بين الطاعة والعصيان والسلطان: هل التمرد شر؟
الطاعة فضيلة وانحياز للخير تثير الإعجاب لأن القانون أخلاقي. العصيان رذيلة يستوجب العقاب ويثير السخط لأنه جنوح للشر.
هل يمكن أن يتعارض القانون مع الأخلاق أو الفطرة؟ ماذا لو حكم طاغية وفرض سلطته بقوة الخوف ليجبر الضعيف على الامتثال لنظام جائر خنوعًا ومذلة؟ ماذا لو كان سلطة احتلال لا طاغية، هل تصبح الطاعة غير أخلاقية والعصيان فضيلة؟ هل من طاعة متطرفة ينصاع فيها المرء للأوامر دون إعمال العقل، اعتقادًا بأن من أصدرها هو وحده المسؤول وهو من سيُحاسب؟ وماذا لو تعارضت طاعة الإله مع طاعة السلطة أو طاعة الأهل أو سلطة المجتمع، لمن تكون الغلبة؟
المعارضة حينها ربما تأتيك بعقوبة آنية شديدة قد تودي بحياتك، وإن خالفت إلهك ستعيش نادمًا على ما اقترفت، وربما متوقعًا عقابًا أخرويًا، فهل لديك من الشجاعة ما يُثبِّتك على موقفك الذي أملاه عليك ضميرك وقناعاتك، أم الأسهل أن تخالفه لتنضم للجموع أو بالأحرى القطيع حتى تُجنِّب نفسك الأذى؟
ليست كل طاعة فضيلة
في كتابها «ليست كل طاعة فضيلة»، تعرض الأكاديمية المصرية والمتخصصة في الأدب المقارن الدكتورة هبة شريف بعض الإجابات لما سبق في إطار تحليلها المتميز، وتثير فيك الكثير من الأسئلة. تتناول في 232 صفحة أنماطًا مختلفة من الطاعة والسلطات، بين سلطة الأهل والسلطة المجتمعية وسلطة الجماعة التي ننتمي إليها، وكذلك أشكال العقاب.
كل هذا من منظور ثقافي شيق دون نظريات سياسية واجتماعية صرفة، هي في العادة سبب النفور من قراءة الكتب والظلم الذي تتعرض له الأطروحات الجديدة المقدمة في قوالب جامدة. أسلوب العرض والتحليل الماتع الذي تكتب به المؤلفة ربما نابع من عملها كمسؤولة ثقافية لسنوات عديدة بفرع مؤسسة بروهلفتسيا السويسرية في القاهرة، كما أن الأمثلة الثقافية التي تستشهد بها من أفلام ومسلسلات وبرامج وكتب وإعلانات مصرية وأجنبية، وطريقة شرحها تحفز على القراءة والتفكير.
يبدأ السرد التاريخي في الكتاب بأول عصيان، وهي سردية البشرية كلها على الأرض. أخطأ آدم وحواء فدفعا ثمن خطئهما وهبطا من الجنة ليعيشا وذريتهما في مكابدة للهوى ونزاع بين الخير والشر، بين التقوى والفجور، بين الطاعة والمعصية، وليس التمرد والعصيان المؤذن بالهلاك، طالما هناك فسحة للتوبة مقدارها نفس واحد.
ويتدرج من طاعة الإله إلى طاعة الأبوين إلى طاعة السلطة الدينية، ممثلة في بابا الفاتيكان باعتباره ممثل الله على الأرض بالنسبة لفئة كبيرة من البشر، إلى طاعة السلطة الحاكمة في الدولة الحديثة التي عرفنا فيها مفردات مثل السيادة والقومية والوطنية والشرف، والمستخدمة لبسط النفوذ وتعميق الأثر.
