية» للمرض
يُعرف التوحد، بحسب ما ورد في المقال، بأنه اضطراب في النمو يتسم بنوعين من السلوكيات غير المعتادة: قصور في التواصل والمهارات الاجتماعية، وأنماط السلوك المحدودة أو المكررة.
غالبًا ما تكون لدى أطفال التوحد مشاكل متعلقة بالتكامل الحسي، وهنا تكمن المشكلة، وفقًا لسوزان إبستاين الطبيبة النفسية والحائزة على درجة الدكتوراه، والتي تقول: «اتضح أن النموذج الموجود لدينا لتشخيص أحدهم باضطراب التوحد التقليدي مفصل على الذكور. لا يعنى هذا أنه لا يلائم الفتيات على الإطلاق، بل أن الفتيات أميَل إلى الظهور بمظهر أكثر هدوءًا، فهن لا يُظهرن بالضرورة نفس القدر من أنماط السلوك المكررة والمحدودة، أو أن تلك الأنماط تتجلى لديهن بصورة مختلفة».
كثيرًا من الفتيات المصابات بالتوحد يُستبعد إصابتهن بالاضطراب لأنهن قد يتبادلن الابتسامات مع الآخرين، أو قد يكون لديهن تواصل بصري أو مهارات اجتماعية أفضل.
تشير سوزان إلى أن القوالب النمطية قد تحول دون تمييز الاضطراب، «فبينما تجذب الجداول الزمنية للقطارات أنظار الأولاد، قد تبدي الفتيات اهتمامًا مفرطًا بالخيول أو الأحصنة الأسطورية أحادية القرن، وهو المتوقع من الفتيات». وتضيف أنه «قد يجري إغفال درجة الاهتمام، والتسفيه من درجة الشذوذ عن المألوف. فالأعراض لا تظهر بوضوح سوى للعين الخبيرة». وتقول أيضًا إنه مع تزايد حالات الإصابة بالتوحد، أصبح تشخيص الأولاد الأقل تأثرًا بالاضطراب أكثر صعوبة أيضًا.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2005، تبدي الفتيات المصابات بالتوحد أنماطًا من السلوكيات المكررة والمحدودة أقل من تلك التي يبديها الأولاد. وخلصت الدراسة إلى أن الاختلافات بين أدمغة الفتيات والأولاد المصابين بالتوحد تساعد على تفسير هذا التباين.
توضح ويندي ناش، وهي طبيبة نفسية للأطفال والمراهقين في معهد عقل الطفل وحائزة على دكتوراه في الطب، أنه من المرجح أن الفتيات يتحكمن في سلوكهن في العلن، ولذلك يعجز المعلمون عن ملاحظة الفوارق بينهن وبين الأطفال الطبيعيين. وتفسر ذلك قائلة إن «كثيرًا من الفتيات المصابات بالتوحد يُستبعد إصابتهن بالاضطراب لأنهن قد يتبادلن الابتسامات مع الآخرين، أو قد يكون لديهن تواصل بصري أو مهارات اجتماعية أفضل، لذا قد تكون أعراضهن أشد خفاءً».
إذا كانت الفتاة تمتلك مهارات اجتماعية ولكنها تُظهر سلوكًا غريبًا، كما هو الحال مع الغالبية العظمى من الفتيات، تعتقد الدكتورة ويندي أن «الناس يتجاهلون حالتها».
مشكلة التشخيص الخاطئ
تقول الدكتورة سوزان إن هناك سببًا آخر يفسر التشخيص الخاطئ للفتيات المصابات بالتوحد، أو تشخيصهن في وقت متأخر عن الأولاد، وهو أنه غالبًا ما تشكو الفتيات من الاكتئاب أو القلق أو تدني الثقة بالنفس، وقد لا «يتعمق الأطباء في حالتهن لاكتشاف الخلل الاجتماعي» الذي يسببه اضطراب التوحد لهن.
إضافة إلى ذلك، تلاحظ الدكتورة ويندي أن الفتيات قد تُشخص عن طريق الخطأ باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD). وتقول: «أصادف الكثير من الفتيات اللاتي شُخصن باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في صغرهن، ممن يستوفين المعايير الخاصة بالتوحد». وتستطرد قائلة: «تُظهر هذه الفتيات نشاطًا مفرطًا دون قدر كبير من الاعتلال الاجتماعي، أو تُظهرن نوعًا مختلفًا من الاعتلال الاجتماعي، ولذلك لا تلاحَظ أعراض التوحد عليهن».
الفتيات «يخفين» أعراضهن
أحد الأسباب الأخرى وراء احتمال عدم تشخيص الفتيات بالتوحد هو قدرتهن على «المضي قدمًا».
تقول الدكتورة سوزان: «تميل الفتيات إلى التعايش (...) قد تعجزن عن فهم ما يحدث، لكنهن ستقلّدن ما ترينه. وقد تفلت الفتاة من الملاحظة حتى تصل إلى الصف الثالث أو الخامس، ولكن حالما تنتقل إلى المرحلة الإعدادية أو الثانوية، تبدأ المشاكل في الظهور».
ينطبق هذا على ليسا، التي تبلغ من العمر 13 عامًا الآن. تقول ميليسا عن ابنتها إنها «أقل نضجًا من أقرانها الطبيعيين، فضلًا عن أن الطريقة التي تتصرف بها الفتيات من الناحية الاجتماعية معقدة للغاية. وبسبب ذلك، يصعب عليها للغاية الحفاظ على علاقات الصداقة التي تكونها، واسمحي لي أن أخبرك بأن الفتيات في عمر الثالثة عشرة لا يتقبلن من هم مختلفات عنهن».
