الرجل الذي رأى النجوم: كيف غيَّر ستيفن هوكينغ طريقتنا في النظر إلى الكون؟
عندما شخَّص الأطباء مرض «ستيفن هوكينغ» بالتصلب الجانبي الضموري في عمر 21 سنة، لم يكن واضحًا إذا ما كان سيتمكن من إنجاز رسالة الدكتوراه، التي كان منهمكًا في كتابتها خلال هذه الفترة، أم لا.
كانت أكثر التوقعات تفاؤلًا تقول إن هذا الشاب اللطيف الذي يرتدي نظارة طبية عملاقة تغطي وجهه، ويحمَرُّ وجهه حين يتحدث إلى الفتيات، سيموت بعد تسع سنوات لا أكثر، وإنه بكل الأحوال لن يتخطى سن الخامسة والثلاثين. لكن على عكس كل هذه التوقعات، عاش هوكينغ لمدة 55 عامًا بعد تشخيص الأطباء له بهذا المرض غير القابل للعلاج، بل وبات واحدًا من أشهر علماء العالم.
وفاة هوكينغ كانت مساحة مناسبة للجدل، سواء عن إسهاماته أو مدى استحقاقه للمكانة الكبيرة التي وصل إليها، بداية من قاعات المحاضرات وحتى ظهوره الطاغي في الثقافة الشعبية.
«ستموت في الثلاثين»، هكذا قالوا
وُلد هوكينغ في أكسفورد ببريطانيا عام 1942، لأب يعمل في مجال الأبحاث الطبية، وأم حاصلة على شهادة جامعية في الفلسفة. وحصل على الشهادة الثانوية ثم أحرز درجة الامتياز في الفيزياء من جامعة أكسفورد، وبدأ مساره البحثي عام 1962، وأُدرج اسمه كطالب متخرج في مجموعة بجامعة كامبريدج يقودها واحد من آباء علم الكونيات الحديث: «دينيس سسياما».
تصاعد الجدل من جديد حول النظرية النسبية العامة في بداية الستينيات، قاد هذا الجدل جزئيًّا «روجر بنروز» من كلية بيركبيك الإنجليزية، الذي توصل إلى إنتاج تقنيات رياضية جديدة، أدت إلى نتيجة مفادها أن انكماش النظرية النسبية العامة سيؤدي إلى مميزات لا نهائية، تشير إلى الحاجة إلى «فيزياء جديدة».
أبحاث هوكينغ قادته لأن يُنتخب عضوًا في الجمعية الملكية في لندن عام 1974، كان عمره 32 عامًا فقط، لكنه في ذلك الوقت كان ضعيفًا، وبدأت آثار المرض تظهر عليه، وصارت حركته عسيرة ونطقه صعب. توقع أغلب أعضاء الجمعية أن أيامه في مساره المهني كانت معدودة، غير أنه في السنة نفسها أتى بأكثر الإسهامات أهمية في العلم: إشعاع هوكينغ.
ما الثقوب السوداء؟
لنرجع إلى الوراء قليلًا.
أول من صاغ مصطلح الثقوب السوداء هو العالم الأمريكي «جون ويلر»، وفكرته الأساسية كانت أن ثَمَّة نظريتان أساسيتان عن الضوء:
- فكرة نيوتن: أنه يتكون في جسيمات
- أن الضوء ذا طبيعة موجية، وأنه يتكون من موجات
يؤكد العلم الآن أن النظريتين صحيحتان، في ما أصبح يُعرف بـ«الطبيعة المزدوجة للضوء»، ذلك أنه يمكن النظر إلى الضوء على أنه موجة وجسيم معًا. والحال أن العلماء وقفوا محتارين أمام مشكلة، فمن السهل أن يتأثر الضوء بالجاذبية إذا كان يتكون من جسيمات، لكن إذا كان يتكون من موجات، فكيف ستؤثر الجاذبية عليه؟
يعني هذا أن أي نجم يملك مقدارًا هائلًا من الجاذبية، وهكذا، ونتيجة أن الجاذبية تؤثر على الضوء، لن يتمكن الضوء من الهرب من الجاذبية.
