منتصب القامة أمشي: كيف تشكَّلت إنسانيتنا من استقامة أجسادنا؟

أيمن محمود
نشر في 2018/05/20

الصورة: Getty/Rob Hammer

إذا كان الله قد ميَّز الإنسان عن سائر المخلوقات بنعمة العقل، فقد ميَّزه أيضًا بصفات شكلية لم يمنحها لغيره من الكائنات، أبرزها الجسد المستقيم، وما ترتب عليها من طريقة سير معتدلة لم يحصل عليها حتى أقرب الحيوانات شبهًا بالإنسان: القرد.

يشار دائمًا إلى العزة والكرامة وأعلى درجات الإنسانية بالرأس المرفوعة، حتى تسللت تلك المعاني إلى لهجاتنا العربية الدارجة، كمن يشجع غيره على إحراز مكانة مشرفة: «أريدك أن ترفع رأسي»، أو «أتمنى أن تطيل عنقي»، فلا بد أن أسلافنا الذين ابتكروا تلك المقولات أدركوا جيدًا معنى القامة المعتدلة والرأس المرفوع، وأن ذلك جزء لا يتجزأ من إنسانيتنا. ويستعرض موقع «Nautilus» رأي العلم والفلسفة في هذا الصدد.

تسير على قدمين؟ هنيئًا لك 

الصورة: nikidinov

كان أفلاطون أحد أوائل الفلاسفة الذين تناولوا بالبحث مسألة استقامة الجسد والوقوف على قدمين، إذ رأى أن أبرز ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات قدرته على السير على قدمين، إضافة إلى جسده الذي يكاد يخلو من الشعر والوبر والريش مقارنةً بسائر الحيوانات، وأعطى الصفة الأخيرة تحديدًا أهمية كبيرة، وبخاصة أن هناك من الحيوانات والطيور ما يسير على قدمين، لكن أجسادها مغطاة.

منح الإغريق الفصائل التي تسير على قدمين مكانة خاصة، واعتقدوا أن الطيور تشغل منصب الوسيط بين البشر والآلهة لأنها استُخدِمَت في الطقوس التي يمارسها العرافون لقراءة الطالع وما إلى ذلك. إلا أن الفيلسوف اليوناني «ديوجانس الكلبي» سخر من تعريف أفلاطون للإنسان بأنه ذلك الكائن السائر على قدمين، فقد التقط دجاجة، بما أنها تسير على قدمين، وقال إن هذه هي «إنسان أفلاطون».

رأى اليهود أن استقامة جسد آدم دلالة على سمو مكانته فوق الحيوانات التي خلقها الله.

ذهب أفلاطون إلى ما هو أبعد من ذلك في ما يتعلق بانتصاب القامة واعتدال الرأس، إذ آمن أن رأس الإنسان ليس مركز الغرائز والشهوات، بل قمة جسد الإنسان بالمعنى الحرفي والمجازي، فهو حرفيًّا يقع في أعلى نقطة من الجسد، ويمثل مخزن الحكمة والقيم العليا، مثل النبل والجمال والإخلاص، لذا ربط أفلاطون بين مكانة الرأس ومفهوم المدينة الدولة، أو المدينة المستقلة داخل أسوارها.

مع مرور السنين انتقل الجدال حول تفسيرات استقامة القامة والسير على قدمين من مجرد المقارنة بين الإنسان والطيور إلى قضايا أخلاقية وجمالية وفسيولوجية، فتطرق الفلاسفة والمفكرون إلى موضوعات أعمق من دجاجة أفلاطون، وفكرة استخدام استقامة القامة والقدمين كتعريف محدود للإنسان.

الاستقامة هي الأنسب للإنسان

رأى اليهود أن استقامة جسد آدم دلالة على سمو مكانته فوق الحيوانات التي خلقها الله، وحتى بعد طرده من الجنة ظل هذا الاعتقاد سائدًا عن خلق آدم بقامة مستقيمة حتى بداية عصر التنوير، عندما قال الفيلسوف اللاهوتي «يوهان جوتفريد هردر» في كتابه «أفكار عن الفلسلفة وتاريخ البشرية»، إن استقامة قامة الإنسان أساس الفارق العضوي بين الإنسان والوحوش.

لم يغفل «هردر» قيمة العقل كإحدى الميزات التي خص الله بها الإنسان، لكنه رغم ذلك وضع القامة المستقيمة في المقام الأول.

تطرَّق هردر في تناوله للمسألة إلى الشكل التشريحي لقامة الإنسان المستقيمة، ورأى أن الهيئة التي خُلق عليها الإنسان هي الأنسب لممارسة مهامه المنوط بها دونًا عن غيره من الكائنات، إذ تتكيف جميع عضلاته وعظامه في أثناء عملها، وتوفر القدم المفلطحة الثبات، وتنسحب عظام الحوض إلى الخلف خلال السير، ليقل انحناء العمود الفقري ويسمح باتساع الصدر، أما الأصابع فتمنحه الشعور بما يحمله، ويأتي الرأس تتويجًا لهذا التناغم، فقد سمح للإنسان بأن يكون مخلوقًا قادرًا على النظر حوله وإلى أعلى.

