فرنسا × أوروغواي: صراع أدرينالين الشباب وأحلام التقاعد المشرف
(1)
دائمًا ستجد النصيحة التقليدية: لا تكتب عن كرة القدم من خارج الملعب. التوُّرط عاطفيًّا في ما يحدث خارج التسعين دقيقة وقبلها هو ما يُنتج تحليلات غير دقيقة وغير مكتملة، والأسوأ: تبدأ من الفراغ وتنتهي إليه. أن يكتب لاعب رسالة إلى ابنته أو إلى نفسه وهو صغير لا يعني أنه سيلعب مباراة جيدة، مهما كانت رسالة مؤثرة، لأنه قد يكتب رسالة مؤثرة ثم يُصاب، هكذا ببساطة.
لكن موسم كأس العالم يسمح ببعض الاستثناءات. تكتسب المسألة أبعادًا أخرى غير أقدام اللاعبين ومهاراتهم. كرة القدم الحديثة مساحة استعراض بالمعنى التلفزيوني للكلمة، كما هي مساحة مهارة ونتائج. نجلس أمام الشاشات لا لنشاهد لعبة حلوة فقط، بل كذلك لاعبين يرغبون في تحقيق الفوز، أو يتظاهرون بالإصابة المستمرة، أو يعتذرون لجماهيرهم بعد الخسارة، أو ينفجرون غضبًا. إنهم مؤدُّون بمعنى من المعاني.
الكاميرا تغير البشر، ولعبة الكرة الحديثة قائمة على استعراض، يشفع لوجوده كم الأموال المتدفقة لكي يجتمع هؤلاء اللاعبون أمامنا في هذه اللحظات.
هذا هو مدخلي لمشاهدة كرة القدم والاستمتاع بها، وهو نفس المدخل الذي به سأشاهد مباراة فرنسا وأوروغواي. مدخل قد يعتبره أي مشجع أو متابع مخلص «خارج الملعب» تمامًا وبعيدًا عن جماليات اللعبة، لكنه يأخذ الظاهرة إلى آخرها، ويتعامل مع لحظاتها على أرض الملعب كامتداد واسع لما حدث خارجها، ما سيدخل به الفريقان إلى أرض الملعب، وما الذي يحمله كل منهما إلى أرض المباراة.
(2)
«في اللحظة التي تعبر فيها الخط الأبيض وتدخل أرض الملعب، عليك أن تعرف أنه لا يوجد في الداخل إلا كرة القدم. لا شيء مما يحدث خارج الملعب سيساعدك في أي شيء داخله. لا يوجد شيء آخر أصلًا» - من رسالة «إدينسون كافاني» إلى نفسه وهو صغير.
(3)
الطريقة التي يرى بها كل فريق نفسه تتجلى في بعض الأحيان في الطريقة التي يرى كل فريق الفريق المنافس. أوروغواي تخاف من سرعة هجوم فرنسا، وفاعليته التهديفية العالية. يظهر هنا تحديدًا اسمي «مبابي»، لاعب أسمر اللون، يبلغ من العمر 19 عامًا، وفي المباراة الأخيرة التي لعبتها فرنسا ضد الأرجنتين، أصبح ثاني أصغر لاعب في تاريخ كرة القدم يحرز هدفين في مباراة واحدة، قادت فريقه إلى الفوز، المركز الأول هو بيليه طبعًا.
يلعب مبابي في باريس سان جيرمان، وتمثل أصوله التي ينحدر منها، أب كاميروني وأم جزائرية، حالة متكررة في المنتخب الفرنسي، الذي يعتمد قوامه الأساسي على الأجيال الأولى والثانية من المهاجرين. هنالك مسألة أخرى تتعلق بفرنسا، هي أن فريقها هو ثاني أصغر معدل أعمار في بطولة كأس العالم كلها. كلهم لاعبون صغار يتوقون إلى فرصة أكبر.
دفاع أوروغواي، على ناحية أخرى، هو واحد من أكبر مخاوف فرنسا، تنظيمه أمام المرمى، والطريقة التي يتكتلون بها لمنع الفريق الخصم من المرور تثير التأمل. تمتلك أوروغواي واحدًا من أقوى دفاعات البطولة، إن لم يكن أقواهم على الإطلاق، حيث دخل في شباكهم هدف وحيد. ومدافع مثل «جوديين» الذي يبلغ 32 عامًا، تقع عليه مهمة استغلال خبرته في التحجيم من انطلاق مبابي.