وبالإشارة إلى أن أي نجم (كالشمس) تنبعث منه كمية هائلة من الضوء، فإن الجاذبية في النجم لن تعطي الفرصة للضوء ليتسرب، بل ستشده إلى النجم كلما حاول الهروب. وبدلًا من أن ينتشر الضوء في الفضاء، ستمنعه النجوم التي تشد ضوئها إليها. التوازن الدائم بين الجاذبية والإشعاع يُبقي النجم على ما هو عليه، لكن عند نهاية الإشعاع في النجم، تسيطر الجاذبية على المشهد، مكونةً بذلك فضاءات سوداء في الفضاء، تسمى الثقوب السوداء.
إسهام هوكينغ
عُيِّن هوكينغ «أستاذ كرسي لوكاسي» للرياضيات في جامعة كامبريدج، وهو الكرسي الذي جلس عليه نيوتن قبله.
بربط نظرية الكم بالجاذبية، بيَّن هوكينغ أن الثقوب السوداء لم تكن سوداء تمامًا، بل تشع بدرجات حرارة محددة بدقة، تعتمد عكسيًّا على كتلتها. تُعرف «الإنتروبيا» بأنها حالة من عدم الانتظام، الإنتروبيا السوداء لم تكن متجانسة أبدًا، وهذا يعني أن الإشعاع سيتسبب في وجود ثقوب في الثقوب السوداء، هذه العملية ستكون بطيئة جدًّا بشكل لا يلاحَظ.
رغم ذلك، فإن إشعاع هوكينغ والمسألة الخاصة به، التي تتعلق بعدم معرفة إذا كان ما يسقط في الثقب الأسود مفقود أو يمكن استرداده بطريقة ما، لا تزال تثير الجدل بين علماء الفيزياء النظرية. يقول المُنظِّر «آندرو سترومينغر»، الأستاذ في جامعة هارفارد الأمريكية، إن تلك الورقة كانت إحدى أبحاث هوكينغ التي تسببت في سهر علماء الفيزياء ليالٍ طويلة أكثر من أي بحث في التاريخ.
عُيِّن هوكينغ «أستاذ كرسي لوكاسي» للرياضيات في جامعة كامبريدج بنهاية عام 1970، وهو الكرسي الذي جلس عليه قبله «إسحاق نيوتن» و«بول ديراك»، وبقي في هذا المنصب إلى أن تقاعد عام 2009. خلال تلك السنوات، وجَّه كل تركيزه للجوانب الكمومية في نظرية «بيغ بانغ» أو الانفجار الكبير، إذ كانت مسألة المعلومات المفقودة في الثقوب السوداء لا تزال تثير تأمله.
في عام 1985، خضع ستيفن هوكينغ لعملية ثَقب في القصبة الهوائية، الأمر الذي قضى على قدرته الضعيفة أصلًا في التحدث. كان قادرًا على تحريك مؤشر على الشاشة وكتابة ما يَوَد كتابته من جُمل، غير أن قدراته كانت دائمًا تستمر في التناقص.
صارت علامته المميزة جهاز توليف الكلام، الذي يمزج كلماته ويولِّد الجُمل بلهجة معدنية، وبهذه الطريقة، استكمل تأليف كتابه الأعلى مبيعًا «تاريخ موجز للزمن»، الذي جعله نجمًا من نجوم المجتمع.
تاريخ موجز للزمن: الكتاب الظاهرة
تزوج هوكينغ من «جين وايل» عام 1965، وبعد 25 عامًا تزايد مرضه، فصارا يتشاركان منزلهما مع فريق من الممرضات بشكل مبالَغ فيه، فانفصلا في 1995.
كظاهرة في عالم النشر، لم يكن كتاب هوكينغ سابقة من حيث الرواج، فقد نُشر من قبل في القرن التاسع عشر والقرن العشرين عديد من الكتاب العلمية التي لاقت شعبية كبيرة، مثل كتب «ماري سرومرفيل» وكتب الفيزيائي «جيمس جينز»، والأخيرة كان يرُوج لها عام 1937 بأنها الكتب التي وضعت العلوم في مصاف الأعلى مبيعًا. إلى جانب كتب الفيزيائي «فريتيوف كابرا»، وكتاب «كارل ساجان» الشهير: «الكون».
