الحياة السرية للأشجار: ماذا تعرف عن مشاعر الشجر وذكرياته؟
في المرة القادمة التي تمد يدك فيها لتقطف زهرة فواحة العطر أو تقطع ورقة شجرة جميلة، راجع نفسك مهما سَحَرَك العطر أو أخذتك روعة المشهد، فالأشجار تحس وتتألم، كما أنها كائنات اجتماعية لها أصدقاء وأعداء، وهذا ما يثبته العلم يومًا بعد يوم طبقًا للمشجِّر (شخص يرعى شؤون الغابة) الألماني «بيتر فوليبن» (Peter Wohlleben).
تتحدث الأشجار لغة متطورة، غير أننا لا نفهمها كثيرًا، كما أنها تعبِّر عن وجودها وتدافع عنه من خلال إثارة حاسَّتَي الشمِّ والتذوُّق، وهي كذا تستخدم الإشارات الكهربية كما هو الحال عند البشر، وهذا العالم السِّري للأشجار هو ما يستكشفه فوليبن في كتابه (The Hidden Life of Trees)، الذي عرضته «ماريا بوبوفا» (Maria Popova) في مقال لها على موقع (Brain Pickings).
يسجل فوليبن في كتابه تجربته في إدارة إحدى الغابات بمنطقة سلسة جبال إيفيل الواقعة في شمال أوروبا، وكيف علَّمته لغة الأشجار المدهشة، ويوضح أن البحوث الشجرية الرائدة التي يُجريها العلماء حول العالم تكشف الدور الذي تلعبه الأشجار في جعل عالمنا مكانًا صالحًا للحياة.
لا نزال نحن البشر نخطو أولى الخطوات نحو استيعاب هذه الكائنات، لذا يقدم لنا فوليبن هؤلاء الرفاق القدامى في إطار جديد، فكتابه يمثِّل دعوة لأن نرى الأشجار بعين جديدة ونعتني بها، فهي التي تجعل الحياة على هذا الكوكب ليس فقط ممتعة، ولكن ممكنة في الأساس.
جذع مبتور يغيِّر نظرتك إلى الأشجار
العجيب أن فوليبن لم يكن يأبَهُ بالأشجار في بداية حياته المهنية، فبحكم عمله في الغابات كانت مهمته هي تعظيم كمية الأخشاب التي تنتجها الغابة لاستخدامها في الصناعة، ويقول ساخرًا إن كل ما كان يعرفه عن حياة الأشجار هو «نفس مقدار ما يعرفه الجزار عن الحياة العاطفية للحيوانات»، فقد كان عمله هو تحويل ذلك الكائن الحي إلى سلعة، وكان ذلك التفكير ذو الطابع التجاري لعمله يشوِّه نظرته إلى الأشجار.
لكن منذ نحو عشرين عامًا تَغيَّر كل شيء، حينما بدأ يرتِّب للسياح الذين يفدون إلى الغابة تدريبات للبقاء على قيد الحياة، ويجهز لهم أكواخًا من جذوع الأشجار، فأجَّجَت نظراتهم المفتونة بالسحر الذي يرونه حُبَّه القديم للطبيعة. وفي نفس الوقت تقريبًا بدأ العلماء أبحاثهم في غابته، وتلونت الأيام بالدهشة وحماسة الكشوف الجديدة، فلم يعُد يرى الأشجار مصدرًا للرزق، بل كائنات ثمينة وعجيبة.
يقول فوليبن في كتابه: «حياتي مشجِّرًا صارت مثيرة مجددًا، فكل يوم أُمضيه في الغابة فيه كشف جديد، وقادني ذلك إلى استحداث أساليب مختلفة في إدارة أحوال الغابة، فحينما تعرف أن الأشجار تشعر بالألم ولديها مخزونها من الذكريات، كما أن الآباء من الأشجار يعيشون مع أبنائهم، لا يعود في الإمكان أن تقطع الأشجار أو تُفسِد حياتها بالمعدات الثقيلة».
تضيف كاتبة المقال ماريا بوبوفا أن هذا التحول في رؤية فوليبن للأشجار جاء في صورة ومضات فتحت عينيه على الحقيقة، وجاءت إحدى أهم تلك اللحظات الفارقة حين كان يتنزَّه وسط محمية طبيعية لأشجار الزان في غابته، ومرَّ بمجموعة من الصخور المكسوة بالطحالب كان قد رآها كثيرًا من قبل، وحينما انحنى ليفحصها اكتشف أمرًا مدهشًا.