يقول الإنجيل: «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس» (سفر أعمال الرسل، الإصحاح الخامس، الآية 29)، ويأمرنا القرآن الكريم بطاعة الله والرسول وأولي الأمر، غير أنه يأمرنا بعدم طاعة الأبوين مثلًا إن أمرا أبناءهما بالشِّرْك، ولهذا فالطاعة العمياء لم تُطلب أبدا، وإلا ما كان الله ليقول في كتابه على لسان من خسروا أنفسهم وكفروا به: «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (سورة الأحزاب، الآية 67).
الطاعة مشروطة إذًا، والدلائل كثيرة، ومنها مثلًا وقف العمل بحد السرقة في عهد عمر بن الخطاب أثناء المجاعة. ظاهريًا، القانون يعصي أمر الله، لكنه لم يصدر إلا عمن يفهم مراد الله ومقصده، ولهذا فهو على حقيقته طاعة وليس عصيانًا. يوجهنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا إلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكننا نعرف أن الله شرع رخصًا لمن لم يستطع الأخذ بالعزيمة، سواء لتملك الخوف أو الألم منه أو لعدم قدرته على تحمل عقاب مُسلَّط عليه.
حينها أذن الله لعباده بتلفظ كلمات الكفر وقلبهم مطمئن بالإيمان، خاصة وأن الضروريات الخمس الشائعة لمقاصد الشريعة المنوط بحفظها هي النفس والدين والعقل والمال والعِرْض، فلا عجب من شيوع الخوف من العقاب الذي يمس بها.
«المواطن المثالي» مطيع
ينقل الكتاب عن عالم النفس السويسري أرنو غروين قوله: «هؤلاء الأشخاص ذوي الشخصيات التي تميل إلى الطاعة المطلقة يصبحون في فترات الأزمات السياسية والاقتصادية والركود أكثر قابلية للرضوخ للاستبداد، بل وأكثر استعدادًا لاستدعائه أيضًا. ففي هذه الأوقات يسيطر على الناس الخوف من فقدان أسباب الحياة، فيتخيلون أن السلطة بما لها من قوة ستحميهم وتوفر لهم أسس الحياة، تمامًا كما كانوا يشعرون بضرورة طاعة سلطة الأهل عندما كانوا أطفالًا، لأنهم يوفرون لهم أساس الحياة».
يضيف غروين: «يطيع هؤلاء الأشخاص السلطة آملين ألا تتعرض حياتهم للمخاطر والتهديد، وأن تلبَّى احتياجاتهم الأساسية، ولا يدركون غالبًا، أو ليس بمقدورهم إدراك أن السلطة كثيرًا ما تستغل هذا الشعور بالامتثال والطاعة لتمرير سياساتها القاسية دون أن تخشى رد فعل ثوريًا أو عنيفًا، فقد امتثل العديد من أفراد الشعب بالفعل وأطاعوا».
أول طاعة يتعلمها المرء في طفولته، فإن نشأ على الطاعة العمياء دون إمعان النظر فذاك الخطر، فالطاعة ليست دومًا مرادفًا للحب كما تقول المؤلفة. نعلم من القرآن ومن تجاربنا الحياتية أن الإنسان لا يحيا دون إله بشكل أو بآخر، فإن لم يُطِع الخالق فسوف يطيع هواه. بالمثل، إن لم يُطِع المرء أباه لسبب ما فسوف يتخذ أبًا غيره ينفذ أوامره، حسبما ينقل الكتاب عن رواية السيرة الذاتية لعمرو عزت «الغرفة 304: كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عامًا».
الطاعة العمياء لم يطلبها الله إذًا، بل يطلبها السلطان.
