مسلسل «Westworld» يثير التساؤل: هل نعيش في واقع افتراضي؟
قبل شهر أو أكثر قليلًا، بدأت قنوات «HBO» إذاعة مسلسل «Westworld» ذي الإنتاج الضخم، الذي تجاوز مئة مليون دولار لعشر حلقات، 25 مليونًا منها للحلقة الأولى فقط. بدا ذلك للمتابعين كأن الشبكة الأمريكية تمهِّد لعرضها الذي سيخلُف «Game of Thrones» في صدارة الإنتاجات التليفزيونية، وشَغلِ عقول ملايين المشاهدين، وقلبِ الإنترنت رأسًا على عقب كل أسبوع بعد عرض حلقاته.
يتعرَّض المسلسل لمسألة جدلية، إذ يطرح فكرة ما قد يفعله البشر لو صادفوا فرصة إطلاق العنان لغرائزهم دون خوف عواقب، لكنه في الطريق إلى ذلك لا ينسى أسئلة طرحها كُتَّاب الخيال العلمي منذ زمن ولا تزال تثير تساؤلات متجددة، على رأسها: هل الواقع الذي نعيشه «واقع» حقًّا؟
عندما تتصرف الآلة كإنسان
تعتمد أحداث «Westworld» على فكرة تقنيات «الذكاء الاصطناعي» (Artificial intelligence)، لكن فكرة المسلسل ليست أصلية، بل استُلهِمت من فيلم حمل الاسم ذاته عام 1973، كتبه وأخرجه «مايكل كرايتون» (Michael Crichton)، الذي قدَّم للسينما والتليفزيون ما يزيد على 40 عملًا، أشهرها سلسلة أفلام «Jurassic Park» و«The 13th Warrior» ومسلسل «ER».
ارتكزت حبكة «كرايتون» الأساسية في الفيلم إلى مسألة انقلاب الماكينات على البشر، في عالم ترفيهي يضم ثلاث مدن؛ واحدة في غرب أمريكا، وأخرى رومانية، وثالثة من أوروبا في العصور الوسطى. كان هذا هو فيلمه الأول للسينما، ويداه مقيَّدتان إلى ميزانية ضئيلة للغاية، لكنه رغم ذلك استخدم تقنية «CGI» ثنائية اﻷبعاد للمرة اﻷولى بشكل ضخم في تاريخ الأفلام، ليقدم لنا منتجًا لم ينجُ من فخ التطويل وبعض الأخطاء العلمية، لكنه كان جيدًا بمقاييس زمنه، وضمن ترشيحات لثلاث جوائز عامي 1974 و1975.
المسلسل، الذي جاء بعد 43 عامًا من فيلم كرايتون، تجاهل قصتَين من القصص الثلاث وركَّز على واحدة، ليحكي لنا ما يحدث داخل شركة تدير متنزَّهًا ترفيهيًّا للأغنياء يُحاكي نظام مدن الغرب الأمريكي. بلدة يسكنها نحو ألف شخص، ما بين رعاة بقر وموظفين وعاهرات وباحثين عن الذهب ولصوص وفتيات بريئات وقتلة، كلهم ليسوا بشرًا بل روبوتات مخلَّقة تطابق اﻹنسان في الشكل والحركة، تم تغذية أدمغتها الكمبيوترية بسيناريوهات مكتوبة سلفًا، تجعلها تؤدي أدوارًا محسوبة في قصص متداخلة، تصنع عالمًا شديد التعقيد يفتح ذراعيه للزائرين مرحِّبًا.
زوار ذلك العالم يشاركون في لعبة «عالم افتراضي»، حيث يمكن للزائر أن يقصد ماخورًا فيستلقي في سرير مع إحدى بائعات المتعة، أو يلاحق خارجًا عن القانون في دروب الصحراء الأمريكية، أو يقتل المأمور ويعلن نفسه منفذًا للقانون في البلدة، أو حتى يكتفي بالتسكُّع في الشوارع، بحزامه المتدلِّي منه مسدس وقبَّعته المُسدَلَة على جبينه وخلَّته بين أسنانه. وسائل المتعة لا محدودة، والتفرقة بين الناس الطبيعيين والروبوتات مستحيلة، وهؤلاء مبرمَجون على عدم إلحاق أي أذى بالآدميين. ومع شعورهم بالأمان، يُرخي معظم الزوار أعنَّة جيادهم وغرائزهم على حدِّ سواء، فيقضون أوقاتهم داخل المدينة في قتل ونكاح كل ما يقابلونه.