يقول المشجِّر الألماني: «كان شكل الصخور غريبًا، فقد كانت ذات انحناءات ناعمة وبها فراغات، وعندما أزلت الطحالب التي تكسو إحداها بعناية لم أجد صخورًا، بل أخشابا عتيقة، وتعجبت من صلابتها لأن خشب الزان الذي يرقد على أرض رطبة يتحلل في غضون سنوات قليلة، ولكن أكثر ما أدهشني هو أنني لم أستطع أن أرفع الخشب، فقد كان مثبتًا في الأرض على نحو ما».
أخرج فوليبن سكينه وفرك بعضًا من طبقات اللحاء بعناية حتى وصل إلى طبقة مخضرَّة. لون أخضر؟ ما كان يعلمه أن اللون الأخضر موجود فقط في الكلوروفيل، فهو الذي يجعل الأوراق الجديدة خضراء، كما أن الأشجار الحية تختزن الكلوروفيل في جذوعها، فهذا لا يعني سوى شيء واحد، أن هذه القطعة من الخشب لا تزال على قيد الحياة».
لاحظ الرجل أن ما ظنه صخورًا يكوِّن شكلًا واضحًا؛ دائرة قطرها نحو متر ونصف: «كان ما وجدته بمحض الصدفة بقايا جذع مبتور خشن لشجرة ضخمة عتيقة، كل ما تبقى منه هو بقايا الحد الخارجي في حين تحلل الداخل منذ زمن، وهو إشارة واضحة إلى أن تلك الشجرة قد قُطعت منذ أربعمئة أو خمسمئة سنة على الأقل».
يتساءل فوليبن: «كيف لشجرة قُطعت منذ قرون أن تكون على قيد الحياة؟ فمِن دون الأوراق لا تستطيع الأشجار تنفيذ عملية التمثيل الضوئي، التي بها توظف ضوء الشمس في إنتاج الغذاء، ومن الواضح أن تلك الشجرة تتغذى بطريقة أخرى منذ مئات السنين».
لقد كشف العلماء أن الأشجار المتجاورة يساعد بعضها بعضًا من خلال جذورها، سواءً مباشَرةً بتشابك الجذور، أو بشكل غير مباشر عن طريق شبكات فِطرية تنمو حول الجذور وتؤدِّي دور نظام عصبي ممتد يربط أشجارًا منفصلة.
بل إن هذه التبادلية أكثر تعقيدًا من ذلك، لأن الأشجار تميِّز جذورها من تلك التي تنتمي إلى أنواع أخرى من الأشجار، بل حتى من تلك التي تنتمي إلى أقاربها، ومِن ثَمَّ فتلك الشجرة ليست الوحيدة التي تعتمد على غيرها للبقاء.
الأشجار تقدِّر الحياة الاجتماعية
معًا، تستطيع الأشجار خلق نظام بيئي يلطِّف الحر والبرد ويخزن المياه.
لماذا تتصرف الأشجار ككائنات اجتماعية على هذا النحو؟ ولماذا تشارك الأشجار الأخرى من نفس النوع غذاءها، بل وتذهب إلى الحد الذي تشارك فيه منافسيها غذاءها؟
يقول فوليبن إن السبب هو أن العمل الجماعي له فوائد، وهو ما يجعل المجتمعات الإنسانية تعمل معًا، فالشجرة وحدها ليست غابة كاملة، فوحدها لا تستطيع أي شجرة أن تخلق مناخًا محليًّا ملائمًا، بل ستكون تحت رحمة الريح وتقلبات الطقس، أما معًا فتستطيع الأشجار خلق نظام بيئي يلطِّف الحر والبرد الشديدين، ويخزن كميات وفيرة من المياه، وينتج جوًّا رطبًا.
في مثل هذه البيئة المحمية تعمَّر الأشجار لسنوات طويلة، ولكن للوصول إلى ذلك ينبغي لمجتمع الأشجار أن يظل سليمًا مهما حدث، فإذا اهتمت كل شجرة لأمرها وحدها فلن يعيش بعض منها عمرًا طويلًا. إذا كان للوفيات معدل منتظم، ستظهر في ظلَّة الأشجار فراغات كبيرة تسهِّل على الأعاصير أن تخترق الغابة وتقتلع الأشجار، كما ستتخلل شمس الصيف الحارقة الأشجار وتجفف التربة، فتعاني الأشجار كافَّة.
لهذا، فكل شجرة لها قيمتها في المجتمع ومطلوب أن تبقى لأطول وقت ممكن، حسب فوليبن، فتدعم الأشجار الصحيحة أخواتها المريضة وتغذيها حتى تتعافى، فربما انقلب الوضع وباتت الشجرة الداعمة في موضع الحاجة في المرة التالية.
يؤكِّد فوليبن بمشاهداته شيئًا مهمًّا: الشجرة تستمدُّ قوتها من قوة الغابة المحيطة بها.
