الحب عند بوذا: ما أوله شرط، آخره خيبة أمل
أشياء كثيرة يمكن أن تربطنا بالعالم، وأقواها الحب. إذ يشعر الإنسان فجأة بأن لحياته معنى، وتغمره السعادة لأنه يشغل عقل الطرف الآخر ووجدانه، أو النصف الأخر الذي يكتمل به، وتتحقق معه سعادته، أو ربما تعاسته، إذا لم تسر الأمور بشكل جيد، وما أكثر حدوث ذلك، عندها تتحول السعادة إلى تعاسة، والرضا إلى معاناة.
تكلم كل الفلاسفة عن الحب، وأجمعوا على مدى أهميته ومركزيته بالنسبة إلى الإنسان. والمقصود هنا «الحب الرومانسي» أو الحالة الشعورية الخاصة التي تجمع بين طرفين لا تجمعهما صلة أو ضرورة مُستحِقة لحب من نوع آخر كما في الأمومة مثلًا أو الأخوة. بين هؤلاء الفلاسفة كان «بوذا» الذي تمتع الحب، بمعنييه الجامع والجزئي، بأهمية قصوى في فلسفته التي تهدف إلى تخليص الإنسان نفسه من أسباب المعاناة وشروطها.
مُتحرِرًا من الأغلال كلها
وُلد «سيدارتا غوتاما» (بوذا) قبل 2500 عامًا تقريبًا في المنطقة الواقعة بين الهند ونيبال. كان ابنًا لملك، فعاش حياة مُرفهة، إذ كان أميرًا يستعد في المستقبل لاستلام عرش والده. تقول الرواية البوذية إن عرافة تنبأت لسيدارتا، وهو صغير، بأنه إما سيصبح ملكًا عظيمًا، وإما ملهمًا روحانيًّا عظيمًا. لذلك حرص والده على تنشأته ملكًا، فأبعده عن كل أشكال المعاناة من الموت والمرض والشيخوخة، وأحاطه بالنساء الشابات الجميلات، والحراس الأقوياء، والحدائق العامرة. لكن سيدارتا لم يرض بذلك، فهرب من القصر، وقابل في رحلته الأولى رجلًا عجوزًا، وآخر مريضًا، وأخيرًا رأى جثة رجل ميت.
اكتشف بوذا معاناة الوجود التي أراد والده محوها بطرق سيكتشف في ما بعد أنها كانت غير كافية. وبعد خوضه رحلة رهبنة تقليدية اعتمدت على التقشف، اكتشف أن ذلك أيضًا غير كافٍ أو ضروري، فقرر ذات مرة البحث عن جذور المعاناة وطريقة التحرر منها، فانغمس في تأمل عميق، في أثناء جلوسه مستندًا إلى شجرة ستُخلَّد في التقليد البوذي في ما بعد باسم «شجرة بو».
قد يهمك أيضًا: النيرفانا: حين تتحرر من أصوات المعاناة بداخلك
كان التأمل تقليدًا معروفًا في الديانات والفلسفات الهندية القديمة، لم تخترعه البوذية، وحاول سيدارتا عن طريقه التخلص من جميع المعيقات الذهنية والملوثات والمشاعر السلبية التي تنتج بدورها المعاناة، وتنمية جميع الصفات الجيدة والمشاعر الطيبة تجاه نفسه والآخرين، فوصل إلى «النيرفانا»، وهي حالة التخلص من المشاعر غير المُرضية، والتحرر من دائرة إعادة الميلاد، إذ تؤمن البوذية بمبدأ تناسخ الأرواح، الموجود بالفعل في التقليد الديني/ الفلسفي الهندي، محققًا بذلك الاستنارة، ليصبح «بوذا»، أي المتحرر/ اليقظ/ المستنير.
تترك المشاعر النابعة من التعلق آثارها السلبية على تياراتنا الذهنية، وبالتالي شعورنا وسلوكنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين.
ما توصل إليه بوذا، خلال تأمله، أن المعاناة تنتج من المواقف الداخلية المُزعجة المتمثلة بدايةً في «التعلق»، أي التعلق بالممتلكات والأشخاص الذي يبدأ بالمبالغة في الصفات الجيدة للآخرين، والتي قد لا تكون موجودة لديهم، وتؤدي بنا إلى أن نتوقع منهم الحب والتعاطف والتقدير، ما نعتقد أنه قد يمنحنا السعادة. وحين لا يستطيع هؤلاء تحقيق توقعاتنا لسبب أو لآخر، فإننا نُنمِّي تجاههم مشاعر سلبية، نتيجة أننا ألزمناهم في عقولنا بأشياء لا يقدرون بالضرورة على تحقيقها.
بدلًا من ذلك، يمكن تنمية مشاعر طيبة تجاه هؤلاء الأشخاص دون توقع شيء منهم، لأن تلك المشاعر مفيدة بالضرورة لنا، إذ تترك آثارها الإيجابية على نشاطنا الذهني، على عكس مشاعر الحقد الناتجة من التعلق الذي يشترط سعادتنا بالآخرين، بدلًا من خلقها داخل أنفسنا بتوجيه مشاعرنا الإيجابية نحوهم، الشيء الذي يترك آثاره الإيجابية على أذهاننا وأنفسنا المتحررة من الغضب.