نحن نعيش في «المستقبل»
تداعب الفكرة خيالنا وتثير الحماس، ما من أحد شاهد الفيلم أو المسلسل إلا وتمنى أن يعيش ليرى تلك التقنيات ويجربها، مدفوعًا بمنطق أن المستقبل ما هو إلا ترجمة لروايات وأفلام الخيال العلمي بطريقة أو بأخرى. خذ رواية مثل «من الأرض إلى القمر»، التي كتبها الفرنسي جول فيرن قبل نحو مئة عام من إطلاق أول صاروخ إلى القمر، أو سلسلة أفلام مثل «Star Trek» تنبأت بكمية لا بأس بها من الاختراعات المستقبلية التي صارت متاحة الآن؛ كالطباعة ثلاثية الأبعاد ونظارات جوجل والآيباد، وأفلامًا أخرى قدمت أفكار بطاقات الائتمان، وتقنية التعرُّف على الوجوه في الصور ومقاطع الفيديو، والغواصات، وأجهزة التلفاز المسطَّحة، وصولًا إلى الأحذية التي تربط نفسها، والتي أعلنت شركة «Nike» طرحها للبيع عام 2015.
أخيرًا، تطورت الدُمى الجنسية إلى درجة مذهلة (يمكنك مشاهدة فيديو لمراحل تصنيع نسختي الأنثى والذكر، لكن اعلم أنها تعرض صورًا لأجزاء تماثل أعضاء الإنسان الجنسية)، وصارت تماثل أجساد النساء والرجال إلى درجة قريبة من الكمال، ومتاحة للبيع عن طريق الإنترنت. وفي مايو 2015، أصيب البريطانيون بالذعر عندما خرجوا من بيوتهم؛ إذ كانت إعلانات بيع الروبوتات البشرية للخدمة المنزلية تملأ الشوارع، غير أنهم اكتشفوا لاحقًا أنها دعاية لمسلسل «Humans» المبني على تلك فكرة.
فلنلهُ قليلًا..
يميل الإنسان بطبيعته إلى اللهو، ومنذ تكوين المجتمعات الحضرية يسعى لخلق وسائل ترفيه متنوعة، تأخذه بعيدًا عن حياته اليومية إلى واقع جديد، تريه أماكن لا يراها، مخلوقات لم يسمع بها، وأناسًا لن يعرفهم. كانت البداية بمحاولة إحضار ذلك الواقع المختلف إلى واقعنا، عن طريق أداة توضع على العينين فتُري مرتديها صورًا من أماكن مختلفة. تطورت تلك اﻷداة حتى وصلت إلى نظارات «View Master» الحمراء الشهيرة، التي شكَّلت جزءًا عظيمًا من طفولة الكثيرين منذ اختراعها عام 1939.
كخطوة متوقعة مع القفزات التكنولوجية العملاقة خلال العقدين الأخيرين، نجحت البشرية في خلق واقع افتراضي (Virtual Reality) متطور، وصل إلى ذروته مع نظارات جوجل، تبعتها أدوات مماثلة من شركات كبرى مثل «سامسونج» و«فيسبوك»، لكن التطور لم يتوقف عند هذا الحد، لأن «The Void» كانت في الانتظار. تأسست الشركة في العام 2014، مستقيةً اسمها من الأحرف الأولى لـ«The Vision of Infinite Dimensions» (رؤية ذات أبعاد لا نهائية)، صانعةً عالمًا ذا تفاصيل غير حقيقية مبنية على أساسات واقعية، يمنح زائره فرصة الحياة داخل اللعبة، لا ممارستها على الشاشات فقط، بشكل يشبه ذلك الذي يقدمه لنا «Westworld».
في بداية أكتوبر 2016، أعلن بروفيسور من جامعة أوكسفورد أن الحضارة البشرية أمامها «خطوات قليلة قبل أن تشرع في تصميم متنزه على نمط الغرب الأمريكي، يضم أبطالًا وأشرارًا من الروبوتات»، وقبل ذلك بنحو شهرين، أكدت مختبرات «Interactive Architecture» التابعة لكلية لندن للهندسة المعمارية، أنها نجحت في تطوير جلد صناعي يُلبس على الجسد، فيمنح مرتديه القدرة على الشعور بأحاسيس مصنَّعة في صورة بيانات إلكترونية تسري إليه من جهاز كمبيوتر، ما سيساعد في تحسين مستوى ألعاب الواقع الافتراضي، بجعل اللاعب «يحُسُّ» بعناصر اللعبة.
