تجربة شخصية: كيف فهمت العمى من عين ثالثة؟
كان في دعائي الدائم «اللهم لا تَعمنا لا بصرًا ولا بصيرة» رغبةً في أن أكون أقرب لحقيقة الأشياء مما تبديه لي عن نفسها. ظلت تخيفني فكرة العمى، لا بمعناها الظاهر، بل بمعناها الخفي، حيرتي بين ما تبصره العين وما يبصره القلب. والقلب، على رأي نجيب محفوظ، أبصر من العين. أردت أنا القلب والعين معًا، أن أنفذ إلى باطن الأشياء من نظرة، لأن قلبي وعيني على وفاق. عرفت بعد أن التقيت بوعد أن نجيب محفوظ غالبًا على حق، وأني احتجت، كي أرى حقًا، عينًا ثالثة.. عين وعد.
مدخل صدق
كنا نجلس أنا وزميلتي إلى طاولة تسليم شهادات الحضور لأحد الأنشطة التي نظمها نادينا الجامعي منذ أسبوع، حين وصلتها رسالة من طالبة تود أن تقدم للنادي بعض المقترحات التي من شأنها تضمين الكفيف وتسهيل تفاعله مع أنشطة النادي.
رحبت بفكرة تولي مسؤولية الأمر ومقابلتها لاستلام ملاحظاتها ومقترحاتها. رافقني القلق منذ لحظتها، أنا لم ألتقِ بشخص كفيف من قبل، لا أعرف كيفية التعامل معهم، ولا أدري أي الأفعال أو الأقوال من الممكن أن تسبب لهذه المجموعة الجديدة عليَّ من البشر إحراجًا أو شعورًا بالإهانة. لحسن الحظ أن حماس الطالبة كان كبيرًا، ما زج بقلقي كله في زاوية من رأسي، وأنا على وشك أن أقوم حينها، في ذات اليوم واللحظة، لألتقي بها في أحد أقسام الجامعة.
لا وقت للقلق، لكنني أقلق. أمشي إلى المكان المحدد وفي داخلي أردد «اللهم أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا»، كمن يدخل على أمر جلل.
دليل
كان اسمها وعد، وكي تضاعف لي ربكتي اقترحتْ عليَّ أن آخذ بيدها ونمشي معًا إلى مكان جلوسنا. «لكني لم أفعل هذا الأمر من قبل، أخشى أن أفعل شيئًا غبيًا»، ضحكت هي، «الأمر بسيط للغاية، أمسكي بيدي ونبهيني إن احتجت تنبيهًا».
كان الأمر بسيطًا للغاية لمن ينظر، مربكًا ومعقدًا وساحرًا ومليئًا بالمشاعر بالنسبة لي. هل سبق وأن جربت أن تكون دليلاً؟ كنت أرمي بالهاتف والمسؤولية على شخص آخر حين يطلب أحدهم وصفًا أو إرشادات للطريق. أكره أن أوصل أحدهم إلى مكان لا يعرفه أيٌّ منا، وحين تكبر المسؤولية والغاية أدعو دائمًا «يا دليل، دلني».
يومها كان يجب، بما لا يحتمل النقاش أو الهرب، أن أكون دليلًا لمسافة لا تتجاوز العشر خطوات أعرفها وأحفظها جيدًا، ومع ذلك كنت مستعدة أن أقايضها بكل المرات التي تهربت فيها من المسؤولية وإرشاد أحدهم، لأني ببساطة خفت. خفت من عين ظننتها لا ترى، تريد أن تثق بعيني ومنطقي في اختيار الطريق الذي نمشيه. بلى، أدري أنني أضخم الأمر وأضع فيه ربما ما لا يحتمل، هذه إحدى هوايات عقلي وألعابه. لكني خفت، فعل بشري لا ينساق غالب الأحيان إلى عقل أو منطق.
خفت وأنا أُدخل يدي في يدها ليتلاصق ذراعانا ونمشي معًا، أربع أرجل تحاول أن تلتقط النسق وتثق في بعضها.
عين ثالثة
أقْدم، رغم خوفي، على الأشياء الجديدة بعين مبصرة في القلب.
من بين كل من قابلت، وعد كانت غالبًا ترى من حيث أرى. حين يسوقني إحساسي لعدم تصديق ما تصدقه عيني، كانت وعد معي ومثلي، دون أن تدري، تؤكد لي أن ما يراه قلبي تراه هي أيضًا في قلبها، غير معنية بما تقترحه العين، لأن العين التي نظنها معطلة وظيفيًا، تفسح في حقيقة الأمر المجال للبصيرة كي تنفذ لكل الأماكن التي تعميها عنا أعيننا التي ترى.
جهدي وأنا أحاول تفسير إحساسي لمن يرى مثلي يتناقص بشكل لافت حين أحدث وعد، لأنها الشخص الذي يرى مثلي بحق. «القلب أبصر من العين»، وكنت قبلها أنبذ قلبي وإحساسه، أقول ظالم ويقسو. لقائي بوعد علمني أن القلب مثل العين، يرى، وأنه إن ظلم أو قسى فهو يفعل كل ذلك كما تفعله العين، لكنه يصيب أغلب الأحيان، في حين أن العين تخطئ لأنها تصدق، معزولة عن القلب، كل ما تراه.
هل تمنيت أن أكون كفيفة؟ بالطبع لا، يُجبل كل إنسان على خلقه ليكون ما يمكن له أن يكونه بما مُنح له. وعد مثلي تقول «ما كنت لأختار الرؤية وقد ولدت عمياء»، ولكني برغم ذلك أملك الكثير من الغبطة والإعجاب لهذه البنت التي علمتني أن أكون حساسة وواثقة إزاء أشياء ما كنت أعيرها انتباهًا أو أضع فيها ثقة.
هذه قائمة بالأشياء التي تعلمتها أو أتعلمها:
- أكتب، متى أكرمتني ذاكرتي، وصفًا للصور التي أضعها في حسابات التواصل الاجتماعي.
- أنبه الشخص الكفيف بحضور أو غياب أي شخص عن مكان نجلس فيه معًا كمجموعة.
- أوجه كلامي بالاسم دائمًا، كي يدرك الكفيف من أخاطب وإن كنت أخاطبه أم لا.
- أكتب وصفًا دقيقًا للأشياء.
- لا أبالغ في المساعدة ما لم يُطلب مني.
- «كفيفة» أو «عمياء»، سيفضل كل شخص ما يفضله حسب شخصيته، وما يتحسس منه شخص لا يتحسس منه آخر بالضرورة.
- أذكر نفسي دائمًا بأن الكفيف إنسان مثلي تمامًا، كامل الأهلية والإدراك، ولا ينبغي لي أن أبالغ في تعاطفي.
- أعطي الشخص مساحته كي يكون ويفعل، دون أن أعرض مساعدتي في أداء أبسط الأفعال.
- أسأل، أسأل، أسأل. كلما واجهت أمرًا لا أدري ما أنسب حل أو تصرف له، كنت أسأل: ماذا أفعل الآن؟ هل ما أفعله صحيح؟
وأخيرًا، والأهم، كان أن أقْدم، رغم خوفي، على الأشياء الجديدة بعين مبصرة في القلب.
ريم الهاجري