قد يعجبك أيضًا: كوكب الأرض يطلب منا التوقف عن الإنجاب
الأشجار لا تمدُّ أغصانها في وجه أصدقائها
لا يسع المرء إلا أن يتساءل إن كانت الأشجار أقدر على تبادل المنافع من الإنسان لأن حياتها تخضع لمقياس زمني مختلف، فهل فشلنا في رؤية الصورة الشاملة لعملية التكامل البشري يُعزَى إلى قصر أعمارنا؟ وهل تتصرف الكائنات التي تعيش تبعًا لمقياس زمني مختلف على نحو أفضل في هذا الكون شديد الترابط؟
إذا كانت الشجرتان صديقتين فإن كلتيهما تحرص أن لا تمدُّ أغصانها في مواجهة الأخرى.
يشرح فوليبن في كتابه أن الأشجار تتصرف على نحو تمييزي كالبشر، فكل شجرة عضو في ذلك المجتمع، غير أن للعضوية مستويات متفاوتة. فهل في مجتمعات الأشجار مواطنون من الدرجة الثانية كما هو الحال عند البشر؟ يبدو الأمر كذلك، غير أن فكرة «الطبقات» لا تؤدي المعنى على نحو دقيق، لأن درجة الصلة، أو ربما العاطفة، هي التي تحدد مدى تعاون الأشجار معًا.
تقول بوبوفا إن هذه العلاقات، حسب فوليبن، يكشف عنها شكل ظلَّة الأشجار، ويمكن لكل من ينظر إلى أعلى أن يفهمها، إذ تنمو الشجرة المتوسطة حتى تلامس أغصانها أطراف أغصان الشجرة المجاورة التي تساويها في الطول، ولا تتشعب أكثر من ذلك لأن الهواء والضوء الجيد في هذه الرقعة مستحوَذ عليه بالفعل، ولكنها في المقابل تعزز أغصانها القائمة كأن كلتا الشجرتين تزاحم الأخرى.
لكن إذا كانت الشجرتان صديقتين فإن كلتيهما تحرص منذ البداية أن لا تمدُّ أغصانًا شديدة الغلظة في مواجهة الأخرى، فهاتان الشجرتان لا تريد كلتاهما أن تحرم الأخرى أي شيء، لذا فكلٌّ منهما تبسط أغصانًا غليظة فقط عند الأطراف الخارجية لتاجها، أي في اتجاه الأشجار «غير الصديقة»، وقد تكون هذه الأشجار وثيقة الصلة عند الجذور إلى الحد الذي يجعلها تموت معًا.
الأشجار تملك أسلحة للدفاع عن نفسها
لا تتفاعل الأشجار بمعزل عن باقي النظام البيئي، فكثيرًا ما يكون في قلب هذه العملية أنواع أخرى من الكائنات، ويستشهد فوليبن هنا بنظام الإنذار العجيب الذي تستخدمه الأشجار ويقوم على حاسة الشم.
منذ نحو أربعة عقود لاحظ العلماء شيئًا في السافانا الإفريقية، فقد كانت الزرافات تتغذى على أوراق أشجار السنط الملتوي، ولكن الأشجار لم يعجبها ذلك، وكانت سريعًا تفرز موادَّ سامَّة على أوراقها لكي تتخلص من الزرافات، التي فهمت بدورها الرسالة فباتت تتغذى على أشجار أخرى مجاورة.
لكن هل انتقلت الزرافات إلى أشجار ملاصقة؟ لا، بل كانت تفوِّت بضع شجرات وتكمل وجبتها بعد أن تكون قد ابتعدت نحو مئة ياردة.
السبب وراء ذلك مدهش، فأشجار السنط التي تتغذى الزرافات على أوراقها تطلق غازًا (الإيثيلين غالبًا) يحذِّر الأشجار المجاورة من نفس النوع من وجود خطر، فتطلق بدورها موادَّ سامَّة في أوراقها استعدادًا لرد الهجوم.
أشجار الزان والتنوب والبلوط تشعر بالألم حالما يأكل أي كائن أوراقها.
تدرك الزرافات ذلك فتتجه إلى مناطق أبعد يمكن أن تجد فيها أشجارًا أخرى لا تدري بما يحدث، أو تسير عكس اتجاه الريح لأن الرسالة التي تحملها الرياح تصل إلى الأشجار القريبة، فإذا سارت الحيوانات عكس اتجاه الريح أمكنها أن تجد أشجار سنط لا تعلم بوجود الزرافات.
إن الأشجار يحكمها مقياس زمني مختلف عن البشر، فهي أبطأ في إصدار ردود الأفعال. أشجار الزان والتنوب والبلوط مثلًا تشعر بالألم حالما يأكل أي كائن أوراقها، إذ يرسل نسيج الورقة إشارات كهربية مثلما تفعل الأنسجة البشرية عند الإصابة، غير أن تلك الإشارات لا تنتقل في أجزاء من الألف من الثانية كما البشر، بل بسرعة تبلغ نحو سنتيمتر إلا ربعًا تقريبًا في الدقيقة، مما يعني أن دفاعات النبات تحتاج إلى ساعة كي تصل إلى الأوراق وتفسد على الكائن المهاجم وجبته.
