برنامج «Take Me Out نقشت»: بيع النساء على شاشة التلفزيون
كتبت شيخة البهاويد ونورهان مصطفى
في ستينيات القرن الماضي، تحديدًا عام 1966، على خشبة مسرح سينما «الأندلس» في الكويت، وقفت فيروز تغني «بكتب اسمك يا حبيبي»، تروي بخفة شديدة قصة فتاة يراوغها حبيبها. وبالتزامن مع الحفل، كانت كلمات الأغنية تنساب من شمس العصاري الواهنة في شوارع لبنان قبل بدء الحرب الأهلية، التي خفضت تعداد السكان من ثلاثة ملايين إلى مليونين ونصف.
«أنا بحب كون عبدة للشاب، وبحب يضربني بالخيزرانة»، جملة تقولها إحدى الفتيات في عام 2018 على شاشة الفضائية اللبنانية «LBCI»، ضمن حلقة من برنامج «Take Me Out نقشت». نعم، تعرض الفتاة ميولها المازوخية بصورة تجعلها أقرب إلى سلعة، وتوافقها بقية المشتركات ومعهن الحضور بحزمة من الضحكات المثيرة والتعليقات الجنسية، التي تتكرر ضمن أحداث برنامج وُصفَ بأنه «سوق نخاسة تلفزيونية». فما الحكاية؟
أسأل صديقتي اللبنانية «يعني إيه نقَشِتْ؟»، فتجيب: «يعني ظبطت معك، حظك كويس». يدور في ذهني سؤال: هل ذهبت 30 فتاة إلى هناك كي «تظبط معهن»؟ لكن بمشاهدة الحلقات أجد أن سياق البرنامج يدور حول الابتذال والإثارة، وليس الهدف الرئيسي «المواعدة».
الحرملك لا يزال في عقلي
في المسلسل التركي الشهير «حريم السلطان»، تتعلم الجاريات في الحرملك (جناح الحريم)، يتدربن، يتأنقن، يتجهزن للسلطان، ثم ترشح والدته، بصفتها المسؤولة عن الجناح، الأفضل من بينهن، فيختار من يريد أن تقضي معه ليلته. هل يبدو هذا مألوفًا؟
«الحرملك» يعشش في عقل الرجل العصري، فيعتقد أن حقبة الحريم انتهت، لكنه يعيد إنتاجها بأشكال مختلفة وبيئات متغيرة، وهو ما يحصل في البرنامج.
يُعرِّف الموقع الرسمي لقناة «LBCI» برنامج «نقشت»، الذي يُذاع عشية كل أحد عقب انتهاء نشرة الأخبار، بأنه «برنامج ترفيهي تشارك فيه مجموعة من الرجال، وفي كل حلقة عليهم محاولة الحصول على موعد غرامي مع امرأة من بين 30 امرأة داخل الاستوديو. مواقف عفوية وكوميدية وغرامية تسيطر على أحداث البرنامج».
ربما تقدم القناة من جانبها تعريفًا «بريئًا» للبرنامج، لكنك لن تجد ذلك التعريف خلال مشاهدة الحلقات، إذ تصطف 30 فتاة من مراحل عمرية مختلفة، ثم يأتي شاب ليقف في منتصف «الحلبة»، يعرض مقوماته الجمالية والمادية، وربما «فحولته»، إذ يخلع أحدهم سرواله خلال إحدى الحلقات، فتتسابق عليه الفتيات متلهفات.
في كتابها «هل أنتم محصنون ضد الحريم؟»، تحكي الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي عن الحرملك الذي يعشش في عقل الرجل العصري، وكيف يعتقد بأن حقبة الحريم العثماني انتهت، لكنه لا يزال يعيد إنتاجها بأشكال مختلفة وبيئات متغيرة بحسب الزمن، وهو ما يحصل في البرنامج.
لكن هل يسلِّع «نقشت» المرأة فقط؟ يبدو أنه يسلِّع العلاقة بكاملها، يضعها كمادة للربح على الجهاز الإعلامي، يبهِّرها ويجعلها أكثر إثارةً بالشكل الذي يجلب المال للقناة.
فرح برقاوي، الناشطة النسوية الفلسطينية التي أسست مبادرة «انتفاضة المرأة في العالم العربي» وأسهمت في إنشاء «ويكي الجندر»، لم تسمع بالبرنامج من قبل. دعوناها في «منشور» لمشاهدة حلقة معنا، ورصدنا ردود أفعالها العفوية على الأحداث، وهذه هي:
التحرش ليس تزمتًا أخلاقيًّا
لو شاهدت البرنامج ستصادف تعليقات كثيرة مثل ذلك الذي أطلقته إحدى الفتيات سائلةً عن واحد من المتسابقين: «لسانُه حلو؟»، فأجابتها أخرى بنبرة ساخنة: «إنتي بس همِّك لسانه؟». وفي حلقة مختلفة، يتحدث متسابق عن اشتراطه الارتباط بفتاة ذات سمعة حسنة، فتضغط إحدى الفتيات زر الرفض: «سُمعتي مش منيحة»، تقولها ضاحكةً بشكل مثير، ويضج الاستوديو كذلك بالضحك والتصفيق.
