الانحياز اللاواعي: هل ثقتك في محلها؟
لدينا جميعًا ذلك الصديق الذي إذا تكلم سكت الجميع، تجده عالِمًا ببواطن الوضع السياسي، يتحدث بثقة الخبير، فإذا تحولت دفة الحديث إلى الاقتصاد، تحدَّث بنفس التمكن دون أن تهتز نبرة صوته ترددًا. وهو متذوق للفن الأصيل، مرهف الحس، شاهد أفضل الأفلام، ويمكنه بكل تأكيد أن ينقدها فنيًّا حتى لو لم يكن قد شاهدها، فأنت لن تكشف أمره على كل حال. أما إذا شاركته مشكلة شخصية، فستجده جاهز النصيحة، وستتلقى منه الحكمة بآذان مصغية.
المشكلة أنك غالبًا تعرف أنه ليس بالضرورة الأكثر علمًا أو الأغزر معرفة، لكن له طريقة وأداءً يجعلانك تنجذب إلى حديثه، وتقتنع برأيه كما لو كنت واقعًا تحت تأثير سحر. هذه صورة مبسطة لما يسميه علم النفس «الانحياز اللاواعي».
يستعرض مقال نُشِرَ على «النيويورك تايمز» أسباب وقوعنا في فخ الانحياز اللاواعي، وكيفية تخلصنا منه عند الضرورة.
للدماغ طرق مختصرة
«الانحياز اللاواعي» قد يبدو مصطلحًا علميًّا معقدًا، لكن بمجرد أن تعي معناه سترى كيف يؤثر في كل جوانب حياتك تقريبًا، وفق كاتب المقال. انحيازاتنا اللاواعية طرق مختصرة تأخذها أدمغتنا للوصول إلى استنتاجات معينة.
على سبيل المثال، لو رأيت عربة قطار خالية من الركاب، فربما يعتقد دماغك أنها فارغة لسبب مريب، حتى بدون أن تكون هناك أي دلائل أو إشارات مريبة، ولذلك سيجعلك ترفض ركوبها وتتوجه إلى واحدة غيرها. هذه القفزات الذهنية مهمة، فقط تخيل لو كان عليك أن تحلل كل تفصيلة ذهنية يلتقطها دماغك، ثم تتخذ قرارك بناء على تلك التحليلات، سيكون الأمر معقدًا، وسيستهلك وقتًا.
إذًا، فالانحياز اللاواعي مفيد في أحيان كثيرة، وإن لم يكن دائمًا.
قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
الطرق المختصَرة قد تضللك
يمكن لدماغك أن يثق تلقائيًّا في شخص لأنه يبدو أنه يعرف ما يقوله جيدًا.
الانحياز اللاواعي له جانب سيئ، إذ يمكن لانحيازات ثقافية معينة أن تُسجَّل في أدمغتنا دون حتى أن ندري، فنتوصل إلى استنتاجات ربما تكون غير دقيقة، أو غير كاملة، أو حتى مضرة.
على سبيل المثال، أظهرت أبحاث ينقلها المقال أنه في بيئات العمل الجماعية، بدلًا من أن نحدد إذا كان شخص بعينه يتمتع بالخبرة الحقيقية، نركز أحيانًا على صفات وعادات نقرنها بالخبرة. تشمل الصفات التي نركز عليها بالخطأ أشياء مثل الثقة في النفس، وانبساط الشخصية، والقدرة على التحدث لفترات طويلة، وكلها أمور قد تطغى على المعرفة التي يُظهرها الشخص حين نحلل خبرته الحقيقية، وترجح كفته على حساب آخرين قد يكونوا أفضل منه.
بقول آخر، يمكن لدماغك أن يثق تلقائيًّا في أشخاص لأنهم يبدون لنا، ببساطة، كمن يعرفون ما يقولونه جيدًا.
كتب «خليل سميث»، الخبير في شؤون الإدماج والتنوع في بيئات العمل، عن هذا الانحياز، وأورد دراسة أظهرت أن الوقت الذي يقضيه الشخص في الكلام، أو ما أسماه «مدة البث»، مؤشر أقوى من الخبرة الفعلية في تشكيل اعتقادنا عن التأثير الذي يتمتع به الشخص.
