أكبر مقبرة إطارات في العالم: الإنسان ابن مدينته وسارد قصصها
حقق عبد الرحمن مراده واستلقى على شطائر الزيتون الضخمة، والتقط صورة جوية له مع صديقه في رحلتهما إلى أكبر مقبرة إطارات في العالم بمنطقة أرحية (جنوب منطقة سعد العبد الله شمال غربي الكويت). هذه الصورة يظهر فيها شخصان يستلقيان على الآلاف من عجلات السيارات، والجهد الذي تكتنزه مثل هذه الصور أقرب إلى المغامرة إذا ما عرفنا أنهما تسلقا جبالًا وأكوامًا من الإطارات القديمة والمهترئة كي يصلا إلى لب المجزرة، الالتقاطة الأشهر في هذا المكان الذي يحتوي على أكثر من 50 مليون إطار للسيارات مهملة المصير الصناعي والبيئي.
عبد الرحمن البداح مصور فوتوغرافي محترف ومدرب تصوير وصانع محتوى وأحد المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. تتمحور اهتماماته حول التصوير التوثيقي وكتابة المحتوى المتعلق بالسفر والترحال والتجارب غير النمطية للناس وعلاقتهم ببقعتهم الجغرافية. يقول البداح: «اقتنصت لقطات مميزة لكنني أحفظ أغلبها للزمن، فلكل صورة توقيت مناسب للظهور، لكنني فضلت نشر هذه الصورة الآن كي يتفاعل الناس مع ما يحدث في هذه المنطقة من فظائع تاريخية منذ عقود».
هذه القطعة من الأرض تختزل بصريًا قضايا بيئية، صناعية، سكنية، أمنية، بيروقراطية، هذه المساحة التي جمعت كل ذاكرة العجلات وعجلة الزمن فيها.
الأرض بصفتها مكانًا لحفظ الذاكرة والاستدعاء
وجود عدد هائل من الإطارات في موقع واحد سبب مشاكل بيئية وأمنية، إذ تشتعل فيها النيران بين فينة وأخرى، وكل مرة بفعل فاعل، وتنتشر الأدخنة والغازات حتى تمتد لمناطق سكنية وزراعية مجاورة، مما يسمم الهواء ويؤثر على جودته. وليس هذا فقط، بل أصبح هذا المردم فضيحة ظاهرة فعليًا عبر الأقمار الصناعية.
الصورة تختزل كيف أن المساحة الجغرافية مكان للحفظ والذاكرة والاستدعاء، فالأرشيف مادة ذات قيمة زمنية محفوظة بعيدًا عن العوام، ويُكشف دائمًا كبرهان مادي للسرد التاريخي. وها هي منطقة أرحية البعيدة والمسورة كمتحف مفتوح تراكم ما يفوق 17 عامًا من تكدس ملايين الإطارات والقضايا المعلقة. ولزومًا للحاجة المجتمعية، كان ظهور هذه الصورة استباقيًا لئلا تضيع مع كينونة الرقمية وكَون اللوغاريتمية، وكي تحرك الناس نحو قضاياهم في عصر الصورة.
تستطيع أن تشعر بأن هذه الإطارات إفرازات لدولة نفطية، كيف صار شكل العجلات المكدسة من بعيد أرشيفًا رماديًا للمدينة الإسمنتية وذاكرة لسكانها ومشاويرهم، بل وانعكاسًا لقضاياهم الكبرى. لقد سوّفت القرارات الحكومية والأوراق المكدسة على مكاتب المسؤولين والأصوات المتناقضة في مجلس الشعب مصير هذه المنطقة، بصفتها ضمن أراضي مشروع جنوب سعد العبد الله الإسكاني المؤجل، في دولة يعاني مواطنوها من أزمة سكن.
كيف يمكن للكنز المنثور أن يحرك الناس؟
لعبت البيروقراطية لعبتها المرئية في هذا المكان الذي تعاقبت على إدارته العديد من الجهات الحكومية عبر الزمن، فبلدية الكويت جعلت منه مردمًا مهجورًا موبوءًا بالشبهات، ثم جاءت هيئة الصناعة لتصرح بأن طبيعة الإطارات ليس لها أي جدوى اقتصادية مع الكميات الكبيرة، وتدعو لتفعيل ملف الصندوق البيئي مع هيئة البيئة.