مشهد آخر يتقدم فيه متسابق يعمل في الصيدلة فترفضه فتاة. يسألها فؤاد يمين مقدم البرنامج عن السبب، خصوصًا أن معظم الفتيات في الاستوديو تمنينه، فترد: «بخاف من الإبرة»، فيسارع المتسابق إلى تقديم إجابة حمَّالةِ أَوجُه: «ما تخافي، إبرتي ما بتوجع».
«منشور» حاول التواصل مع القناة المنتجة للبرنامج أكثر من مرة، لكن لم نتلقَّ أي رد، وتواصلنا كذلك مع فؤاد يمين وبعض المتسابقات دون استجابة، لكننا حصلنا على بعض الإجابات من الإنترنت.
يوضح فؤاد يمين أن «الأحداث التي تحصل واقعية ولا نتفق عليها مسبقًا، ونحن مهمتنا أن نوصل الشاب والفتاة إلى موعد، من بعدها يأتي قرارهما بخوض علاقة جدية أم لا، وهناك عدة أشخاص حاليًّا في علاقة جدية، بينما كثيرون لم يكملوا العلاقة».
يحاول الشاب تقبيل متسابقة بينما تدفعه، ويصر هو. تبتعد الفتاة ضاحكةً لاقتناعها بأنه مجرد برنامج كوميدي، لكن ما حدث كان تحرشًا حقيقيًّا.
سواء كانت الحوارات التي تحصل في الحلقات معدة مسبقًا أو تصدر بعفوية، ألا يؤسس مثل هذا النوع من المغازلة لفكرة التحرش اللفظي كفعل مقبول ومستساغ وتتلقاه الفتاة بسعادة ورحابة صدر؟
لكن الفتيات جئن بإرادتهن، أليس كذلك؟ يعلمن ماهية البرنامج وكيفية الحوارات فيه، وربما يتمادين فيرمين بطُعم النكتة الإباحية كي يلتقطها المتسابق أو المقدِّم وتتوالى الضحكات.
نعم، القبول يلغي فكرة التحرش، لكن ماذا عن التطبيع معه بالنسبة إلى المُشاهدين؟ ماذا عن تصوير فتيات يتقبلن كلمات إباحية من شاب لا تربطهن به أي علاقة مسبقة، ويخرجن معه في موعد لمجرد إثارتهن عبر هذه الكلمات؟ ما تأثير هذا على المتلقي؟
ماذا عن الحلقة التي حاول فيها أحدهم تقبيل متسابقة بينما تدفعه، ويصر هو على تقبيلها؟ ابتعدت الفتاة ضاحكةً بالطبع لاقتناعها بأنه مجرد برنامج كوميدي، لكن ما حدث كان تحرشًا جنسيًّا حقيقيًّا، وهناك تطبيع معه، وقولنا هذا ليس من باب التزمت، فليس في التحرش «حرية جنسية».
Take Me Out: هل النسخ الأجنبية أفضل؟
البرنامج «كذبة» كبيرة و«ذنب» يقترفه المُشاهد تجاه نفسه.
منذ سنوات طويلة، تعرِّب رولا سعد برامج تلفزيون الواقع الأجنبية، مثل «The Perfect Bride» الذي صار «قسمة ونصيب»، وعُرض من 2007 إلى 2009. تنسخ رولا البرامج كما هي، الاختلاف الوحيد أنها تجعلها فقط أكثر سطحية.
هذه المرة، تعرِّب رولا برنامج «Take Me Out»، لتُثبت نظرية «الأحزمة الناقلة» للدكتورة عواطف عبد الرحمن، التي وصفت البرامج الثقافية المستوردة، في كتابها «قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث»، بأنها ترسِّخ صور الحياة الاستهلاكية في الدول الرأسمالية المتقدمة، وتعرِّض الشخصية العربية للمسخ والاغتراب الحاد، وهو ما يحدث هنا.
للبرنامج عدة نسخ أجنبية، في آيرلندا وأمريكا وجنوب إفريقيا، إضافةً إلى نسخته الإنجليزية الأصلية، وكلها تأتي في سياق «المواعدة الترفيهية» بما يناسب ثقافة كل مجتمع، لكنها لا تخلو من تسليع المرأة أيضًا ووضعها في إطار البيع والشراء، كحال النسخة العربية.
«أسوأ شيء حدث على كوكب الأرض»، هكذا وصف الصحفي «ستيوارت هيريتاج» النسخة الأصلية في مقاله على صحيفة «الغارديان» البريطانية، موضحًا أن البرنامج «كذبة» كبيرة، ومشاهدته «ذنب» يقترفه المُشاهد تجاه نفسه.
