الروح والعقل: عن صراع الدين والعلم والفلسفة
مع حلول كل كارثة، وآخرها جائحة كورونا، تُفتح كوة على الماضي، بأسئلة يتراشق فيها فسطاطَي الدين والعلم. يتخاصم موالو الطرفين بجهل عن دور ومكانة الدين والعلم في حياة الفرد والمجتمع، تصورًا بأنهما لدودان لا حليفان، وأن كلا منهما يحاول عرقلة الآخر ليتصدر عقول وقلوب البشر.
الأديان: المعرفة الأولى
صراع الإنسان مع الظواهر الطبيعية كان كل ما يشغل شقاءه اليومي، تفكيره البدائي انقدح مع انتصاب قوامه على رجلين، محاولًا أن يستمد من الطبيعة نفسها ما يدرأ عنه المعاناة والحرمان. الرهبة والخوف دفعاه دفعًا للتوهم بأن هذه الظواهر المناخية تتحكم في أحواله ولا بد من مراضاتها، حين ذاك تدفق الخيال الخرافي، أو لنقل المعرفة الأولى التي أخضعت العقل البدائي لملايين السنين، ليُنطِق الطبيعة والحيوانات وبقية الجمادات، ناسجة الأساطير والملاحم، تجيب عن تساؤلاته وحيرته، هو من كان يسأل ويجيب خياله في آن واحد، ذاك المخيال الأدبي والفني الرفيع، باعتبار الموازين الزمنية آنذاك.
الدين والفرد
الكل دون استثناء يتحدث مع نفسه، ويختلي بضميره، ويتحسس جوهره لينفس ويواسي. ينزوي ويستعصم بذات مطلقة فعالة منجدة، تفلق الصعاب كما الأنبياء والأولياء، لا تُقهر، نصرها مؤزر. هذه هي الوظيفة الأساسية للدين، الإمداد الروحي للنفس البشرية.
يتفشى الدين بين الفقراء والمعوزين لأنهم الأكثر معاناة، يلجأون لذواتهم وضمائرهم التي تحيلهم إلى ضمير وذات كلية يبدعها خيالهم تستجيب لهم إن فتر الزمان. هذا السلاح الخفي بالنفوس، فطرته كتب الترتيل والأدعية، إكمالًا لدور يُصلح حطب الأجساد الخائرة ويرمم النفوس الحائرة، ويلاطف الضمائر مما لا مجال للعلم والعقل أن يرتق فتقه. دواء مجاني فعال ولا عوض عنه، ولو وعينا أنه وهم في وهن. يقول فولتير: «إذا لم يكن الله موجودًا لوجب اختراعه».
الدين والسياسة
النزعة الدينية، وإن شئت فقل المعتقَد ثم الإيمان به، كان شخصانيًا، وانتقل بالعدوى إلى المجتمع واستقر عليه.
ولأنه كما أسلفنا إيمان بمعيل غير طبيعي، مطلق الإمكانيات، تمثل بإله مجهول أو معلوم، رموزه بعض الجمادات والنباتات والحيوانات، كان هذا الإله مؤونة الصراع بين الجماعات حال اقتتالها، وعند الظفر قُدمت لها القرابين أجساد الخصوم. بدا المشهد وكأنه صراع آلهة أو ديانات، لا مجرد حرب بين قبائل بدائية. هنا كانت البداية، بإقحام المعتقَد/الإله في الخصام، لينتقل بعدها لميدان السياسة ملوثًا بدم القداسة.
الدين سلاح معنوي محض
بسبب ازدياد شراسة الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة، كان من الطبيعي أن تحوز الجماهير سلاحًا معنويًا منزويًا في الصدور، ومتى حانت الفرصة توجه لهيبه إلى العدو، فالحماس الديني والولاء له نكس أعتى الجيوش المفتقرة لتلك القوى الهادرة، ولنا في الثورة الإيرانية 1979 وتونس ومصر 2011 خير مثال.
لو أنصت أولئك الطغاة لنصيحة ميكيافيلي: «الدين ضرورة لقيام الحكومة»، لعقفوا رقابهم تجاه شعوبهم. السياسة والدين رفيقا سفر عبر قرون، لم يفترقا رغم غدر كل منهما بالآخر.
الدين والعلم
لا بد من الإقرار بأسبقية الدين في الإطار المعرفي، مشاعر القلق والضعف، إطلاق الأسئلة الكبرى مثل نشأة الكون، طبيعة الخير والشر، منشأ الأخلاق، آلية الطبيعة وتقلباتها المتعاقبة أو المنفلتة.
ساد الفكر والمنطق الديني حتى القرن الرابع عشر الميلادي، وعندها شاءت الأقدار أن تجلو الغشاوة عن العقل البشري، حينما فطن حكماء الإغريق إلى أن المقدس والمقدسات من صنع خيالات وأمزجة أسلافهم، فتخلوا عن الكتب المقدسة والمرسلين، ولم يُبقوا سوى قصائدهم الحماسية «الإلياذة» و«الأوديسة».
من معطيات المنطق العلمي تأصيل معرفة علمية تؤدي إلى تطوير العلوم الحالية، مع كشف الغطاء عن علوم ومعارف جديدة لم تُطرق من قبل. أما الأديان فمعارفها أولية ثابتة، وإن استنبطتْ علومًا جديدة تكون لدعم وتثبيت المعارف الأولية، لذا هي في فلك عملية تبادلية بين المركز والفرع، أو بتعبير آخر بين المعرفة الأولية والمعرفة التالية، ولنمثل ذاك بالاقتصاد والطب الإسلامي وغيرهما، فكل تلك المعارف تتمحور معرفيًا حول المصدر: القرآن.
