أدبي أو علمي: هل علينا أن ندرس الفنون؟
تأتي تلك المرحلة الفاصلة في حياة كل طالب حين يقف في مفترق الطرق وجهًا لوجه مع خيار مصيري: هل يلتحق بالقسم الأدبي أم العلمي؟
يعلم كل طالب جيدًا أن قراره سيحدد مسيرته طيلة عمره، وطبيعة دراسته الجامعية ومن بعدها مشواره المهني، كما يضع في حسبانه نظرة مجتمعه والمحيطين به.
النظرة العنصرية للمواد العلمية والأدبية حالة منتشرة لدى مختلف شعوب العالم.
القسم العلمي يعني كليات الطب والهندسة والعلوم وما تؤدي إليه من وظائف مرموقة مجتمعيًّا، أما الأدبي فمستقبله غير مضمون، أو أن هذا ما يؤمن به كثيرون.
لماذا إذًا يَشيع هذا الاعتقاد الذي يقلل من أهمية الفنون وﻻ يؤمن بأنها تستحق الدراسة؟ وهل الفنون مهمة بالفعل؟
لماذا نعادي دراسة الفنون؟
نظرتنا لمواد الدراسة العلمية والأدبية، والتي يمكن وصفها بالعنصرية إن جاز التعبير، ليست حكرًا علينا؛ فهي للأسف حالة عامة لدى مختلف شعوب العالم، بل وحكوماته؛ التي انحازت بوضوح للمواد العلمية حين وجب عليها اختيار اتجاهًا سائدًا لأبنائها.
وعرض موقع «Salon» الأمريكي تقريرًا مفصلًا عن أهمية العلوم الإنسانية، وعلى رأسها تاريخ الفن، مقارنةً بالعلوم التطبيقية؛ ومنها الهندسة والتكنولوجيا والرياضيات وغيرها.
يرجع أصل مشكلة بَخْسِ العلوم الإنسانية حقها إلى فهم خاطئ ومختزَل عن طبيعتها ودورها في المجتمع، إذ اعتُبرَت خطئًا نوعًا من العلوم الترفيهية التكميلية تتعلق بعصور عفى عليها الزمن، لكنها ليست الأداة التي يمكن استخدامها لتحقيق المكسب المالي أو تقدم الدول.
دراسة تاريخ الفن تفتح لنا دروبًا مبتكرة لمجالات أخرى أكثر تشعبًا؛ كالتشريح والسياسة وفنون الحرب والأدب والدين وغيرها.
وتُعدُّ مدرسة الفكر الاشتراكي أحد أبرز الأمثلة على آثار تبنِّي هذا الفهم الخاطئ، وما فعلته حكومات الاتحاد السوفييتي، التي أعطت نفسها حق تقرير مجال تعليم الطلاب لخدمة أهدافها في زيادة النفوذ والعائد المادي، فكانت النتيجة أن دفعتهم دفعًا نحو دراسة صناعة الصواريخ والهندسة الكيميائية، خير دليل على ذلك.
اقرأ أيضًا: العلم والتعليم كأداتي سيطرة على الإنسان
بوابة كل العلوم
«جون برجر» (John Berger)، مقدم البرامج والمؤرخ الفني الأمريكي، استخدم برنامجًا تليفزيونيًّا وكتابًا، كلاهما بعنوان «طُرُق الرؤية» (Ways of Seeing)، ليحاول تغيير نظرة الناس للعالم من حولهم باﻻستعانة بتاريخ الفن، فجعل منه علاجًا لأصحاب العقول المنغلقة على نفسها، خصوصًا من الساسة الأمريكيين، إذ يرى أن دراسة فن وثقافة العصور الماضية تمنحنا بعدًا إضافيًّا لرؤية الواقع، يختلف عن النظر له بعين الحاضر فقط.
سلَّط «برجر» في الكتاب والبرنامج الضوء على فكرة أن دراسة تاريخ الفن تفتح لنا دروبًا مبتكرة لمجالات أخرى أكثر تشعبًا. فمثلا، نجد دراسة تاريخ الأعمال الفنية تنطوي على تاريخ علوم أخرى؛ كالتشريح وعلم الاجتماع وفنون الحرب والسياسة والسير الذاتية والأدب والدين، وغيرها من العلوم الإنسانية، لكن دراسة تاريخ الفن تأخذنا أيضًا إلى ما هو أبعد من ذلك.