لم يكن بوذا إلهًا. لكنه إنسان حقق الاستنارة، ويرغب نتيجة شعور بالحب والتعاطف في مساعدة مَن يرغب في الوصول إليها بدعوتنا إلى ضرورة التخلص من المشاعر السلبية: (الغضب والجهل والغرور والأنانية والانغلاق العقلي). ويشير إلى أحد أهم أركان فلسفته، وهو إنكار التمسك بمظاهر الأشياء، والتمسك بمظاهر الأشياء يفترض أنها موجودة بصورة مستقلة عن شروط تكوينها، الأمر الذي يؤدي إلى الخلط بين ما يظهر من العالم وبين جوهره أو حقيقته. يتسبب هذا الإدراك في إسقاط خواص وصفات خطأ على الأشخاص، وبالتالي يسهم في خلق مواقف ومشاعر غير صحيحة، وفي الغالب سلبية تجاههم.
تترك المشاعر النابعة من التعلق والجهل بخلو الوجود المتأصل آثارها السلبية على تياراتنا الذهنية، وبالتالي شعورنا وسلوكنا تجاه أنفسنا والآخرين في ما بعد، ببساطة تتحكم المشاعر السلبية التي ذكرناها من قبل، في استجاباتنا للخبرات والمواقف، ما يتسبب في معاناتنا، ولأن بوذا كان حريصًا على مساعدة جميع الكائنات في التحرر من معاناتها، فقد نقل تعاليمه إلى تلاميذه، والمعروفة بـ«الدارما»، وهي تقود المسار البوذي للتحرر من المعاناة، ويُمكن اختصار المسار إلى ثلاثة مبادئ رئيسية:
- الرغبة في التحرر: إرادة التخلص من المشاعر السلبية التي تنظم استجاباتنا للمواقف وتشكل خبراتنا غير المرضية، والتي تتسبب بدورها في المعاناة التي يعرفها بوذا بـ«الخبرة غير المرضية».
- النية الغيرية: إدراك أن الآخرين يعانون تمامًا مثلنا، ولديهم الرغبة في التخلص من معاناتهم حتى إذا لم يعرفوا الطريقة المُثلى لذلك. بهذه الطريقة يمكننا تنمية مشاعر الحب والتعاطف (غير المشروط بالثواب والعقاب) تجاههم، ومساعدتهم في تخطي المعاناة، وبذلك يمكننا إقامة علاقات طيبة ولطيفة ونافعة للآخرين، ولنا في ذات الوقت، لأنها تخلو من المشاعر السلبية المُزعجة التي تثير السوء والكراهية بيننا.
- حكمة إدراك الخلوّ: تتمثل في إزالة كل إسقاطاتنا السطحية عن الأشياء والأشخاص وإدراكهم بصورة تراعي الظروف والشروط التي نشأوا وتكونوا خلالها، سواء كانت إسقاطاتنا تلك تحقيرية أو تعظيمية.
أنا مِن رضاك ببتسم للغيب وللأيام
في رأي البوذية، عندما لا ندرك المبادئ الثلاث السابقة، فإن الحب قد يتحول إلى أحد أشكال المعاناة. البداية مع التعلق بالمحبوب، بالصورة المثالية له، والتي تنبع غالبًا من الإعجاب والانبهار المبدئي، والتي ألزمنا أنفسنا بها كي تصبح قاضيًا عليه، ويصبح مُلزَمًا بتحقيقها دائمًا، رغم تأكُّدنا من أنه لا يمكننا تحقيق صورة مثالية عن أنفسنا في ذهن الطرف الآخر، لكننا في المقابل نظل نطالبه بذلك، وعندما يعجز عن تحقيق هذه الصورة، فإننا بطريقة ساذجة نفقد مشاعرنا تجاهه.
منْحنا الحب دون انتظار مقابل، سوى رؤية السعادة متحققة لدى من نحب، سبب كافٍ لدى البوذية كي نشعر بالسعادة.
ترى وجهة النظر البوذية أن توقُّفنا عن التعلق بمن نحب لا يعني أننا توقَّفنا عن حبه، لكن يعني أننا أزلنا العقبات في طريق مشاعرنا تجاهه، والمتمثلة في الخوف الدائم من فقدانه أو من عدم تحقيقه للصورة المثالية داخل أذهاننا، ثم قياس ما يمنحه لنا لنرى كم سنمحنه من الحب في المقابل. بدلًا من استهلاك ذهننا وطاقتنا في الخوف، فإننا نركزهما على منح الطرف الآخر حبنا وتعاطفنا الدائم دون اشتراط أو انتظار مقابل.