وهذه المعارف لا يصح تسميتها بالعلوم، لافتقارها للتجارب والاختبارات والتقييم والتحليل، وهو ما تتسم به العلوم الحديثة. مناهج النظر والتأمل الديني تؤدي إلى محاولة إثبات صحة محتوى الكتب المقدسة، بينما بحوث العلم التجريبي تؤدي إلى نتائج جديدة أو غير مألوفة.
الدين والفلسفة
لم تحرِّم الأديان طلب العلم أو تصرف عنه، بدليل ظهور العلماء على مر العصور. لكن المعركة الفاصلة كانت بين الكهنوت والفلاسفة المجددين، كابن ميمون في اليهودية، والقديس توما في المسيحية، وابن رشد في الإسلام، الذين حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة.
عاش الفلاسفة الإغريق حياة الجمع بين الدين الصادق والتفلسف المثمر، دون تعارض يستلزم القضاء على أحدهما. بعض الفلاسفة أدركوا بحسِّهم متانة الدين وعِظم تأثيره، ولم يتمكنوا مع عبقريتهم من إقصائه عن وجدانهم. فـ«ديكارت» و«فولتير» على عظمتهما، بدت في كثير من آرائهما مظاهر التدين. وديكارت كان تلميذ اليسوعيين، ويقول مؤرخوه إنه «كان عميق الإيمان بالمسيحية». أما «جان جاك روسو» فدعا إلى «المسيحية السمحاء»، وحرص على الاهتمام بمسألة الدين والأخلاق، وكان يرى بفرض عقيدة وجود الله والإيمان بالآخرة. وشاركهما فولتير في هذا، مع كونهما ينكران الوحي واللاهوت لكنهما يؤمنان بالله عمومًا.
يقول نابليون إن «المسيحية تجري في عروق الفرنسيين مجرى الدم والعظم، حتى وإن كانت علمانية». والعقل الفلسفي اليوناني على عظيم شأنه، لم ينفلت من إطار الهالة الدينية على المجتمع اليوناني. فهذا أرسطو في وصيته يوصي بأن توضع صورة لأمه في معبد الإلهة «ديميتر»، وأن يشيَّد تمثالان من الرخام أحدهما لـ«زيوس» والآخر لـ«أثينا». مثل هذا الفيلسوف لم يشذ عن التراث اليوناني المؤمن بتعدد الآلهة.
العقل البشري الذي تخلى عن منطق وتُوج بمنطق آخر، انتفض لذاته وولج عصر التجربة والاختبار، والعلم أكمل دور الدين في تجلية الحقائق بمنطق علمي عملي.
تبقى الأديان هي الابتداع الأعظم للبشرية، تُسكر النفوس، تخلب العقول، تستوطن الوجدان، تصول في وغى التحدي.
الدين والرأي العام
في كتابه «الأخلاق»، يقول أرسطو إن «ما يبدو للجمهور صحيحًا نقول إنه حق، وفي موضع آخر إنهم خرفان يتبعون الكبش».
ترفع الأديان حول كياناتها أسوار دفاع حماسية، تستغرق عواطف الناس وميولهم، وتكلفهم كحماة منافحين عنها، وتستجيب الغالبية لهم، فالرأي العام هو ما يرغب ويميل الناس إليه، وبتعبير آخر هو بمثابة تأييد شعبي لمعتقد أو فكرة أو سلوك، يدخل ضمن دائرة اللاشعور المدافع عنه. ويمكن أن نقول إن المجتمع تقمص حالة عاطفية جماعية استهوت أمزجته الفردية. هوية الدين مقدسة، الخروج عنها خروج عن رأي عام الجماعة، والامتثال لفكر وأخلاق وسلوك الجموع فيه نهي عن مغادرة النص الجماعي الملتزم به.
من يريد أن يغير ويؤثر في الأفراد فليبدأ منهم لأنهم جوهر المشكلة، يستكشف نفسياتهم وعقلياتهم وسلوكياتهم وبقية العوامل الموجهة لهم، هم من لبس قناع الدين أو من سيتخلى عنه. العقدة ليست في الفكرة الدينية، بل الإشكالية في الإيمان المطلق بالأديان. الهياكل الدينية توهمك بأنك تملك الحقيقة المطلقة، العلم المطلق، الأخلاق المطلقة، يعزفون على المعرفة المطلقة كي تبدو لك الحقيقة سهلة بعد الاعتقاد والإيمان بها، مهما بدت فيها السخافة.
المصلحون من الفلاسفة وغيرهم لا يخشون المؤسسة الدينية بقدر ما يهابون الرأي الديني العام، الذي ينبذهم خارج حاضنته الاجتماعية التي نشأوا بها، هذا إن لم يعلقهم على المشانق، أو يقتص منهم بنفسه كما هو وارد في ثنايا التاريخ.
فطن الفلاسفة بحدسهم إلى قوة الرأي الديني العام، فحاولوا التأثير عليه واستمالته أكبر من حرصهم على إقناع اللاهوتيين العقلانيين بصواب منطقهم ومنهجهم. خاطب محمد خاتم الأنبياء الرأي العام الجاهلي، قبل أن يشرع في جدال وجهاء مكة. سقراط على عبقريته آمن بالآلهة وكان يصلي لها، ومع ذلك كان الرأي العام ينتقده لأنه ينفر من الديانة الشعبية لمجتمعه.
لا مانع من مجاورة المصنع للمعبد، ورفقة العالم للقسيس، ودعاء المؤمن للكافر، وصداقة الكافر للمؤمن، فالحياة أكثر رحابة من كل ذلك. هل الإيمان يدعونا إلى الحقيقة، أم الحقائق تقودنا للعلم؟ مَن يطفئ الآخر يتبؤ القيادة.
حبيب حسين