قد يعجبك أيضًا: كيف سعى الفنانون إلى تعطيل نهضة أبو ظبي الثقافية؟
التكامل بين العلمي والأدبي
ساق كاتب المقال، المؤلف والأستاذ الجامعي «نواه شارناي» (Noah Charney)، مثالًا على أهمية دراسة تاريخ الفن، قائلًا إنه كلما دخل كنيسة قديمة وجد صندوقًا يوضع به النقود ليوقد أضواء مبهرة، لكن أحدًا لم يلتفت يومًا إلى أن النقوش واللوحات الفنية المعلقة بهذه المزارات، والتي ترجع للقرنين السادس عشر والسابع عشر، ليست من المفترض أن تُعرض تحت أضواء تلك المصابيح الكهربية المنيرة.
وأشار «شارناي» إلى أن مثل هذه الأعمال الفنية لم تُصنع لتسلَّط عليها الأضواء المبهرة التي تميز عصرنا الحالي، وبما أنها صُمِّمت قبل ابتكار المصباح الكهربي، فلا بد أن الأفضل لها أن تُرى تحت أشعة الشمس، أو ربما على ضوء شمعة في يد أحد رجال الكنيسة؛ فهكذا أراد لها الفنان القديم الذي أبدعها في ذاك العصر.
وبدراسة تاريخ لوحة فنية، نجد أننا نضطر إلى التطرق لعلم الكيمياء للتوصل إلى كيفية إعداد ألوان تلك اللوحة، وعلم الأعصاب لمعرفة التأثير الواقع على المخ عند تأمل هذا النوع من الفن، وستفيدنا الهندسة لفهم السر وراء تناغم الأعمال القائمة على تصميم ثلاثي.
كما سنجد أنفسنا نلجأ إلى علم البصريات؛ من أجل تحليل ما يُعرف بنقطة التلاشي (Vanishing point)، وهي المحور الذي تنتهي إليه كافة الخطوط المتوازية في الواقع لدى إسقاطها في المنظور، أو تلك النقطة التي يلتحم فيها شريطا القطار عند نهاية بصرك في الأفق، وغير ذلك كثير من العلوم التطبيقية التي تحضر بقوة عند دراسة تاريخ الفن، وهو ما يجعله بوابة عبور للمزيد من الاستكشافات في هذه العلوم المتنوعة.
قد يهمك أيضًا: صورة «A Sister's Care»: كيف تكسر القواعد وتبني الجمالية؟
تعلَّم كيف تتعلم
يمكن لتاريخ الفن والعلوم الإنسانية بصفة عامة، إذا دُرِّست كما يجب، تعليم الطالب كيف يتعلم.
«ألبرت مرجول» و«ليا مرجول» (Albert & Lea Mrgole)، الأخصائيين النفسيين، أكدا أهمية دراسة العلوم الإنسانية كأداة لرفع وعي الطلاب بمدى سرعة التطورات في كافة العلوم، وبالتالي تعريفهم بأهمية مواكبة هذا التطور بسرعة موازية.
ستفيد دراسة العلوم الإنسانية الطلاب كذلك في التحلي بالعديد من الصفات؛ مثل المرونة والقدرة على التكيف والشغف بكل ما هو جديد والإبداع والتفكير المستقل، وهذا لا يعني ألا نطور الكليات الخاصة بالعلوم التطبيقية، لكن يُقصد به أنَّ تَطوُّر مثل هذه العلوم مبني بالأساس على الاهتمام بالعلوم الإنسانية.
ويمكن القول بأن تاريخ الفن والعلوم الإنسانية بصفة عامة، إذا تم تدريسها كما يجب، يمكنها تعليم الطالب كيف يتعلم، وتدريبه على التفكير الإبداعي، ومنحه مرونة تقبُّل وجهات النظر المختلفة والتعامل مع الثقافات المتنوعة، بعكس ما قد يحدث عند الانغلاق في دائرة العلوم التطبيقية فقط، وما يخلقه ذلك من تعصب للرأي والنظرية الواحدة.
يحتاج عالمنا اليوم إلى أولئك الحالمين واسعي الأفق، ونحن بإقصائهم نشجع ميكَنَة حياتنا وحصرها في قوالب صماء متكررة، فالفنون، التي تعتبر أعظم الإنجازات البشرية، هي ما يضفي على حضارتنا مسحة من التناغم والتعايش والإنسانية.
أيمن محمود