حكايتان عن ألاعيب العقل: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟
يعتقد كلٌّ منا أن الأحداث المفصلية في حياته تبقى في ذاكرته بكل تفاصيلها إلى الأبد. نؤمن أننا لا يمكن أن ننسى تفاصيل أول قبلة على الشفاه، أو حادث نجونا منه بمعجزة، أو وقائع حيواتنا الشخصية المفاجئة المصحوبة بقدر كبير من العاطفة، ما يطلق عليه العلماء «الذكرى المتوهجة» (Flashbulb Memory). يُهيَّؤ إلينا أنها حُفرت بدقيق التفاصيل في أمخاخنا، كل حركة وسكَنَة موجودة هنالك. حسنٌ، ليس هذا بالأمر الصحيح!
ما هي أقدم ذكرى يمكننا استرجاعها؟
لم يتفق العلماء على السنِّ التي يمكن للإنسان البالغ أن يتذكر أحداث حياته لغايتها. دراسات بعضهم أكدت أنها ثلاثة أعوام ونصف، وآخرون قالوا بل أربعة ونصف أو حتى خمسة، لكن الثابت أن نسبة ما نتذكره تقل كلما زاد العُمر.
الأطفال يتذكرون بصورة أفضل. الدراسة التي أجرتها أكاديمية «ويلي» البحثية الأمريكية عام 2007 على 40 طفلًا، في عمر خمس سنوات ونصف، أوضحت أنهم يتذكرون نحو نصف الأحداث التي وقعت حين كانوا أصغر من عامين على نحوٍ واضح، في حين كان ما استرجعوه من مرحلة ما بعد العامين صحيحًا بنسبة 75%، ولم يصل أحد منهم أبدًا إلى مرحلة النسيان التام لأحداث مراحل الطفولة الأولى.
قاسٍ.. غير أنه ضروري!
تجربة أولى: مَن ينسى أحداث 11 سبتمبر؟
كانت «جنيفر تالاريكو»، طالبة الدكتوراه الأمريكية في جامعة «ديوك» في مطبخ شقتها تعدُّ طعام اﻹفطار، حين سمعت عَرَضًا صوت المذيع يأتي من التلفاز في الصالة، يتحدث بانفعال عن طائرة اصطدمت بأحد برجي مركز التجارة العالمي. للحظة لم تستوعب ما الذي يجري، هرعت إلى التلفاز لترى طائرة أخرى تخبَط البرج الثاني.
لمَّا حكت ما حدث فيما بعد، قالت إن شعورًا بالخزي اعتراها لأن عقلها لم يفكر وقتها سوى في الاستفادة علميًّا من كارثة كتلك. يتصرف العلم بقسوة في أغلب الأحيان، يتطلع إلى النتائج ولا يجْبُر خواطر المرهفين. هكذا هرولت «جنيفر» إلى حرم الجامعة والتقت أستاذها «ديفيد روبن»، الذي كرَّس حياته لدراسة «الذكرى المتوهجة». الصدفة البحتة جمعت أعضاء مجلس الجامعة كلهم هناك، وسارت الأمور على ما يرام؛ وافق الجميع على بدء الدراسة فورًا.
في اليوم التالي، سأل «ديفيد روبن» و«جنيفر تالاريكو» 54 من طلاب الجامعة العريقة في الولايات المتحدة، عمَّا يتذكرونه من وقائع أمس (يوم الهجمات)، وكذلك عن الأحداث التي يتذكرونها من اليومين السابق والتالي له. بعد أسبوع عادا وسألا الطلاب الأسئلة نفسها، والنتيجة كانت غير متوقعة على الإطلاق، لكننا سنتطرق إليها لاحقًا.
تجربة ثانية: ما الذي جرى في «مشروع مانهاتن»؟
بالمثل، مجموعة من علماء النفس المهتمين بأبحاث الذاكرة في جامعات أمريكية عدة، منها «هارفارد» و«ييل» و«كولومبيا» و«جورج تاون»، بدأوا «مشروع مانهاتن» فور سقوط البرجين. سجَّل هؤلاء خلال الأيام القليلة التي تلت الأحداث مع ثلاثة آلاف شخص من ولايات نيويورك وواشنطن وبوسطن وكونيتيكت وميزوري وكاليفورنيا، بعضهم كان قريبًا من مركز الأحداث في مانهاتن بجوار برجي التجارة، وآخرون كانوا أبعد قليلًا، لكن جميعهم، ككل الأمريكيين ومعظم سكان العالم، تأثروا إلى حدٍ كبير بما وقع.
