نزهة في مفهوم الموهبة

نهى الرومي
نشر في 2017/07/15

الصورة: Life Magazine

كنت أنظر إلى كلمة «موهبة» كمرادف للهواية تقريبًا، حتى أخذت هذه النزهة في بعض الكتب، وأصبحت أسمع صوتًا واضحًا في قلبي، صوت ربما يشبه الجنون، يشبه يدًا ممدودة إليَّ.. ما الموهبة؟

الموهبة: علم

تشارلز ديكنز

يعرِّف العالِم المسلم ابن القيم «العلم اللدُنِّي» بأنه العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهامًا دون سبب من العبد، أي دون اجتهاد ولا استدلال، لهذا سُمِّي لدُنِّيًّا، علم من لَدُن الله، وتدخل الموهبة ضمن ذلك التصنيف.

ابتُلي موسى بوهم غريب وتقدير ضعيف للأمور، لهذا بقيت تبصُّرات الخضر مستورة عنه.

يوضح «فرهاد دفتري» في كتابه «قلاع العقل» هذا المفهوم بمثال الخِضر والنبي موسى، إذ تقوم شخصيتا موسى والخضر في السيكولوجية الصوفية على نحو خاص، بوظيفة المواضيع التي تمثل الاختلافات بين الموهبة الظنية التي تعمل بالوهم، والفهم الغيبي القائم على الوحي المشرَّب بالإلهام الصوفي.

هكذا يشخِّص الرومي اعتراضات موسى على الخضر بأنها نموذج للتشوهات التي تصيب الموهبة الظنية للإنسان، فقد ابتُلي موسى بوهم غريب وتقدير ضعيف للأمور، لهذا بقيت تبصُّرات الخضر مستورة عنه، ويفسر الرازي في دليله للعقيدة الصوفية أن رؤية موسى كانت محجوبة بالكلمات والخطاب، بصفته كليم الله، فافتقرت بالتالي إلى الكمال.

كان تفوق رؤية الخضر مشتقًّا من خصوصيتها وتساميها: «يجب أن يكون مفهومًا أن خطاب الله يتعدى نطاق الحروف أو الأصوات أو النطق، وما كان موسى قادرًا على سماع الله إلا بواسطة الحروف أو الأصوات أو النطق. ولو كان قادرًا على سماع الله من دون واسطة هذه الأشياء، لما جاءه الأمر بالبقاء في صحبة الخضر».

تفوق الخضر البارع في العلم يكمُن في «خضوعه للتعلم من الحضرة الإلهية من دون أي واسطة»، فإحدى المنافع التي تصيب موسى من البقاء مع الخضر هي جعله مستعدًّا لتلقي الكتابة الإلهية التي يسجلها على ألواحه، في قلبه مباشرة.

يصف ابن عربي القلب بأنه بؤرة الوعي الإنساني وبؤرة المعرفة، استنادًا إلى حديث رواه البخاري في صحيحه: «المعرفة فعل القلب».

الموهبة حرية: غريزة الموهوب

لوحة «Two Fridas» للرسامة «فريدا كاهلو»

في حوار لطيف في رواية «هُما» لغازي القصيبي، يوجه عزيز سؤالًا إلى عزيزة: «لماذا يكتب الروائي الرواية؟ لماذا يؤلف القاص القصص؟ لماذا ينظُم الشاعر القصائد؟ لماذا يضع الموسيقي السيمفونيات؟».

ترد عزيزة: «أعتقد أنهم يفعلون ذلك بسبب الغريزة. الموهبة غريزة الموهوب».

قلب الإنسان ليس إلا مجرد صيحة، التصِق بصدرك لكي تسمعها، شخص ما يكافح بداخلك هو الذي يصيح.

يقول الكاتب الروسي «أنطون تشيخوف» إن «الموهبة قوة أصلية كالغرائز، كالإعصار، تستطيع أن تسحق الصخر ترابًا، وأن تخلق كل شيء وأن تدمر أي شيء. والموهبة هي التحرر من العواطف البدائية، ولهذا فالموهبة هي الحرية».

ويقول الفيلسوف الفرنسي «هنري برغسون» وكأنه يكمل كلام تشيخوف: «إننا باختصار نكون أحرارًا عندما تصدر أفعالنا عن شخصيتنا الكاملة، عندما تعبِّر عنها، عندما تكون مشابهة لها بشكل كبير جدًّا، مثل تلك العلاقة التي تجمع أحيانًا بين العمل الفني والفنان».

