أكثر من مجرد مقاطع فيديو: هل يغير يوتيوب تقاليد الصعيد؟
بعيدًا عن الطريقة النمطية التي يقدمها الفن والأدب التقليدي عن مجتمعات صعيد مصر البعيد، غزت مواقع السوشيال ميديا، وخصوصًا يوتيوب، فيديوهات قليلة التكاليف ينتجها شباب صعيدي، تناقش قضاياهم المحلية، بطريقة ساخرة.
موجة استطاعت، خلال أشهُر قصيرة، أن تراجع كثيرًا من عادات الصعيد، وتؤصل لطريقة جديدة لطرح قضاياه، دون الوقوع في غواية الصعيد المتخيَّل، الذي يحبه ويستسيغه المتلقي العربي: صعيد الرجال أصحاب العمامات الكبيرة والقصور عالية الجدران، وخلفها النساء مستترات في لَكْنةٍ خشنة، والذهب يتدلى حول أعناقهن، يرتدين المَلَس الفضفاض (زِي النساء في غالبية مناطق الصعيد) ويرسمن الأوشام. صعيد يدور في فَلك موضوعات ضيقة لا علاقة لها بواقع الحياة الجنوبية، أبرزها الثأر وتعليم البنات، وهي قضايا تبنتها الدولة المصرية منذ ستينيات القرن العشرين، في إطار سياسة تمدين الصعيد وتطويره فكريًّا.
حالة المراجعة التي يتبناها منتجو يوتيوب الصعيد، ويتسابقون في تنويع فصولها، تناولت كثيرًا من التقاليد التي كان النقاش حولها، قبل عقد واحد من الزمن، أمرًا شبه مستحيل، في ظل مجتمع شديد التحفظ والانغلاق في ما يخص تطبيق العادات والتقاليد، وتدور أبرز موضوعاتها حول تفاصيل الزواج، والمغالاة في تجهيز العرائس والمهور وطقوس الوفاة.
حمدي الغبري (42 عاما)، الحائز على الدرع الفضية لليوتيوب (2017) عن قناته الكوميدية «الحاج الضوي»، يوضح أن «مواقع التواصل الاجتماعي انتشرت في الصعيد، ومعها حالة من الانفتاح الثقافي والاجتماعي، وصارت الناس تناقش قضاياها بنفسها، بعيدًا عن الصورة النمطية التي أنتجتها وسائل الإعلام التقليدي».
يقول حمدي الغبري: «حين سخرتُ من قضية المغالاة في المهور، والناس أحبت طريقتي، بدأ كبار العائلات يناقشون قضية تخفيض المهور».
الغبري هو الأب الروحي لفناني يوتيوب في الصعيد، ويتمتع بشعبية جارفة هناك، وتجاوزت مشاهدات قناته الرسمية 120 مليونًا، بل إن بعض الهواة الشباب والأطفال صاروا ينتجون قصصًا مستوحاة من حلقاته، وينشرونها باسم «الحاج الضوي» أيضًا.
هذا الأثر العميق ليس الأهم للغبري. فعلى مدار عام ونصف، هو عمر القناة، استطاعت فيديوهاته تغيير بعض العادات، أبرزها المغالاة في المهور وتجهيزات الزواج.
يوضح حمدي لـ«منشور» أن «الفيديوهات صنعت فارقًا في المجتمع الصعيدي. فحين سخرتُ من قضية المغالاة في المهور، والناس أحبت طريقتي، بدأ كبار العائلات والقرى يناقشون قضية تخفيض المهور، وكما أناقش عاداتنا الخطأ، أتحدث عن أزمات الصعيد العالقة منذ سنوات، والطارئة، بعضها متعلق بخلل في الخدمات، مثل مشكلات انقطاع المياه والكهرباء والأزمات الطارئة التي صارت بدورها تشهد تجاوبًا فوريًّا من المسؤولين بسبب شعبية القناة. أرى أن الفكرة لا تكلفني 50 جنيهًا، لكن مردودها أحسن من فيلم تكلفته 50 مليونًا».
يميل بعضهم إلى ربط توجه مجتمعات الصعيد إلى مراجعة أفكاره وتقاليده بالغلاء، والظروف الاقتصادية التي تعيشها مصر، وخصوصًا بعد تحرير سعر صرف الجنيه، وتخفيض دعم الطاقة، لكن أزمات الفقر والغلاء وندرة فرص العمل والتفاوت الطبقي الرهيب بين الأغنياء والفقراء في الصعيد، كلها ليست صورًا جديدة على قرى الصعيد، المهملة تمامًا من جميع حسابات الدولة، منذ ما يقارب النصف قرن.