الحب في البوذية إذًا ليس انتظارًا لنصف آخر فقط كي يبذل نفسه من أجلنا أو يُكمل نقصنا، وإنما كي نمنحه مشاعرنا تاركين إياها تنطلق في مسارها الطبيعي دون اشتراط مقابل، لأن اشتراط المقابل ينبع من التعلق، ومن التشبث بالسعادة التي يمنحنها لنا الآخرون، وليس ما نمنحه نحن لهم. وحين لا نشبع التعلق بالشكل الكافي (وغالبًا هذا ما يحدث لأن التعلق يعيد إنتاج نفسه بصورة أكبر بعد كل إرضاء من الطرف الآخر) تستحوذ علينا مشاعر الغضب والأنانية والحقد بدلًا من مشاعر الحب والتعاطف، ليترك الغضب أثره في تيارنا الذهني.
لا تنبع تلك الرؤية المثالية من إنكار مطلق للذات أو عبودية للآخر، لكنها ترى في المشاعر السلبية، أيًّا يكن مصدرها، سببًا للمعاناة. وفي المجمل، فإن منْحنا الحب دون انتظار مقابل، سوى رؤية السعادة متحققة لدى من نحب، سبب كافٍ لدى البوذية كي نشعر بالسعادة، ونعبِّر كذلك عن صدق مشاعرنا.
قد يعجبك أيضًا: خرافة كيوبيد: الحب اختيار
أحد أشكال تحول الحب إلى معاناة، تتمثل كذلك في عدم إدراكنا للخلوِّ الذي سبق الحديث عنه، أي التمسك بإسقاطاتنا الخطأ، أو الصفات المُبالَغ فيها على الآخرين، ما يجعلنا نتوقع منهم أكثر مما هم قادرون على فعله. مع الوقت ندرك أن الطرف الآخر لا يمكنه إرضاء خيالاتنا أو إسقاطاتنا المُتوهَّمة عنه، فنُصاب بالإحباط، وتتحول مشاعرنا تجاهه. ألا نتوقع من الآخرين أشياء تفوق قدراتهم كبشر، وألا نسعى لإعادة خلقهم كما نتخيل، لا قبولهم على ما هم عليه؟ أن ندرك ذلك يعني أن ندرك الأسباب والشروط والظروف التي تقف وراءهم، وبالتالي يمكننا بسهولة التعاطف معهم وتوجيه الحب بطريقة ملائمة نحوهم.
قد تنتج المعاناة أيضًا من إدراكنا للخلو بصورة خطأ، حينما ندرك بالفعل حقيقة ألا أحد مثاليًّا، لكن بطريقة تُنمِّي الشك لدينا لنرى أن مصير كل علاقة الفشل، وبالتالي يتولد الخوف الدائم من المستقبل الذي يقتل متعة الشعور بالحب في الوقت الحاضر، ويحبسنا في سجن المستقبل الذي لا نعرف ما هو رغم كل شيء. لماذا نُفسد متعة الأشياء بالتفكير في حتمية فنائها، أو القلق بشأن قدرتها على تلبية رغبتنا في المزيد؟
يعني «العيش في الحاضر» التمتع بكل لحظة جميلة نحياها الآن، وليس معنى ذلك أننا غير مسؤولين عن التخطيط للمستقبل أو التعلم من الماضي. لكن يجب أن يكون ذلك بالصورة التي تضمن لنا «الحضور» الواعي بالحاضر. إلى جانب إدراك عدم ديمومة الأشياء، إدراك أن الحياة قد تتدخل بصور قد لا نتوقعها، وغالبًا ما لا نتوقعها، إدراك عدم الدوام مهم في البوذية، لا ليصيبنا بالإحباط، لكن ليحد من تعلقنا. إدراكنا الخلو وعدم الثبات، مع تجنب التعلق، سيجعلنا نمنح حبنا وتعاطفنا للطرف الآخر دون قلق أو خوف.
نحن نستهلك أنفسنا في التركيز على ما يبذله الطرف الآخر لكي يسعدنا، وقد لا ينتج ذلك عن خبرة مسبَقة لدينا بقدر ما ينتج عن أفكار مُسبَقة شائعة، ترى في استنزاف مشاعر الطرف الآخر وجسده ووجدانه لأجل سعادتنا، جوهر الحب. البوذية ترى في ذلك محاولة طائشة للتحايل على أنفسنا والآخرين. نحن نحب ونمنح مشاعرنا بشرط وجود مقابل، لكن إذا كانت مشاعرنا صادقة بالفعل، فلماذا نمنعها من مسارها الطبيعي نحو الآخر، دون اشتراط مقابل، وبالتالي إذا كان الطرف الآخر صادقًا في حبه لنا، فإنه سيمنحنا مشاعره بالطريقة التي منحناها إياه بشكل تلقائي.
إذا كنا حريصين بالفعل على إنسان لأننا نحبه، فلن نندم على منحه مشاعرنا التي تخفف معاناته وتمنحه الشعور بالسعادة. إدراكنا بأن مشاعرنا كانت السبب في سعادته سيمنحنا الشعور بسعادتنا كذلك.
أمين حمزاوي