المقاومة بشتلة ورد: كيف ألهم مخيم لاجئين معرض زهور في إنجلترا؟
«أتوق، مثل غيري، لأن أكون في منزلي ووطني، طيلة الوقت» - «مايا أنجيلو» شاعرة ومغنية، وناشطة حقوقية أمريكية.
يمكنك أن تفجر منازل أو تقتلع أشجارًا أو حتى أن تقتل أصحابها، لكن لن تستطيع خلع حبها من قلوب من تبقَّى حيًّا منهم. هذا الحب الذي شعَّ وتعاظم، من داخل مخيَّم دوميز للاجئين السوريين في شمال العراق، إلى أن وصل معرض تشيلسي للزهور غرب لندن، الذي حرصت الملكة إليزابيث الثانية على زيارته، في مايو 2018.
كيف إذًا، يمكن لإرادة فارٍّ من جحيم القصف المتواصل على دمشق، اقتطع في طريقه ساقًا لوردة الجوري (الورد البلدي)، وصمم على زراعتها أمام مسكنه الجديد، أن تلهم «توم ماسي»، ليصمم حديقة مستوحاة من روح المخيم، كي تشارك في المعرض الملكي؟
كانت زيارة المخيم تجربة قوية لماسي، فتحت عينيه لتريه كيف أن اللاجئين الذين وصلوا إليه، دون ممتلكات شخصية تقريبًا، قد كافحوا لإعادة إحياء جزء صغير من حياتهم في سوريا.
يعلق على زيارته لهم: «وجدت أنه لا يتوفر لديهم إلا الموارد الأساسية فقط، ومع ذلك يصرون على الزراعة. رؤيتهم خلقت لدي إحساس بالتواضع، وجعلتني أدرك عظمة مكانة البستنة لديهم، وجليل الفائدة التي يوفرها وجود المساحات الخضراء حولهم».
بالنسبة إلى توم ماسي، كان الاشتراك في معرض تشيلسي الملكي للزهور مغامرة، إذ إنه بدأ عمله في تصميم الحدائق منذ ثلاث سنوات فقط. قبلها، درس ماسي فنون التحريك البصري عبر الكمبيوتر، واتجه للعمل في مجال الإعلانات، لكنه تركه بعد فترة، فقد وجد أن عليه «الجلوس ساعات طويلة في غرفة مظلمة»، لذلك درس تصميم الحدائق، واتجه للعمل فيها.
يشرح العلة «كنت مرتبطًا دائمًا بالمساحات الخضراء، لأني ترعرت في ضاحية ريتشموند، حيث الحديقة على عتبة داري، وقضيت مواسم صيف كثيرة في مدينة كورنوال، أستمتع بالحياة البرية».
لكن، ما أهمية معرض تشيلسي للزهور؟
معرض تشيلسي للزهور والحدائق، الذي تنظمه «الجمعية الملكية للبساتين»، في الأراضي التابعة لمستشفى تشيلسي الملكي بلندن، يبدأ في مايو من كل عام، منذ 1912 حتى اليوم. ويعد من أكثر المعارض شهرة، وأعلاها مكانة في بريطانيا، ويحضره أفراد العائلة المالكة، ويحرص الناس من كل أنحاء العالم على زيارته.
استلهم ماسي العمارة الإسلامية التقليدية التي اشتهرت بها منازل دمشق، فوضع نافورة في منتصف الحديقة على شكل نجمة، تشع منها مصارف المياه الصغيرة التي تأخذ الفائض من سقاية الزرع، وتعيد توزيعه.
يصطحب اللاجؤون معهم بذورًا وسيقانًا مقتطعة من ديارهم، لتذكرهم بالوطن
وبنى في أحد جوانب الحديقة «بارافان» من الخشب المشغول، المشهور في البنايات القديمة لفصل أجزاء المنزل عن بعضها، من أجل توفير بعض الخصوصية لسكانه. وحرص ماسي على استخدام نفس المواد المتاحة لسكّان المخيم، من أسمنت وحديد وخشب وصفيح، مع إضافة تعديلات طفيفة.
من أكثر المناظر إلهامًا، والتي استوحاها توم ماسي من المخيم، الاستخدامات المبتكَرة للمواد المتاحة فيه، مثل زراعة النعناع والبقدونس وغيرهما من أعشاب الطهي في علب الطعام وزجاجات المياه القديمة، كمثال مدهش على إعادة تدوير الموارد وخلق حياة جديدة، لكل من نبتة النعناع وعلبة الصفيح الفارغة. ونرى كل هذا مصفوفًا على جدران الحدائق، في المعرض والمخيم.
الزرع نفسه خليط مدهش من التين والليمون والرمان وورد الجوري والثوم والزهور الزرقاء بهية الطلة، من فصيلة «لسان الثور» (Anchusa)، وغيرها من الثمار والأعشاب المستخدَمة في الطهي والتداوي.
وجد ماسي أن اللاجئين غالبًا ما يصطحبون معهم بذورًا وسيقانًا مقتطعة من ديارهم، لتذكرهم بوطنهم في مسكنهم الجديد. من أجل هذا، تعكس الحديقة المشاركة في معرض تشيلسي، صفات المرونة والابتكار وقوة العزيمة، في تجلٍّ ساطع للجمال المدفون في المخيم.
كثيرٌ ممن قابلهم توم قالوا له إن حدائقهم عبارة عن «أماكن للهرب»، لذلك أراد تصميم مساحات يستطيع الناس الجلوس فيها، والإنصات إلى صوت جريان المياه: «النباتات كذلك تتميز بقدرتها على مخاطبة المشاعر مباشرة، بحيث تنقل الرائي إلى أماكن أخرى».