يعني هذا أن المحرك الرئيسي لصانعي المحتوى أولئك، لا يقف عند حدود الظروف الاقتصادية، بل بالأساس هو إتاحة التكنولوجيا التي سهَّلت تداول الأفكار. ويراهن الغبري على استطاعة يوتيوب التفوق على وسائل الإعلام التقليدية: «سنوات قليلة، ويبدأ التلفزيون تنفيذ إعلانات على يوتيوب».
الصعيد تحكمه اعتبارات مختلفة عن المجتمع، فمهما كانت وطأة الظروف الاقتصادية، حالة التنافس لا تنتهي في الأعراس ومراسم العزاء والموت.
صحيح أن الغلاء يُقلق معظم منتجي يوتيوب، لكن غالبية الفيديوهات تتمحور حول العادات الاجتماعية التي تزيد من وطأة الظروف الاقتصادية، قصة مجموعة «صعايدة معلش» تؤكد أيضًا أن الأصل لم يكن الظروف المعيشية، فهم مجموعة من شباب محافظة أسوان، تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، وهم في بداية طريق الإنتاج على يوتيوب، شجعهم نجاح تجربة الحاج الضوي وغيره من نجوم يوتيوب الصعيد.
عبد الرحمن (20 عامًا)، أحد منفذي الفيديوهات في «صعايدة معلش»، يقول: «صارت الهواتف المحمولة في يد جميع الناس، وأصبح متاحًا أمام كل صاحب موهبة أن يُطلع الناس على ما لديه، لكن ما حركنا أننا رأينا كيف تؤثر الفيديوهات الجادة بعمق في تغيير عادات المجتمع، ووجدنا أن لدينا ما نقوله للناس لنفيدهم به».
تتكون مجموعة «صعايدة معلش» من ستة أفراد، يجمعون من بعضهم مبالغ بسيطة نسبيًّا لتصوير حلقة كل بضعة أسابيع، تنتهي عند صديقهم مصور الأفراح الذي ينفذ عملية المونتاج، ويبدأ الشباب في رفع الحلقات على يوتيوب ونشرها، وعلى أكبر تجمعات أهالي الصعيد على فيسبوك، مثل صفحة «جنوب الصعيد» التي تضم آلاف الزوار.
لا يمكن فهم صعوبة طرح الأفكار ومناقشة هذا الجانب الراسخ من العادات والتقاليد، دون أن نأخذ في الحسبان أن الصعيد تحكمه اعتبارات مختلفة تمامًا عن تلك التي تحكم المجتمع القاهري ومدن الشمال، إذ تضع العائلات قيودها واشتراطاتها. ومهما تكن وطأة الظروف الاقتصادية، فإن حالة التنافس بين تلك العصبيات لا تنتهي، وتعد الأعراس ومراسم العزاء والموت أحد أبرز موضوعات هذا التنافس.
اقرأ أيضًا: المرأة في صعيد مصر: سيدة الرجل في الظلام وتابعته حين تشرق الشمس
يقول الغبري: «الصعيد مجتمع له عادات راسخة، ليس من السهل فتح النقاش حولها، خصوصًا في إطار كوميدي ساخر».
صار من الممكن أن نشاهد جلسة عرفية لشباب الكرنك، تضم أحد كبار العائلات، في مناظرة مع شخصية كوميدية صعيدية (الحاج الضوي) يناقشون قضية غلاء المهر، ويتفقون على تخفيضه في نهاية الجلسة، وهو الفيديو الذي تبعته موجة من المناقشات حول نفس القضية في كثير من قرى الصعيد، وبعضها أعلن إلغاء الشبكة (هدية من الذهب يقدمها العريس لعروسه، وأحيانا يُشترط وزن معين لا تقل عنه الهدية)، أو أن نشاهد فيديو يتوسط فيه الضوي بين اثنين من كبار العائلات في الأقصر، كان من الممكن أن تنقلب إلى عشرات من حوادث الثأر بين أخذ ورد لسنوات، وقد تجاوزت مشاهداته مئة ألف مشاهدة.
جماعات يوتيوب الصعيد هم أنفسهم نتاج حالة انفتاح ثقافي غير مسبوق، يعرفه المجتمع الصعيدي والمجتمعات المغلقة في مصر لأول مرة، بسبب انتشار الهواتف المحمولة ووسائل التكنولوجيا التي جعلتهم قادرين على الصدام مع أكثر عادات المجتمع انغلاقًا ورجعية، وتحطيم تابوهات لم يكن أحد يستطيع الاقتراب منها سابقًا، بسبب الخجل من الوصم.