تتصرف الأشجار ببطء وإن كان الخطر مُحدِقًا بها، ولكن ذلك لا يعني أبدًا أنها لا تكون على دراية بما يحدث لأجزء بنيانها المختلفة، فإذا ما تعرضت الجذور لمشكلة يُذاع الخبر في أجزاء الشجرة كافة، مما قد يدفع الأوراق مثلًا إلى إفراز مركَّبات روائح، وهي ليست أي روائح، ولكنها صُنعت خصيصًا للتعامل مع المهمة الحالية.
يذكر فوليبن أن الأشجار ليست في حاجة إلى جهاز إنذار شامل، وربما فسَّر ذلك عدم احتياجها إلى إصدار ردَّات فعل سريعة، فعوضًا عن سرعة الدفاع عن نفسها، تمتلك الأشجار قدرة على إصدار إشارات بالغة الدقة والتحديد.
إلى جانب إفراز الغازات والروائح، تستطيع الأشجار توظيف حاسة التذوُّق كذلك، فتُصدر «لُعابًا» يتَّحد بأنواع مختلفة من «فيرمونات» (إفرازات تطلقها الكائنات الحية في الجو لأغراض مختلفة) الحيوانات، وبذلك يمكن للأشجار أن تُبعد الخطر عنها.
قد يهمك أيضًا: ثورة الكوكب: لماذا تدعونا الأرض لإسقاط النظام؟
الأشجار تحافظ على التوازن البيئي
تنقل الأشجار الحكمة إلى الأجيال التي تليها من خلال بذورها.
يشدد فوليبن على مدى أهمية ومحورية دور الأشجار في الحفاظ على النظام البيئي للأرض، فيسرد قصة حدثت عام 1920 في «متنزَّه يلوستون الوطني» (Yellowstone National Park) في أمريكا، وهو أول متنزَّه وطني في العالم، ويمتد في ثلاث ولايات هي أيداهو ومونتانا ووايومنغ.
في ذلك العام اختفت الذئاب من المتنزَّه، وحينها اختلَّ النظام البيئي بأكمله، فزادت أعداد قطعان الإلكة (أيائل ذات قرون كبيرة)، وباتت تتغذى بشراهة على أشجار الأسبن (نوع من شجر الحور) والصفصاف والحور القطني التي كانت تثبِّت مجرى جدول المياه، فقلَّت النباتات ورحلت الحيوانات التي كانت تعتمد على الأشجار في غذائها.
طال اختفاء الذئاب لسبعين عامًا، وحينما رجعت قطعانها عاد النظام كما كان، إذ اضطُرَّت الإلكة إلى الحركة وتقليل الرعي، فعادت إلى الأشجار كثافتها، وعادت جذورها لتثبِّت ضَفَّتَي الجدول وتخفِّف سرعة انسياب المياه، الأمر الذي أعطى فرصة لحيوانات مثل القندس (حيوان مائي من القوارض) لتعود، وعادت كذلك الحيوانات التى تأكل من خضرة ضفاف الجدول.
لا يقتصر هذا التشابك على النُّظُم البيئية الإقليمية، فيذكر فوليبن أن الكيميائية البحرية اليابانية «كاتسوهيكو ماتسوناجا» (Katsuhiko Matsunaga) اكتشفت أن سقوط الأشجار في الأنهار يمكنه أن يغيِّر من حمضية المياه ويحفِّز نمو العوالق، وهي أهم ركيزة في السلسلة الغذائية يعتمد عليها وجود البشر.
في باقي فصول كتابه، يستعرض فوليبن كيف تنقل الأشجار الحكمة إلى الأجيال التي تليها من خلال بذورها، وكيف تتعامل الغابات مع الكائنات المهاجرة.
سيغيِّر كتاب بيتر فوليبن نظرتك إلى ذلك النبات الصغير الذي تسقيه على نحو روتيني، والشجرة كثيفة الأغصان التي تستظلَّ بها من حرارة الصيف، والأشجار العتيقة التي تمر بجوارها بشكل اعتيادي غير عابئ بقيمتها.
قد تتألم لرؤية شجرة مقطوعة أو أوراق شجر متساقطة أو زهرة ذابلة، ففي الغالب سيجعلك الكتاب ترى الأشجار كائنات لها حياة متكاملة، لا مجرد صورة جميلة تصلح فقط لتزيين خلفيات الكمبيوتر والهاتف النقال.
دينا ظافر