«رأيتهم يضربون كفًّا بكف، وسمعتهم يقولون: جُنَّت فوزية، وعوضنا على الله. لم أفهم لماذا قالوا ذلك؟ واستغربت أكثر عندما سمعت أحدهم يهمس: فوزية تقلد الأغنياء الذين يزينون بيوتهم بالنباتات. اندهشت لأنه من قريتنا ويعرف. نحن فلاحون، صحيح أن النساء في عائلتنا الصعيدية لا يخرجن إلى الحقول للفلاحة، لكن الفلاحة هي حياتهن التي يفتحن عيونهم عليها» - رضوى عاشور، «رأيت النخل».
تزرع أفين إسماعيل نباتات تذكِّرها ببيتها وبسوريا.
في ركن حديقة معرض تشيلسي، هناك شجرة ليمون تحاكي مثيلاتها المزروعة في المخيم، لكنها ترمز أيضًا لمنظمة «Lemon Tree Trust» التي موَّلت تصميم الحديقة للمشاركة في المعرض. وتعد هذه المنظمة الدولية غير الربحية إحدى فروع مؤسسة «Citizen D» الأمريكية، التي تهدف لدعم المشروعات الزراعية في المجتمعات المهمَّشة، مثل مجتمعات اللاجئين.
مَدَحت «ستيفاني هانت»، التي أسست هذه المنظمة، الحكومة الكردية الإقليمية التي تدير مخيم دوميز، لتفرُّدها في أنها «منفتحة جدًّا تجاه الأفكار المختصة بالزراعة والبستنة وتطوير المساحات الخضراء».
وتصف المؤسسة نفسها، عبر موقعها: «ندعم مبادرات إنشاء الحدائق في مجتمعات اللاجئين، بوصفها سبيلًا لاستعادة الكرامة والهوية الثقافية. ونساعد في خلق الترابط بين الناس، عن طريق إقامة المراكز التعليمية والمسابقات بين الحدائق، وتوفير البذور والشتلات من أجل الزراعة».
كيف لإرادة سيدة واحدة أن تجلب الفرح لناس المخيم؟
«وكان موطنه مطبوعًا بقوة في روحه» - هوميروس، «الأوديسة».
تزرع «أفين إسماعيل» التين والرمان والعنب والجزر وزهور النرجس، ضمن كثير من ما ينبت في حديقتها داخل مخيّم دوميز للاجئين بشمال العراق، حيث تعيش، وذلك لأن هذه النباتات تذكِّرها ببيتها وبسوريا.
صُمِّم المخيّم عام 2012 لاستيعاب ألفي لاجئ فقط.
في البداية، لم تجد أفين البيئة الصحراوية ملائمة للزراعة. لكن، لأنها تقدِّر الخضرة والزراعة تقديرًا عظيمًا، حاولت مع مساحة صغيرة من الأرض بجوار المنزل الذي بنته أسرتها في المخيم. وفي 2015، عندما رأى أعضاء مؤسسة «ليمون تري تراست» البريطانية حديقة أفين، طلبوا منها مساعدتهم من أجل تشجيع الآخرين على الزراعة في المخيم. وهي تعمل بوظيفة رسمية الآن في المؤسسة.
السبب، كما تصرح أفين: «أتمنى أن أمنح جيراني منظرًا جميلًا، وأن أوفر لنفسي بعض الخضروات الطازجة كل يوم. لذلك أشجع على الزراعة داخل المخيم».
هربت أفين مع زوجها وأبنائها الثلاث من الحرب الأهلية السورية في 2011، تاركين بيتهم في دمشق بعدما قُتل عدد من أقربائها الذين كانوا في نفس الحي. وما زالت الحرب دائرة حتى الآن، مسفرة عن 11 مليون لاجئ، وأكثر من ربع مليون قتيل. أسرة أفين واحدة من أكثر من 26 ألف لاجئ في مخيم دوميز، الذي يمتد لنحو 1840 كيلومترًا مربعًا.
اقرأ أيضًا: الفرار من سوريا: ﻻجئ سوري يحكي تجربته في السفر إلى أوروبا
«لا أفهم كيف يمكن لأي شخص أن يعيش من دون مكان ساحر، ولو صغير، حوله ليسكن إليه» - «مارجوري كينان رولينغز»، مؤلفة أمريكية.
يرى ماسي أنه: «من الجميل رؤية مثل هذه التصميمات تشارك في المعارض الكبرى، لأن تلك المعارض ليست مجرد حدائق منمقة ومصقولة دون معنى أو رسالة تنقلهما».
المخيم، الذي صُمِّم عام 2012 لاستيعاب ألفي لاجئ فقط، وما زال السوريون ينزحون إليه في محاولة للنجاة بأرواحهم، ينضَح بالمعاناة الإنسانية والظروف الصعبة، مثل نقص المياه وشبكة صرف صحي ملائمة، ونفاد الأراضي المخصصة له، ولا يستطيع التوسع. لكن، في وسط كل هذا، تشق الزهور الأرض، رافضة الاستسلام للواقع.
«اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع، وقالت: رأيت أصص الزرع في الشرفة. قالت إنها جميلة، وسألتني على استحياء أن أعلمها، فعلَّمتها. أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته، ثم جلسنا، وتحدثنا» - رضوى عاشور، «رأيت النخل».
فازت الحديقة التي صممها توم ماسي مستلهمًا شجاعة أفين، وبقية سكان المخيم، بميدالية من الفضة المذهبة، وهي ثاني أهم الجوائز في معرض تشيلسي للزهور.
رزان محمود