تفضِّل أدمغتنا أيضًا الأشخاص الذين قابلناهم من قبل مقارنةً بغيرهم، ونفترض أن الشخص المتميز في شيء ما، يعرف كثيرًا أيضًا عن أمور أخرى لا صلة لها بموضع تميزه.
على المستوى الإدراكي، الانحيازات التي تدفعنا إلى اعتقاد الخبرة في أشخاص لا يملكونها حقًّا هي «التشابه»، فأنت تظن أن من يشبهونك أفضل من غيرهم، ثم «الخبرة» التي تدفعك إلى الاعتقاد بأن إدراكك ما يحدث حولك هو الصحيح، أما «الملاءمة» فهي اعتقادك أن ما يبدو صحيحًا ينبغي أن يكون كذلك. هذه هي الطرق المختصرة التي تجعلك تُقيِّم الأشخاص بناء على أمور مثل الطول وانبساط الشخصية والجنس، وأشياء أخرى غير مهمة.
يمكن أن نقول إن اختيارنا من نثق فيهم مسألة لا تعكس فقط قابلية الشخص للثقة، بل تعكس أيضًا «من نحن».
قد يعجبك أيضًا: من أين أتيت؟ بلادنا تتحكم في تشكيل شخصياتنا
كيف نتغلب على الانحياز اللاواعي؟
إذا وجدت نفسك منساقًا وراء أفكار شخص مسيطر ذي «كاريزما» طاغية، اطلب من شخص آخر أن يعيد عليك ما قاله الأول لترى إن كنت ستظل على موقفك.
مثله مثل غيره من سلوكياتنا التي لا نلحظها بأنفسنا، يعد إدراكنا أننا عُرضة للوقوع في مصيدة كهذه أول خطوة للتغلب عليها. يمكن أيضًا أن ندرب أنفسنا على ملاحظة العلامات التي تدل على أننا نضع ثقتنا في شخص لمجرد أننا نعتقد أنه موضع ثقة، أو أنه غزير المعرفة، وفق كاتب المقال.
الأهم على الإطلاق أن تضبط نفسك متلبسًا، وتأخذ خطوة إلى الوراء عندما تلاحظ أنك تساير أشخاصًا متسلطين لأنهم يعطون انطباعًا بالثقة في النفس، أو لأنهم يسيطرون على مجريات الحوار. اسأل نفسك حينها إن كانوا يستحقون فعلًا ثقتك: هل لديهم ما يعضد هذه الثقة التي تمنحهم؟ هل يلفون ويدورون حول الأسئلة المحددة بدلًا من الإجابة عنها بشكل مباشر؟
هذه بعض الأفكار المقترَحة للتخلص من ذلك التأثير حين تتخذ قرارًا:
- إذا وجدت نفسك منساقًا وراء أفكار شخص مسيطر ذي «كاريزما» طاغية، اطلب من شخص آخر أن يعيد عليك ما قاله الأول، لترى إن كنت ستظل على موقفك إذا انتُزِعَت منه تأثيرات الكاريزما وقوة الشخصية وغيرها
- أعطِ نفسك فرصة لـ«تبرد» بعد أن تتلقى معلومات من شخص ما. حاول أن تهدأ، وتفسح لنفسك مجالًا من الوقت قبل أن تتخذ قرارًا بناء على ما سمعته. هذا الفاصل الزمني سيعطيك الوقت لتقييم الأمور بشكل أكثر موضوعية
- لا تتوقف عن التعلم، فكلما كنتَ أكثر علمًا بأمر ما، سَهُل عليك أن تعرف متى يدَّعي أحدهم المعرفة، وأن تجادله متى اقتضى الأمر
هذه الانحيازات جزء من حياتنا، وأسلوب يتبعه الدماغ ليُسهِّل أمور حياتك، لكن درايتنا بها تجعلنا أكثر قدرة على التغلب عليها حين تضللنا وتصب في غير صالحنا.
دينا ظافر