اختلال الحواس: مرض يجعلنا نشم الموسيقى، ونرى ألوان الحروف
كل من يقضي وقتًا مع الأطفال في سن الحبو يعرف أنهم يقولون أشياء عجيبة. لكن الكاتبة «كرستين واير»، المتخصصة في الكتابة العلمية والنفسية، جرَّبت أمرًا مختلفًا مع ابنتها التي قالت لها إنها تشعر بأن أذنيها كاللون البرتقالي.
فكرت كرستين في ما إذا ما كانت ابنتها مصابة بحالة «Synesthesia» (التصاحُب الحسي)، وهو ما حاولت تتبعه في مقالها على موقع «Nautil».
تحكي كرستين أنه منذ عام 1812، حين حاول طبيب نمساوي لأول مرة شرح رؤيته لهالات ملونة مختلفة حول أرقام وحروف بعينها، رصد العلماء أكثر من 50 نوعًا من حالة التصاحب الحسي.
كتب الروائي الروسي «فلاديمير نابوكوف»، إن حرف F يشبه اخضرار ورقة نبات. وقابل الطبيب «ريتشارد سيتويك» مريضًا بالتصاحب الحسي يشعر أن يده باردة في كل مرة كان يستنشق فيها رائحة النعناع، ومريضًا آخر قال إنه يشعر بمذاق البيض المسلوق في فمه حين يسمع اسم «ستيف».
أما الآن، ورغم طبيعة الحالة النادرة، فقد أصبح التصاحب الحسي شائعًا بشكل ملحوظ عن السابق. وينقل المقال أن بعض الدراسات يرى أن 5% من البالغين لديهم نوع من التصاحب الحسي، من بينهم 16 مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. بينما يشتبه بعض الباحثين في أننا وُلِدنا بقدرات إدراكية مثل التصاحب الحسي.
كيف يرى الأطفال العالم؟
حين نولد تكون مناطق العقل المسؤولة عن التعامل مع المدخَلات التي تستقبلها العين والبشرة والحواس الأخرى غير متخصصة بعد.
يعالج العقل البالغ معلوماته عن العالم الخارجي من خلال أنظمة حسية منفصلة، واحدة للرؤية، وواحدة للمس، وهكذا. لكن في عقول الأطفال تكون الحواس أقل وضوحًا، ربما تكون البيئة المحيطة بهم ضبابية غير محددة. تقول الطبيبة «دافني مورر»، خبيرة في تطور الإدراك بجامعة ماكماستر بكندا، إن الأطفال لا يرون الأم أو يسمعونها أو يشمون رائحتها، هم فقط يختبرون ما يصدر من الأم بشكل مشوَّش ومختلَط يتداخل فيه السمع بالرؤية بالشم.
يقول «نيكولاس روت»، طالب الدكتوراه الذي يدرس ظاهرة التصاحب الحسي في جامعة كاليفورنيا، إننا ربما لا نعرف أبدًا كيف يرى الأطفال الرضع العالم، لكن من الممكن أن الأمر كله فوضى عارمة بالنسبة إليهم.
تفترض الدراسات التي أجريت على صغار الحيوانات والبشر أننا حين نولد تكون مناطق العقل المسؤولة عن التعامل مع المدخَلات التي تستقبلها العين والبشرة والحواس الأخرى غير متخصصة بعد. فمثلًا عندما ينظر الطفل إلى الوجوه، يُظهِر عقله نشاطًا في مراكز الرؤية والصوت واللغة معًا، وبالمثل حين يسمع صوتًا بشريًّا تنشط مناطق الصوت والرؤية.
هذه النشاطات المتقاطعة توحي بأن مناطق الحواس في عقل الرضع مربوطة معًا بروابط عصبية. فبعد الميلاد نملك أكبر قدر ممكن من الاتصالات داخل عقولنا. كلما نضجنا قويت الاتصالات المفيدة، وضعفت الاتصالات التي لا يوجد منها فائدة، أو تختفي تمامًا، فما يبدأ كأغصان متشابكة ومتداخلة من الحواس يتطور ليصبح شجرة منظمة مقلمة.
روابط مادية للحواس
تأثير الروابط المتشابكة في عقول الأطفال على عملية الإدراك قد يكون أمرًا غامضًا، لكن الخبرات المتعلقة بحالة التصاحب الإدراكي قد توفر بعض التفسيرات.