(4)
لن يبدأ «كافاني» المباراة، مما يضع هجوم أوروغواي في مشكلة حقيقيّة. بعد أن أحرز هدفين في مباراة فريقه أمام البرتغال، أصيب كافاني، واستكمل المباراة على مقاعد البدلاء.
و«بوغبا» من فرنسا يواجه ضغوطًا لا بأس بها. لا يظهر هذا اللاعب عادة في المباريات الهامة. يكون أداؤه هزيلًا، غير متحقق، ويفتقر إلى الثقة. لم يظهر بوغبا على الإطلاق مع فرنسا كما يظهر في العادة مع فريقه مانشستر يونايتد. وهو يدخل إلى هذه المباراة محملًا بعبء اثبات نفسه.
(5)
الكرة في فرنسا لا تنفصل عن السياسة (وهل تنفصل أصلًا في أي مكان آخر؟).
بعد فوز فرنسا بكأس العالم 1998 في مباراة تغلبت فيها على البرازيل بثلاثة أهداف. تسابق السياسيون للاستفادة من هذا الفوز. تصاعدت شعبية «جاك شيراك» لمستويات قياسية بعد ظهوره مع الفريق محتفيًا بهم. ومثّل الثلاثي «ليليان تورام»، و«تييري هنري»، و«زين الدين زيدان» تنوع فرنسا الثقافي في أبهى صوره. هل هنالك تنوع ثقافي أكبر من أن تُرسم صورة زين الدين زيدان بالأنوار على قوس النصر؟ استمر هذا الاحتفاء بالفريق المتباين، وبالطريقة التي يحقق بها مهاجرو الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الفوز لبلادهم
لكن هذا لم يدم طويلًا. فكما يوحد الفوز الجميع تحت هستريا الفرحة الجماعية، فللهزيمة ثقلها الجماعي كذلك. في نهائي عام 2006، يخرج زين الدين زيدان من الملعب، بعد أن نطح برأسه «ماتيرازي»، اللاعب الإيطالي، ردًا على استفزاز من الأخير. عندها تصاعدت أصوات تتحدث عن الطباع العربية في الملعب، والتي بالطبع تجعل من هذا التصرف «عربيا»، وتجعل تفسير فعل زين الدين زيدان، كفعل عربي. تزامن هذا مع موجة جديدة من التقدم اليميني في فرنسا.
(6)
«شعرت أن الفريق يريد الفوز، أن الفريق يريد أن يعود بالكأس إليّ» - الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، متحدثًا عن زيارته إلى معسكر الفريق الفرنسي قبل سفره إلى روسيا.
(7)
تدخل أوروغواي إلى مباراتها مع فرنسا تحت قيادة «أوسكار تاباريز» كمدرب. هذه هي المرة الرابعة التي يتولي فيها تاباريز مسئولية تدريب المنتخب في كأس العالم. يعاني تاباريز من متلازمة «جوليان باري»، وهو اضطراب في الجهاز المناعي للجسم، يتسبب في ضعف عام في الجهاز العصبي، وقد يؤدي إلى شلل في الذراعين والقدمين. ظهرت أخبار مرض تاباريز في 2016، ومن ساعتها، وهو يظهر في مبارياته بالعكازين الذين أصبحا علامة مميزة له.
فازت أوروغواي بكأس العالم مرتين، الأولى كانت أول كأس عالم على الإطلاق، والتي أقيمت على أرضها، والثانية بعد 20 سنة في البرازيل، ومن ساعتها تحاول أوروغواي دون جدوى.
يبلغ عدد سكان أوروغواي 3.3 مليون نسمة. وهذه الدولة الصغيرة، تتميّز باهتمام غير عادي بكرة القدم. هذه المرة تبدو الأمور أقرب من أي وقت مضى. هنالك الإصرار. وبعض العدوانية والقوة. وهي فرصة تحقق لنجوم فعلوا كل شيء مع فرقهم. ربما تكون الأخيرة.
(8)
كرة القدم تحدث داخل الملعب بكل تأكيد. لكن متابعته وكأنه مجموعة من اللاعبين المجرّدين من أي سياق هو مسألة لا تبدو صائبة على الإطلاق. كرة القدم تحدث في خارج الملعب كما تحدث داخله.