هل يخشى إيلون ماسك «الماتريكس»؟
خلال السنوات القليلة منذ بداية القرن الحالي، صنعنا واقعًا افتراضيًّا، وواقعًا معزَّزًا (Augmented Reality)، ونسير على درب صناعة آلات ذات هيئة بشرية وذكاء اصطناعيّ عالٍ، فهل علينا أن نبدأ مرحلة الشك فيما لو كان العالم الذي نعيش فيه هو شيء يشبه ذلك الذي نصنعه؟
قبل نهاية الألفية الثانية بقليل، فاجأ الأخَوان وتشاوسكي، اللذان صارا «الأختين» لاحقًا، العالم بفيلم يصوِّر مستقبل الإنسان سوداويًّا، إذ يُحكم بواسطة آلات فائقة الذكاء تُخضع البشر وتستخدمهم لأجل توليد الطاقة لصالحها، عن طريق حفظهم نائمين في أوعية مخصوصة، ونقل وعيهم إلى عالم طبيعي لكنه افتراضي تخيُّلي، يشبه الواقع الذي نعيشه الآن.. كان هذا هو «The Matrix».
وفي الوقت الحالي، تأخذ شركات البليونير «إيلون ماسك» (Elon Musk) خطوات متسارعة لتحقيق مشروعات مستقبلية النزعة، منها سيارات «تسلا» الكهربائية، وهي الأولى من نوعها بخاصية القيادة الذاتية، بالإضافة إلى نظام النقل فائق السرعة «هايبرلوب»، الذي من المفترض أن يختصر المسافة بين ولاية نيويورك الأمريكية والعاصمة الصينية بكين إلى نحو ساعتين، كما أنه كان أول فرد يطلق صاروخًا إلى الفضاء لأغراض تجارية. يهتم «ماسك» كذلك بتطوُّر الذكاء الاصطناعي، وما يمكن أن يتحول إلى مستقبل أسوَد تسيطر عليه آلات تحكم البشر كما حدث في «The Matrix»، بفرض وصولها إلى درجة عالية من التطور.
إننا لا نتحدث عن بليونير عادي هنا، بل عن رجل عبقري يوصف بأنه «محقق الأحلام وصانع المعجزات»، حصل على درجات علمية عالية في الفيزياء والاقتصاد وإدارة الأعمال، وحين بلغ 31 عامًا، كان قد أسس ثلاث شركات مليارية رأس المال بالفعل.
دشَّن «ماسك» في 2015 مشروع «OpenAI»، وهي شركة بحثية غير هادفة للربح معنية في المقام الأول بإبطال أي تهديدات قد تطال الإنسانية بسبب الذكاء الاصطناعي. يجاهد علماء المشروع للوصول إلى تكنولوجيا متطورة لكنها تظل تحت تحكم البشر، فيما يبدو نتيجة منطقية لشخص شاهد «The Matrix» وأفلام خيال علمي أخرى تدور حول الفكرة نفسها، لكن «محقق الأحلام» له وجهة نظر أخرى أفصح عنها في يونيو 2016.
إنه يعتقد أن الكون الذي نعيش فيه عبارة عن «ماتريكس» بنسبة أكثر من 99.9999%.
قال الرجل، خلال مؤتمر تكنولوجي بمدينة سان فرانسيسكو، إنه يعتقد أن الكون الذي نعيش فيه عبارة عن «ماتريكس» بنسبة أكثر من 99.9999%. في الواقع، أكد ماسك أن نسبة «واقعية» عالمنا الحالي هي واحد إلى مليارات! وخلال المؤتمر ذاته، أوضح أنه إن لم نكن نعيش داخل محاكاة للواقع، فإن نهاية العالم صارت دانية للغاية، مستشهدًا بالتسارع المُطَّرِد في عجلة التطور.
قبل 40 عامًا، كانت لعبة «Pong» هي فخر تكنولوجيا الترفيه، ولم تكن أكثر من مستطيلين ونقطة متحركة، واﻵن لدينا نماذج محاكاة يلعبها ملايين في الوقت ذاته، وألعاب واقع معزَّز، مثل «Pokémon Go»، وواقع افتراضي، مثل «The Void»، وفي ظل التسارع المطرد في التقنيات، فإننا قريبًا سنصنع ألعابًا لن نستطيع التفرقة بينها والحقيقة.
إذا كانت التكنولوجيا التي وصلنا إليها الآن، على بدائيَّتها وعجزها، في طريقها إلى خلق واقع غير موجود في الحقيقة، لكنه مُقنِع بكل أحاسيسه وتفاصيله الدقيقة إلى درجة خداع حواسِّنا، وإذا كانت متوَقَّعًا لها أن تصبح في متناول الجميع خلال سنوات كـ«وسيلة ترفيه» يسهُل استخدامها على أجهزة في المنازل.. ألا يدعونا ذلك إلى أن نتساءل، تمامًا مثل «إيلون ماسك»، عما إذا كان هذا العالم الذي نعيش فيه، وهذه الكلمات التي تقرأها الآن، هي واقع افتراضي مُخلَّق عن طريق آخرين؟ من سيكون قادرًا على تحديد الواقع من الخيال؟
على الأغلب، لن نعرف الإجابة حتى تنتهي هذه «اللعبة».