كثير من الشعارات الوطنية تحمل في طياتها ذرائع للتغاضي عن أخطاء جسيمة وتجاوزات قانونية أو أخلاقية استغلالًا لحساسية التوقيت، رغم أن المحاسبة والمراجعة عناصر تقدم لا تأخر، مثل: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. تتحول الطاعة إلى «وطنية»، والثورة تعد «فوضى»، لا لشيء سوى لأن السلطة وضعت القانون وحددت من يخرج عليه، كما تسرد المؤلفة. لكن ماذا حين يتحول الثوار إلى السلطة؟ هل يصيرون إلى ما آل أسلافهم إليه من سلطوية ليصبح الشعار: لا صوت يعلو فوق صوت الثورة؟
يقول الكتاب في رصد وتحليل مألوف: «تتحول الوطنية في الدول السلطوية إلى سلاح يُشهر في وجه من يقال عنه إنه "غير وطني" أو "خائن" أو "غير محب لبلده". ويمارَس التمييز ضد المختلفين فكريًا وسياسيًا، ليس فقط باعتقالهم أو اغتيالهم، بل بانتزاع الوطن منهم، سواء بنفيهم الفعلي خارج الوطن، أو بنفيهم خارج جماعة "الوطنيين الشرفاء" داخل الوطن. وفي العادة لا تضطلع الدولة سوى بالنفي الرسمي».
ويضيف الكتاب: «أما دفع "غير الوطنيين" إلى الشعور بالغربة داخل بلادهم فهو منوط بمجموعة من "الأشخاص الوطنيين الصالحين المحبين" لوطنهم، عن طريق التشهير والتجريس وتوجيه الاتهامات الباطلة بالخيانة أو العمالة، أو عن طريق التهديد بالفضح أو كشف الأسرار، أو بواسطة السب أو التحريض على الإيذاء. ووسط هذه الأجواء، تصبح طاعة السلطة هي أهم صفات الشخص الوطني، ويصبح الامتثال لقيم وآراء من يقال عنهم إنهم وطنيون السبيل الوحيد للدخول في زمرة الجماعة الوطنية وتجنب الفضح والتشهير وتهم الخيانة».
وقد جرت العادة أن الناس تنفر من المخالفة، بل وترهبها، خاصة في ظل استخدام السلطة لأساليب عقاب تورث الإذلال لمن يخالف قانونها.
فنون العقاب
في رصد وتحليل مألوف أيضًا، تقول د. هبة عن العقاب في كتابها: «يعتبر التجريس والتشهير جزءًا أصيلًا وأساسيًا في سياسات بعض الدول، مثل ألمانيا النازية، لإذلال وترهيب كل من يخالف معيار الدولة السائد عن الالتزام والولاء. وكل من كان ينتقد الدولة كان عُرضة لهذا الإذلال، ويوصم بالخيانة أو بانعدام الشرف، وكان من يفعل ذلك عادة "المواطنون الصالحون الشرفاء"، مدفوعين بالتحريض من وسائل الإعلام التابعة للدولة. كما كان القضاء التابع للدولة يسهم في نزع الشرف عن المواطنين الذين تجرؤوا وانتقدوا سياسات الدولة. فأسست الدولة النازية على سبيل المثال ما أسمته "محاكم الشرف"، وفيها كانت المحاكمات تعقد لـ"أعداء الشعب" علانية أمام الجمهور، وكان الوصم العلني أسلوبًا متبعًا فيها».
التحريض الإعلامي في ألمانيا النازية شمل تشهيرًا وتجريسًا للمعارضين كما تشير المؤلفة، وتدلل بالأمثلة كأعمدة التشهير التي عرفت طريقها إلى صحف فرنسا وإنجلترا وألمانيا كذلك، والتي كانت تنشر أسماء وعناوين النساء المارقات والمنتهكات لـ«نقاء العرق الآري»، بسبب دخولهن في علاقات مع رجال يهود.
هناك أيضا مواكب التجريس الشعبية في الشوارع، والتي تصحبها جوقة موسيقية وتشهدها أعداد كبيرة من الناس، مثل موكب الأحد في مدينة بريسلاو البولندية، وهو شكل الفضح الأكثر عنفًا وقسوة، والذي كان يستعرض الخزي العلني ويزرع الخوف من التعرض للمصير نفسه في الآخرين.