تدخلت الشركات الخاصة لتفتيت الإطارات في موقع أرحية ونقلها إلى مصنع تدوير الإطارات في منطقة السالمي، ثم تسلمت الملف هيئة البيئة لتمنح التراخيص المشروطة لإعادة تدوير الإطارات بتفويض للقطاع الخاص، ومنها شركة إبسكو (EPSCO) التي كانت من الشركات المبادرة بحل المشكلة ببطء بسبب تواضع التفاعل الحكومي بتجهيز المنطقة بالكهرباء والديزل والماء.
المصنع المتواضع يعمل على تدوير ثلاثة آلاف إطار يوميًا، يحول بعضها إلى خلطات للأسفلت ومنتجات مطاطية للأرضيات الرياضية ومواد مطاط خام، مع تصديرها إلى السعودية وقطر ودول أخرى مستفيدة من هذا النوع من الصناعات.
الصورة هي الصوت المرئي الجمعي
اختار مصنع إبسكو المصور عبد الرحمن لتغطية الموقع بهذا الشكل الفني، لتوجيه أنظار القطاعات الخاصة في الكويت من أجل التكاتف المجتمعي لحل القضية، والإسهام في نقل الإطارات ودعم مشروع إعادة تدويرها.
ومن خلال اسم الصورة (سدحة التواير) نستطيع استقراء ما يقصده المصور، فلقد نزل الفنان ميدانيًا إلى هذا المكان البعيد عن المدينة، واستلقى فوق العجلات وليس تحتها، وهو ما ميز مخرَجات هذا العمل. يقول البداح: «اعتدت على الاستلقاء في تجاربي الأخيرة خلال التصوير، ثم التقاط الصورة عبر كاميرا الدرون التي توضح المشهد كاملًا من الجو، ووظفت أخيرًا هذا الاتجاه في صورتي بعد رحلة تسلق طويلة إلى قمم جبال العجلات المعجونة بأسلاك الحديد، والتي قد ينخدع العابر فيها، فمن تخونه قدماه ربما يحتاج إلى إعلان حالة طوارئ حقيقية».
ويضيف: «تلازمني دائما فكرة "كانت هنا صورة لحكاية كانت.. لقضية كانت"، وحينما يكون التوثيق أسلوب حياتك، تستطيع تناول القضايا الكبيرة وتبسيط المصائب في شكل فني وحلول تأتي معها دون التعرض المباشر للتوتر. لقد ملّ الناس في هذا العصر من المباشرة في طرح القضايا وما يترافق معها من قلق وتوتر يومي، والفن هو الصوت الذي يفضله الناس، إذ يجعلهم ينتبهون للقضية، وخصوصًا حين ينزل الفنان إلى الميدان ويعرّض نفسه للمشكلة كي ينقلها بنفسه».
حصد الفيديو المصاحب لرحلة «مقبرة الإطارات» أكثر من 500 ألف مشاهدة من دول العالم، وتفاعل لافت ومستمر مع الصورة، كان واضحًا بعد أن تواصل مع الفنان رواد أعمال ومهتمون من السعودية وقطر وعمان، وصفوا ما رأوا بأنه «ذهب منثور على الأرض».
المتحف كملف مفتوح
نعم، أُزيلت المقبرة أثناء فترة كتابة هذا النص، وأصبحت هذه الصورة الفريدة استباقية، وخصوصًا بعد نقل الإطارات المبعثرة من منطقة أرحية وتجميعها من جديد بشكل منظم في مكانها الجديد بمنطقة السالمي.
تُرى، هل سيعاني المواطنون الذين سيبنون بيوتهم المستقبلية من إطارات مدفونة تحت أرض الأحلام؟
وهل ستتراكم الوعود مرة أخرى على هيئة عجلات، لكن في مكان جديد؟
سارة أسعد الهندي