إنها الحقيقة التي حدثت للجميع، أو أن هذا لم يكن سوى ما أقنعتهم به عقولهم فحسب.
المواطنون الخاضعون للدراسة تأثروا بشدة بما حدث. تلك الهجمات الإرهابية اعتُبرت الحدث الأهم في تاريخ جميع الأمريكيين الأحياء وقتها. شيء كهذا ليس من المفترض أن تمَّحي تفاصيله من الذاكرة أبدًا، وما فعله العلماء أنهم سألوا هؤلاء عمَّا كانوا يفعلونه وقت الحادث: أين كانوا؟ مَن كان معهم؟ كيف كانت ردود أفعالهم؟ وجمعوا كل البيانات الشافية، كل ما احتفظوا به في ذاكراتهم عن الهجمات، ثم عادوا بعد عام واحد فقط وسألوهم الأسئلة ذاتها.
نتيجة واحدة: وَهْمٌ، أم خداع؟
عام على أحداث سبتمبر ليس فترة كبيرة، ومَن خضعوا لـ«مشروع مانهاتن» بدوا واثقين للغاية مما حكوه للباحثين، إلا أن 63% فقط من التفاصيل التي رووها كانت صحيحة. عقب ثلاث سنوات من الهجمات سُئلوا الأسئلة ذاتها، وكانت نسبة دقة الإجابات 57% فقط، لكنها رغم ذلك كانت تُحكى كأشياء لا جدال فيها، إنها الحقيقة التي حدثت للجميع، أو أن هذا لم يكن سوى ما أقنعتهم به عقولهم فحسب.
بعض الأخطاء كانت فادحة، مثل تغيير أسماء الأشخاص الذين كانوا معهم وقت الهجمات.
بعد عام من 11 سبتمبر، نسبة 14% من المشاركين في التجربة أجابوا خطأ عن سؤال يتعلق بعدد الطائرات التي هاجمت الولايات المتحدة، وتلك النسبة ارتفعت بعد ثلاث سنوات إلى 19%.
أما في ديوك، فبعد أسبوع فقط حكى الطلاب الأربعة وخمسون قصصًا مختلفة عمَّا سبق أن قالوه عقب الحادث مباشرة. كل واحد منهم كان قد روى خلال تلك الفترة ما حدث لكثيرين من معارفه، وبالطبع ترسَّخت القصة في دماغه كما يرويها، لا كما وقعت. بعض الأخطاء كانت فادحة، مثل تغيير أسماء الأشخاص الذين كانوا معهم وقت الهجمات، أو ذكر لون مختلف للقميص الذي كان أحدهم يرتديه.
كل مَن خضعوا للتجربة ظنوا أنهم يتذكرون تفاصيل يوم الهجمات كما لو أنها وقعت أمس، فيما بهتت أحداث اليومين السابق والتالي بعض الشيء. لكن الدراسة، التي استغرقت نحو سبعة أشهر ونصف، أكدت أن ذكريات الأيام الثلاثة ضعفت بالمعدل ذاته. هذا الاستنتاج نفى ما كان معروفًا قبل ذلك؛ وأثبت أن «الذكرى المتوهجة» قد لا تكون حدثت كما نذكرها بالضبط، وأن عقولنا قد تمارس بعض الألعاب علينا.
تجربة أخرى أثبتت أن مشاهدة مقطع فيديو لأشخاص يمارسون عملًا ما، قد يؤدي بالمشاهدين إلى الاعتقاد أنهم أنفسهم فعلوا ما رأوه على الشاشة. بهذه البساطة يمكن لعقولنا أن تخدعنا، لكن هذا لا يعني أن نفقد الثقة كاملةً في ذكرياتنا، الأفضل أن نفهم فقط أن ما نتذكره ليس دومًا صحيحًا بنسبة مئة بالمئة.
يحيى