يؤكد الغبري هذه الفكرة قائلًا: «الصعيد مجتمع عريق، له عادات وتقاليد راسخة، ليس من السهل فتح النقاش حولها، خصوصًا في إطار كوميدي ساخر. وقد هاجمني بعضهم في بداية الفكرة، وكانوا يظنون أن السخرية ستنتقص من صورة الصعيد، كأهل للكرم والتقاليد العتيدة. لكن حين بدأت الفيديوهات تنتشر ويحبها الناس، لاقت قبول المجتمع، وبدأت الناس تفكر وتتفاعل مع المحتوى، وبدأ المجتمع كله يراجع عاداته، بل صار الناس يرسلون لي مشكلاتهم كي أعرضها، لأن المسؤولين يشاهدون القناة».
إن أهم ما يميز هذه الموجة من الحراك داخل المجتمع الصعيدي، أنه حراك داخلي يقوده شباب محليون، وليس مفروضًا من الدولة أو غيرها من الجهات التي تناقش قضايا الصعيد وفقًا لأجندات مركزية لا تضع تفضيلات البيئة المحلية في اعتبارها، وتفرض مراجعات فكرية في إطار الأفكار التي تراها الدولة مناسبة، مثل الثأر والقتل خارج القانون والتعليم وختان الإناث.
يقول عبد الرحمن: «نحن ليست لدينا أي مشكلة مع تقاليد الصعيد عمومًا، لكن فكرة التضامن والالتزام تجاه الآخرين، تصير أزمة حقيقة مع المغالاة والتعسف والتسابق القبلي، فإذا كان الشخص مديونًا بجميل، فلا يجب أن يتكلف أكثر من طاقته المادية، لأن صاحب الجميل سيسخر منه أو يعايره».
فكرة لجوء أصحاب المواهب والقضايا الفكرية إلى يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، للتعبير عن أنفسهم، ليست حكرًا على مجتمع الصعيد. فالعالم كله يتجه إلى هذه التكنولوجيا زهيدة الثمن، واسعة الانتشار، والمفتوحة أمام جميع المشاهدين بالتساوي، لا تميز بين الناس تمييزًا طبقيًّا أو عرقيًّا أو جغرافيًّا، وتعرف مصر مئات من نجوم يوتيوب والسوشيال ميديا المعروفين باسم «الانفلونسرز»، لكن هناك دافعًا إضافيًّا أمام مبدعي الصعيد يجعل يوتيوب الوسيلة الأقرب.
يقول الغبري: «ليس أمام الفنان الصعيدي المشغول بقضايا مجتمعه أي وسيلة سوى السوشيال ميديا ويوتيوب، فقنوات التلفزيون والدراما والسينما تضعنا دائمًا في صورة نمطية محددة سلفًا، وترفض تغيير هذه الصورة».
اقرأ أيضًا: لماذا تلتزم الدراما المصرية بتلك الصورة النمطية عن الصعيد؟
يقارن الغبري قناته على يوتيوب التي تفوقت على قناة «الخليل كوميدي» في نسب المشاهدة وحازت تكريم موقع يوتيوب: «قناتي مشهورة مثل الخليل كوميدي، لكنه بدأ يظهر في أدوار درامية وسينمائية متنوعة، ولا تهينه. بينما أنا عُرضت عليَّ أدوار لا تليق بي، وتعتمد على نفس الصورة النمطية للصعيدي: بواب أو ساذج يتعرض لعملية نصب، وأنا أرفض تمامًا مثل هذه الصورة. نحن مجتمع كامل، فيه مختلف المستويات التعليمية والفكرية. وفي الصعيد هناك من يتحدثون خمس لغات، مثل شباب الأقصر، وأنا نفسي عشت في أوروبا فترة تقترب من 10 سنوات».
يتابع الغبري: «لا أحتاج إلى حلم السينما، كي أكمل مشواري، إذا كان مرهونًا بهذه الصورة النمطية، فيوتيوب صار يعطيني مردودًا أنا راضٍ عنه تمامًا. الفارق الوحيد بيني وبين أي نجم سينمائي هو ملايين الجنيهات التي تُنفَق على إنجاحه وفرضه على الناس، أما أنا، فلديَّ شعبية جارفة في شوارع الصعيد، والناس قريبة مني وأنا قريب منهم، وأتوق إلى التفوق والوصول إلى الدرع الذهبي في العام المقبل. فهذه ستكون نقلة نوعية لقناة الحاج الضوي، وكل صانعي المحتوى في الصعيد».
علا الساكت