لكن نجاح كتب هوكينغ بشكل يتعدى كل الحدود الممكنة، واحتلاله مراكز متقدمة في قوائم المبيعات، فتح الباب أمام ظاهرة الكتب العلمية التي تستهدف الجمهور بالدرجة الأولى، ما أصبح يُعرف حاليًّا بـ«حركة تبسيط العلوم».
غيَّر كتاب هوكينغ تصورات الناس عن سوق كتب العلوم. وفي تحمسهم لاستغلال هذا النجاح، ونتيجةً لهذا، استثمر عدد من الناشرين في أمريكا وبريطانيا، مثل دار نشر بنجوين، بكثرة في هذا النوع من النشر في السنوات ما بين 1980 إلى 1990.
وضعت المكتبات عروضًا رائعة من الكتب في العلوم في أماكن بارزة، بل بدأت المجلات التي تهتم بنشر الكتب في الحديث عن ازدهار كتب العلوم في التسعينيات، ولاقت إصدارات كُتاب مثل «ستيفن بينكر» و«جاردين دايموند» اهتمام عديد من الناس، حتى بين غير المتخصصين منهم. ومع صعوبة الوصول إلى الأرقام الدقيقة للمبيعات، تظل الطفرة موجودة، فهذا النوع من الكتب لاقى رواجًا هائلًا لا يمكن إنكاره.
تزوج هوكينغ من «جين وايل» عام 1965. وبعد 25 عامًا من الزواج وثلاثة أطفال، تزايد المرض عليه، فصارا يتشاركان منزلهما مع فريق من الممرضات بشكل مبالَغ فيه، وبالتالي انفصلا في 1995.
كتبت جين كتابًا عن حياتها مع هوكينغ هو «Travelling to Infinity» (السفر إلى اللانهائية) عام 2008، وكانا سعداء حين شاهدا معًا فيلم «The Theory of Everything» عام 2014.
هوكينغ: شخصية مثيرة للتأمل
عُرف ستيفن كشخص إيجابي طوال حياته، ورغم الإحباط الكبير الذي لازمه، فإنه استمتع بعروض المسرح والأوبرا، وبدا متحمسًا أكثر مما كان محبطًا بأسفاره حول العالم.
كان يتمتع بحس سليم وقوي، بالإضافة إلى ذوق مميز في الدعابة، وعبَّر عن آراء قوية ودعم قضايا سياسية، وكان سعيدًا بالحديث إلى الإعلام، واكتسبت تعليقاته انتباهًا أوسع عندما كان يتكلم في مواضيع غير متخصص فيها، مثل الفلسفة والذكاء الصناعي، وظهر في كثير من الأفلام والمسلسلات بشخصه أو كممثل، واقتُبست أفكاره وأحاديثه في أغانٍ عدة.
إلى هذه الدرجة كان هوكينغ متغلغلًا في الثقافة الشعبية، وزاد من شعبيته كذلك موافقه السياسية والمجتمعية، مثل رفضه حرب فيتنام، ومقاطعته العلمية لإسرائيل، مما عرَّضه لعديد من الانتقادات.
في 2014، نشر هوكينغ مقالًا في «واشنطن بوست» يطالب فيه العالم بإنهاء حرب سوريا، وقال فيه إننا «يجب أن نعمل معًا لمساعدة أطفال سوريا»، ولام الجتمع الدولي الذي يشاهد ما يحدث منذ سنوات دون أن يفعل شيئًا. وكأبٍ، كان من الصعب عليه متابعة ما يحدث في سوريا، وأن يرى معاناة الأطفال هناك، لهذا رأى أن من واجبه أن يؤكد أن هذا يجب أن ينتهي فورًا.
عندما علم ستيفن هوكينغ تشخيص مرضه انخفضت كل توقعاته إلى الصفر، وقال إن كل شيء حدث منذ ذلك اليوم كان «منحة». لكن ما هي المنحة إن لم تكن الملايين الذين تثقفوا بكتبه، ومئات الملايين الذين ألهمهم بإنجازاته رغم كل شيء؟
أحمد ليثي