ثم يجيء تفسير عالم الطبيعة الفرنسي «جان ماري بيلت» للحرية الكامنة في الموهبة، وكأنه كذلك استدراك لكلام برغسون: «تشير الحرية هنا إلى القدرة، في أوضاع الأزمة عمومًا، على مجاوزة عبء الاغتراب، ومن ثَمَّ تُفضي بنا إلى مستقبل مفتوح، وقصارى القول إنها توسع مجال الممكن إلى ما لا نهاية من خلال التعمق في أغوار النفس».

هذا تعاون طريف غير مقصود بين أدمغة متباعدة لإكمال فكرة مشتركة.

قد يمثل وصف الكاتب اليوناني «نيكوس كزنتزاكيس» أبسط تعبير صادفته لهذا المفهوم الواسع للموهبة: «تفاجئني صيحة قوية تأتي من داخلي: النجدة. مَن الذي يصيح؟ اجمع قواك وأرهف السمع، قلب الإنسان ليس إلا مجرد صيحة، التصِق بصدرك لكي تسمعها، شخص ما يكافح بداخلك هو الذي يصيح. أرهف السمع في أثناء نومك وخلال ممارسة الجنس وفي حالة الإبداع، أو في أثناء صمتك صمتًا عميقًا يائسًا».

هذه هي اللحظة العظيمة الحاسمة. إنها شعار المسيرة، فلا تبدأ إذا لم تسمع هذه الصرخة تخترق أحشاءك. كأننا وارَينا شخصًا ما بالتراب بعد أن تيقنَّا من موته، لكننا الآن نسمعه ينادي «النجدة»، ثم يرفع حجارة القبر بمعاناةٍ تفوق طاقة أجسادنا وأرواحنا، منتصبًا نحو آفاق أكثر علوًّا، متنفسًا بحرية.

اقرأ أيضًا: التدفق: وصفة الإنسان الخارق

الموهبة وغريزة المعنى

إديث بياف - الصورة: Nationaal Archief

هل يعني ذلك أن هذه الغريزة هي غريزة المعنى؟

ربما كان هذا السؤال استباقًا لمدرسة الطبيب النفسي النمساوي الكبير «فيكتور فرانكل»، الذي وضع ما أسماه مبدأ «إرادة المعنى»، على عكس مبدأ اللذة الفرويدي ودافع المكانة الآدلري اللذان يرتكزان إلى مبدأ «إرادة القوة»، فيرى فرانكل أن السعي لتحقيق القوة والنفوذ واللذة لا يمكن أن يفسر كل صور النشاط الإنساني.

 معنى الحياة لدى كل إنسان هو الذي يمكن أن يجعل من السعي الدؤوب وتحمُّل المعاناة شيئًا يرفع من قيمة الحياة ويجعلها تستحق العيش والمخاض.

مع ذلك، على المعالج النفسي بهذه الطريقة أن لا يفرض على المريض وجهة نظره الخاصة، فالعلاج بالمعنى لا يحاول على الإطلاق إعطاء المعنى على طبق من ذهب لحياة المريض، بل يجب أن يعثر عليه المريض بنفسه، بالمرور على طموحاته وإحباطاته الوجودية، أو ما أسماه فرانكل «الفراغ الوجودي».

أشار فرانكل إلى أن المعاني مُكتشَفة، غريزية دفينة، وليست مخترَعة: «الإنسان وفقًا لجان بول سارتر يخترع نفسه ويصمم جوهره، أي يبتدع ويصمم حقيقة ماهيته، ومع ذلك، فإني أعتقد أن معنى وجودنا ليس أمرًا نبتدعه نحن أنفسنا، وإنما هو بالأحرى أمر نكتشفه ونستبينه».

أيًّا كان الاسم الذي يضم أطراف هذا المفهوم، موهبة، إلهامًا، وحيًا، غريزة، معنًى، حالة ميتافيزيقية ما، نداءً دفينًا قد يعتبره البعض الخلاص الأخير، أو بداية الخلاص على الأقل، أو مجالًا بسيطًا لعقد هدنة مع صراع الوجود، فهو مفهوم واسع للغاية، حتى يبدو بشكل أو بآخر أن ابن القيم وابن عربي والرازي وفرهاد دفتري وتشيخوف وهنري بيرغسون وجان ماري بيلت ونيكوس كزنتزاكيس وفيكتور فرانكل يقولون الشيء نفسه: «واستمع بسر قلبك لما يوحى».

نهى الرومي