يقول الكتاب: «تلجأ النظم السلطوية في أحيان كثيرة إلى فضح معارضيها عن طريق كشف أسرار حياتهم الشخصية، فيخلط الناس بين حياة الناس الشخصية وآرائهم السياسية، مما يسهم في نزع المصداقية عنهم، فالشخص الوطني لا يخطئ، وبالتالي كل من هو غير وطني ومنتقد للوطن شخص عديم الشرف وعديم الأخلاق بالضرورة، وهو بالتأكيد من "أعداء الوطن"».
تتبادر إلى الذهن فورًا عند قراءة الفقرة الأخيرة أسماء مقدمي برامج توك شو يجمعون بين العمل التلفزيوني والصحفي، ممن يخالفون مواثيق الشرف الإعلامي بما يمارسونه من تشهير وإرهاب، لكنهم يستمرون في عملهم دون محاسبة. وربما يكمن السبب في ذلك في الفقرة التالية.
«تحتاج الأنظمة السلطوية لبقائها وترويض شعوبها إلى وجود عدو، فتلجأ إلى عدو متخيل تتخذ منه موقفًا شديد العداء، وتشيطنه وتصفه بكل صفات التوحش والإجرام، وتنزع عنه القيمة والشرف، فبدون هذا العداء المطلق، لا يمكن لها أن تبرر القوانين التي تبيح لها كل هذا التنكيل بالمعارضين المهددين لوجودها».
«العصيان لا يعني بالضرورة الانحياز للشرور»
الأوامر تُطاع إذًا «حتى لو كانت غلط»، كما جاء في فيلم «البريء» الذي تستشهد به الكاتبة. وهو نفس ما تؤكده الفلسفة اليونانية العقلانية من ضرورة التزام الإنسان أدبيًا بطاعة قانون الدولة «حتى لو كان مؤمنًا بأن قانون الدولة غير سليم أو غير أخلاقي»، كما جاء في كتاب «فكرة القانون» للمحامي والدكتور البريطاني دينيس لويد.
هكذا آمن العاملون في مفاعل تشيرنوبل النووي. كارثة الانفجار كانت مثالًا جليًا لكيف تؤدي طاعة السلطة دون نقاش لدمار العالم بينما كان العصيان تقدمًا للأمم، كما يذكر الكتاب.
هل يحق للسلطة إذًا سن أي قوانين وعلينا الإذعان مخافة العقوبة؟ هل تملك أي سلطة ولو كانت منتخبة صكًا أبيض من الشعب لتحكم بما تريد؟ يمكننا التفكير في العديد من الأمثلة كالتطعيمات الإجبارية والأحكام العرفية وحتى أوامر هتلر وستالين، ومن قبلهم قوانين الفصل العنصري في أمريكا التي حرمت ذوي البشرة السوداء من ارتياد الجامعات وركوب المواصلات وغيرها من مظاهر الاضطهاد، والكثير من التطورات المعاصرة في بلداننا.
لا تفرقة بين آمِر ومأمور، إذ يخبرنا القرآن أن فرعون وهامان وجنودهما كانوا جميعهم خاطئين، وتخبرنا الحياة أن المشترك في الجريمة مجرم وليس منفذًا للأوامر، لهذا جرت محاكمة جنرالات النازية رغم إقرار قانون دولتهم بالإجرام الذي ارتكبوه، وجرت محاكمة مجرمي الحرب في البوسنة وكوسوفو رغم طاعتهم لرؤوسائهم. المقارنة بين من أمر ومن نفذ قد تنحصر في بعض الحالات بين سيئ وأسوأ، مع انتفاء البراءة عن أي طرف.
«العصيان لا يعني بالضرورة الانحياز للشرور، أحيانًا يكون التمرد أكثر اتساقًا مع الحس الأخلاقي السليم».
حنان سليمان