الناشطة النسوية والمدونة «هيلين ريدنغ» تعرضت للحرج بسبب البرنامج، إذ كانت تشاهد إحدى حلقاته برفقة ابنتها البالغة ستة أعوام فقط، لتجد الفتيات المشاركات يسخرن من أحد المشاركين الرجال بسبب نحافته: «انظروا، مومياء تلبس بنطالًا».
وجدت هيلين حينها، كما نشرت في مدونتها الشخصية، أن البرنامج يشبه أفلام الكوميديا البريطانية العنصرية في السبعينيات، ويقوم على العنصرية والترفيه التلفزيوني «القاسي»، ولا يعاكس المبادئ النسوية فحسب، بل يعلِّم الجميع ذكورًا وإناثًا أن يحكموا على بعضهم عن طريق الشكل والملبس، وأن وشمًا على مؤخرة فتاة أهم بكثير مما يدور في عقلها.
هل يمكن أن تبدأ علاقة حقيقية عن طريق عدد عضلات البطن؟
لم تسلم النسخة اللبنانية من العنصرية، ففي إحدى الحلقات، تطفئ المشتركة تاليا الضوء الأبيض الخاص بها، أي أنها ترفض المتسابق، وتعزي ذلك إلى اللهجة التي يتحدث بها، فيحتدُّ الشاب: «اللبنانيين يفخرون بأي لهجة»، فتتراجع تاليا عن الإساءة وتقول إنها أصلًا أرمنية (أقلية في لبنان)، لكنه يرد عليها بعنصرية مضادة، معلنًا ارتياحه لأنها لم تختره.
كذلك، تعرَّض المشترك إيلي خليل للنقد على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما خرج في موعد مع المشتركة إيفونا، أبرز الفتيات ونجمة البرنامج. كثيرون وصفوه بأنه «برميل»، وآخرون وجهوا اللوم إلى الفتاة: «تصومي تصومي وتفطري على بصلة؟».
نقشت: تشتت
في محاولة من البرنامج لتوسيع رقعة النساء والرجال المستهدفين، تنوعت خلفيات المتسابقات واختلفت أعمارهن وأحجامهن وأشكالهن ومستواهن التعليمي والاجتماعي، لكن هذا لم يكن في صالح البرنامج بقدر ما كان ضده، فالتنوع يبعث رسالة بأن النساء من كل الفئات يقبلن بموعد مع شاب استعرض عضلات جسده ونوع سيارته ووظيفته دون أي شيء آخر، كلهن يُرِدن ذلك، وهو تنميط لما ترغب فيه النساء، وتنميط لما يجب أن يكون عليه الرجال.
هل يمكن أن تبدأ علاقة حقيقية عن طريق عدد عضلات البطن؟ لا يستعرض الشاب المتسابق آراءه أو أفكاره أو شخصيته، ولا تفعل الفتاة أيضًا، هذا ليس مهمًّا، المهم هو كيف تبدو وكيف يبدو، الحكم بحسب الشكل.
يعرض البرنامج في كل حلقة لقطات من المواعيد الغرامية الأولى التي خرج فيها الفائزون في الحلقات الماضية: موعد على قارب، شموع وورود متناثرة، بحر أزرق وهواء عليل، نظرات إعجاب متبادلة، قبلات وأحضان، بينما يُغفل المعدون أن هذا هو الموعد «الأول»، موعد التعارف، موعد جَس النبض والتجربة. كيف يمكن أن يكون فيه كل هذا العشق بين اثنين لا يعرفان بعضهما؟
حين تقدم المحامي وسام المذبوح ببلاغ إلى النيابة العامة في بيروت ضد «LBCI» وفؤاد يمين، بتهمة «الإساءة لسمعة الشعب اللبناني وانتحال صفة والتحقير والتعرض للآداب العامة»، دعت القناة معارضي البرنامج إلى حمل «الريموت» وتغيير المحطة، واعتبرت «نقشت» منبرًا لجرأة المرأة أمام التسلُّط الذكوري. كذلك كان رد يمين في حلقة من برنامج إذاعي، أنه «ببساطة، المنزعج يستطيع تغيير القناة»، وهو ما أطلق هاشتاغ «#إذا_زعجك_غيّر» على مواقع التواصل الاجتماعي.
في يناير 2017، تمخَّض اجتماع المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع في لبنان عن اتفاق ضمني مع إدارة القناة لتهدئة الرأى العام، عن طريق إعادة تعديل حلقات «Take Me Out نقشت» للتخفيف من الإيحاءات الجنسية، وتغيير موعد عرضه من «وقت العائلة» عقب نشرة الأخبار، إلى توقيت يُسمح فيه لمن هم فوق 16 عامًا فقط بالمشاهدة، لكن هل هذا هو الحل حقًّا؟
فريق منشور