تُظهِر دراسات التصوير العصبي التي ينقلها المقال أن البالغين المصابين بالتصاحب الإدراكي يملكون روابط مادية بين مناطق الحواس أكثر من البالغين الآخرين الذين لا تظهر عندهم هذه الحالة، تمامًا كما يحدث مع الأطفال، وأن نوعًا واحدًا من المحفزات يمكن أن يرتبط بمناطق حسية متعددة، قادت هذه النظريات بعض العلماء إلى استنتاج أن الأشخاص الذين يعانون من التصاحب الإدراكي احتفظوا ببعض الاتصالات المتداخلة بين الحواس التي كانت لديهم حين ولدوا.
بينما يقترح باحثون آخرون أن مراكز العقل التي تستقبل أوامر كثيرة، والتي تعمل على إسكات الاتصالات الفائضة بين مناطق الحواس، لا تفعل هذا بشكل كامل. في الحالتين، النتيجة واحدة: الحواس لا تنفصل عن بعضها تمامًا. تتشارك عقول الأطفال والمصابين بالتصاحب الإدراكي بعض الصفات، لذلك ربما يشبه إدراك الرضيع حالة متطرفة من التصاحب الإدراكي. وتدعم الدراسات السلوكية هذه النظرية.
ربما تسمح الاتصالات الحسية الوفيرة في عقول الأطفال بالتكيف مع زمنهم ومكانهم وثقافتهم المحيطة، لو كانت هذه الحواس قوية عند الولادة، فهناك طرق عدة تخرج بها عن السيطرة، لكن العقل بنى آلية تقوم على أمرين: إما استخدام الحس، وإما فقدانه إلى الأبد.
يتعلم عقل الطفل باستمرار التمييز بين المدخلات الحسية التي تمثل معلومات حقيقية، والتي تمثل «ضوضاء في النظام»، يمكن تجاهلها مع الوقت. والأطفال الرضع يستقبلون كل شيء لأنهم يجهلون ما هو المهم، لكن بالتخلص من الاتصالات غير المفيدة، تصبح المناطق الحسية متخصصة ومنسقة وقادرة على إهمال الضوضاء العصبية والاحتفاظ بالرسائل المهمة لبقائنا.
قد يهمك أيضًا: ما سر ارتباط الروائح بالذكريات والمشاعر؟
عالم «سين داي»
اختفت أعراض التصاحب الإدراكي لدى «سين داي» لمدة أربعة أشهر، فكان الطعام رمادي اللون والموسيقى باهتة، إلى أن عادت الأعراض.
يجد بعض المصابين بالتصاحب الإدراكي مرضهم مربكًا ومشتتًا، وبخاصة في محاولة تعلم الرياضيات مثلًا، أو السير في ميدان واسع مليء بالألوان والأشكال، لكن الغالبية تعتقد أن عالمها أغنى بالمرض، فـ«سين داي»، مدرب بكلية ترايدنت للتقنية في كارولينا الجنوبية، ورئيس الجمعية الأمريكية للتصاحب الإدراكي، يعرف أنه سيفتقد ألوانه الموسيقية، وسيفقد الشهية حين تختفي لأنها في يوم ما ستختفي.
في عالمه، يشبه طعم البيرة اللون التركواز، والعشب المقطوع الطازج رائحته كاللون البنفسجي الغامق، مع مسحة من زهر اللافندر. يختبر داي الألوان في النكهات والروائح والأصوات. وفي وقت فراغه يحب أن يطهو، ويؤلف الموسيقى، ويلهمه التصاحب الإدراكي في الطهو والموسيقى، إذ يقول إنه يختار عن عمد تكوينات ألوان محددة، حيوية وواضحة. يتذكر عام 1999، حينما كان يعيش في تايوان، حيث ضرب الزلزال المدينة متسببًا في قتل أكثر من ألفي شخص. ويضيف أنه كان هناك توابع، ولم يكن يتوفر أي ماء، وشاع التدمير في المكان.
في الأيام اللاحقة اختفت أعراض التصاحب الإدراكي لديه، ويرجع هذا للضغط الذي شعر به، وبالنسبة إليه، ولمدة أربعة أشهر، كان الطعام رمادي اللون والموسيقى باهتة، إلى أن عادت الأعراض، فعادت الألوان، ويعتقد سين أنه لو لم تعد لكانت خسارته فادحة.
أما كريستين، كاتبة المقال، فبمراقبة ابنتها لم تلحظ أنها وصفت أي ألم أو شعور غير مريح بأنه برتقالي منذ وقت طويل، وحين تسألها تنظر إليها الفتاة كأنها مشوشة. ربما كانت هذه الفتاة الصغيرة واحدة من هؤلاء الأطفال الذي اختبروا التصاحب الإدراكي في سنواتهم الأولى، واختفى تدريجيًّا مع مضي الوقت.
سلسبيل صلاح