ضريبة عدم التشخيص
تقول الدكتورة سوزان إن الفتيات المصابات بالتوحد ينتهي بهن الأمر إلى التساؤل حول ما إذا كان بهن خطب ما، وهو ما يؤدي بدوره إلى إصابتهن بالاكتئاب والقلق وفقدانهن الثقة في أنفسهن. تبذل هذه الفتيات قصارى جهدهن للاندماج، مما يستنزف طاقتهن. وتشرح سوزان ذلك بالتفصيل فتقول إن المشكلة ترجع إلى «التقليد»، أي أنك «لا تفهم ما تحاكيه بالضرورة، لذلك تحاول فعل ما يفعله الناس فحسب. وإذا كنت تحاول التقليد دون أن تفهم، فهذا يُصعِّب عليك الأمور للغاية».
قد تتعرض الفتيات المصابات بالتوحد للتنمر فقط لأنهن «مختلفات».
تشير الدكتورة ويندي إلى أن اضطراب التوحد الأقل حدة لدى الفتيات غالبًا ما تظهر مؤشراته الأولية بسبب هذه المشاكل الاجتماعية، أو بسبب الاكتئاب الذي ينجم عنها. وتضيف: «تعاني الفتيات اللاتي نطلق عليهن مسمى ذوي اضطراب التوحد الطفيف، من مشكلات اجتماعية في سن المراهقة، فهن يركزن بدرجة مفرطة على موضوع بعينه، ولا يشاركن في الدراسة بكامل طاقتهن أو إمكاناتهن». وتضيف: «قد يكون الاكتئاب أكثر شيوعًا لدى الأطفال الأسمى أداء من المصابات بالتوحد، وعليه فستلجأن إلى العلاج من أمور مثل الاكتئاب أو ضعف الأداء الدراسي. وعندها يتضح لي بصورة أكبر أنهن يعانين من رغبة محدودة في الاندماج ومشكلات في التواصل الاجتماعي».
الضريبة الأخرى للتعرض للتجاهل هي الحرمان من الدعم المبكر، اللازم لتنمية المهارات. تقول الدكتورة سوزان عن أهمية التدخل المبكر: «عندما تشخص الفتيات في وقت متأخر، يحرمن من الكثير من التدخلات الاجتماعية التي تصبح أكثر صعوبة لاحقًا. هذا هو الخطر الذي تتعرض له كل فتاة تُشخص في مرحلة متأخرة من الاضطراب».
تؤيد الدكتورة ويندي ما سبق ذكره، مضيفة أن هؤلاء الفتيات يحرمن من فرص الحصول على الدعم المناسب على الصعيدين الدراسي والاجتماعي. وتقول ويندي إنه «من الناحية الأكاديمية، يصعب عليهن التركيز على الموضوعات التي لا تمثل لهن أي أهمية. وينطبق هذا على من تعاني من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، بل وبدرجة أكبر على من تعاني من التوحد».
الأخطار التي تهدد المتوحدات
قد تتعرض الفتيات المصابات بالتوحد للتنمر فقط لأنهن «مختلفات». وتوضح سوزان أنه نظرًا لأن الفتيات تعجزن عن فهم التلميحات الاجتماعية وترغبن في أن تكن محبوبات، فإن اضطرابهن قد يجعلهن أكثر سذاجة، ويحولهن إلى فريسة سهلة لمن يحاول استغلالهن، سواء كان متنمرًا أو معتديًا جنسيًا. وتقول سوزان: «قد ترغب الفتيات في هذا التواصل، بيد أنهن لا يفهمن ما ينطوي عليه ولا ما هي قواعده (...) قد يسهل عليهن للغاية الامتثال لما تمليه عليهن هرموناتهن دون فهم ما ينطوي على ذلك من مخاطر. وفي بعض الأحيان، حتى وإن خضعت للتوعية، سيحتجن إلى الدعم المتواصل كي تكن قادرات على الحفاظ على سلامتهن».
تشير ميليسا إلى أنه ثبتت صحة ذلك في ما يتعلق بابنتها ليسا، وتفسر ذلك قائلة: «اضطررت إلى التفكير في أمور الفتيات في مرحلة أبكر مما توقعت». «لقد سبق أن تعرضنا بالفعل لحادثة، إذ لمسها أحد الأولاد بطريقة غير لائقة، لكني ألتمس له العذر لأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة أيضًا، فهو "لم يفهم" أن ما يفعله خاطئ».
وتضيف أن أحد أبرز مواطن قوة ابنتها هو مدى تقبلها للآخرين، فهي «دائمًا ما ترى الجانب الحسن من الناس، حتى عندما يعاملونها بوقاحة». ولكن «نظرًا لقدرتها الكبيرة على التقبل ولطفها البالغ، قد يسهل على الآخرين استغلالها أو التنمر عليها، دون أن تفصح عن الأمر أو يصدر عنها أدنى رد فعل».
تشير الدكتورة ويندي إلى أن أحد مجالات الدراسة يعيد النظر في كيفية مساعدة الفتيات اللاتي تعانين من اضطراب التوحد، فتقول: «هناك بحوث موسعة حول الكيفية التي تُظهر بها الفتيات والأولاد أعراضهم بطريقة مختلفة، والكيفية التي ينبغي أن تكون بها أساليبنا العلاجية أكثر ملاءمة لأعراض التوحد عند الفتيات منها عند الأولاد».
لكن أولًا، ينبغي الاعتراف بحالة هذه الفتيات وتقبلهن. وسيتطلب هذا مزيدًا من الوعي والحساسية من جانب الآباء والمعلمين والأطباء.
ياسمين أكرم