لم يغفل هردر قيمة العقل كإحدى الميزات التي خص الله بها الإنسان وأعطته صفة الإنسانية، لكنه رغم ذلك وضع القامة المستقيمة في المقام الأول، واعتبرها دليلًا على الخلق السوي، وآمن بأن سير الإنسان منتصب القامة جاء بأمر إلهي مباشر لتكريمه عن سائر الحيوانات.

شكلت نظرة هردر لقامة الإنسان المستقيمة حلقة الوصل بين رأي أفلاطون، الذي سعى إلى استنتاج المنطق وراء خلق الإنسان على هذه الهيئة، ورأي الشاعر والعالم الإنجليزي «جون ميلتون»، الذي آمن بأن القامة المنتصبة من صنع الله، وأنها علامة على رقي ذكاء الإنسان.

«استقيموا» يرحمكم الله

الصورة: Bill Ebbesen

 أكد ميلتون معاني وردت في الكتاب المقدس، منها ما جاء في سِفر أيوب الآية (26)، التي تقول: «لأنك حينئذ تتلذذ بالقدير، وترفع إلى الله وجهك». فالخلق هنا هو تلك اللحظة التي يصبح فيها الإنسان قادرًا على الوقوف مستقيمًا، سواء أكانت الاستقامة بالمعنى الحرفي في وضع جسده، أو في المعنى المجازي باستقامة الأخلاق.

الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» عارض وجهة نظر هردر في ما يتعلق بأن الله خلق الإنسان في صورة مثالية كاملة، ورفض كل ما يدور حول تلك الفكرة من معتقدات ونظريات لاهوتية. آمن كانط بأن وجهة نظر هردر ما هي إلا نتاج تحليل نفسي رومانسي أكثر منها بيانات قائمة على تجارب، فالكائن البشري من ليس مثاليًّا، بل يجب أن يتحلى بالقدرة على التغيير باستخدام عقله دون الحاجة إلى إرشاد.

بحسب كانط، فالإنسان يمكنه المضي قدمًا على طريق الإصلاح، لكنه ربما لا يستطيع أبدًا الوصول إلى مرحلة «الاستقامة»، وبالتالي لا يمكنه الوصول إلى الكمال. وتتمحور نظرة كانط إلى استقامة الإنسان حول مسعاه إلى التطور، سواء إلى الأفضل أو الأسوأ.

الاستقامة الشكلية وحدها  ليست كافية لجعل الإنسان جديرًا بحمل الأمانة والاستمتاع بتتويجه ملكًا على عرش الكوكب.

الأديب والفيلسوف الأمريكي «رالف والدو إمرسون»، كغيره من مفكري القرن التاسع عشر، ألقى محاضرة في بوسطن عام 1839، عرَّف فيها الحياة بأنها وضع وقوف الإنسان، فعندما تنطفئ الحياة في الجسد يصبح الوقوف مستحيلًا. ولم يكن إمرسون الوحيد الذي أعطى وضع وقوف الإنسان هذه الأهمية، إذ أيده في تبني الرأي ذاته الفيلسوف الألماني «جورج هيغل».

اعتقد هيغل أن وضع الوقوف هو جوهر الجمال في الإنسان، وأخذ على عاتقه مسؤولية تطوير نظرية حول وقوف الإنسان، وكان يؤكد أنه عندما يفقد الإنسان الرغبة في الحركة، فإن استقامة جسده تنهار، ويعود إلى وضعه الأول في مرحلة الطفولة، أو مرحلة الإنسان البدائي.

ووفقًا له، ليس وضع الوقوف وحده كافيًا لاكتشاف الجمال، فلا يمكن رؤية جمال العالم من وضع الوقوف مستقيمًا فقط، بل يجب أن يحظى الإنسان بالحرية النابعة من داخله. انتصاب جسد الإنسان لا بد أن يأتي بشكل عفوي طبيعي دون ضبط متكلف، حتى يجري مجرى العادة لديه.

يمكن ملاحظة أن معظم الفلاسفة والعلماء اتفقوا على أن استقامة جسد الإنسان واعتدال طريقة سيره على قدمين إحدى أبرز الصفات التي منحته صفة الإنسانية، التي تحتل قمة هرم المخلوقات على سطح الأرض، إلا أن الاستقامة الشكلية وحدها ليست كافية لجعله جديرًا بحمل الأمانة والاستمتاع بتتويجه ملكًا على عرش هذا الكوكب.

أيمن محمود