تجنيس الرياضيين: من جواز سفر المهمات إلى المنصات
«في ظل الاقتصاد المعولم، أدرك جيل جديد من القادة في شبه الجزيرة العربية أنه لن يكفي الاعتماد فقط على ثروتهم الهيدروكربونية. من أجل أخذ مكانهم بين القوى العالمية، يجب أن يبدأوا بتحفيز المجتمعات التي تثقلها دولة الرفاهية، والتي أصبحت كسولة بشكل عام مع ميل ضئيل للرياضة. الهدف أيضًا هو حشد شباب الأمة حول هدف وطني مثل مسابقة رياضية، والبحث عن فوائد على الساحة الدولية».
بهذه المقدمة يتناول رافائيل لو ماجوريك طالب الدكتوراه في University of Tours أطروحته حول «الرياضة في الخليج: التجنيس سلاح للفوز».
ومع كل منافسة رياضية أو أولمبية تطل قضية التجنيس الرياضي كأحد أهم القضايا الموازية لحرارة المنافسة الأولمبية أو الرياضية، وترتبط هذه القضية بعدة إشكالات منها المواطنة والعولمة والتنافس المحمود، وتطويع الرياضة لخدمة الأغراض السياسية، والصراع الأيديولوجي والعنصرية والهوية الوطنية والهوية العابرة للحدود، وسواها من الإشكالات التي تبرز حين طرح قضايا التجنيس ذاتها.
التجنيس الإبداعي تاريخيًا
رغم أن التجنيس الإبداعي في حد ذاته ظاهرة تاريخية أثارت الجدل في الكثير من المناسبات من خلال نسبة بعض الشخصيات الإبداعية إلى أوطان غير أوطانها، أو محاولة تخيل فضاءات سياسية بذات فكرة الحدود السياسية والأنظمة السياسية الراهنة ومحاولة تقييد الشخصيات ورد أصولها إلى تلك الحدود السياسية، بما في ذلك الأدباء والفنانين والمثقفين وسواهم، فإن التجنيس الرياضي أيضًا من القضايا التاريخية التي أثارت الجدل عبر زمن غير قصير.
إلا أن محاولة المقاربة السياسية للظاهرة، والتي تعتمد على وجود التجسيدات السياسية لمفهوم التجنيس بما فيها الجواز، والإقامة، والحقوق المدنية، واشتراطات الهجرة، وسواها من الأطر التي تمنح الحق السياسي للجنسية، فإنه يمكن القول إن تصاعد الظاهرة بدأ بفعل بعض العوامل السياسية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ دفعت الهجرات السياسية الكثير من الأفراد لعبور الحدود واللجوء بمعناه السياسي، مما أنتج كتلًا إبداعية في دول مختلفة، وخاصة تلك الدول التي كانت تنعم بحالة استقرار سياسي في تلك الحقبة، أو الدول التي انخرطت في تكوين تحالفات جديدة أسست للنظام العالمي الجديد، ليصبح معها التجنيس الرياضي شكلًا من أشكال التنافس البارد بين أقطاب النظام العالمي الجديد الناشئ.
في التاريخ الحديث للتجنيس الرياضي، لعبت قصص بارزة لرياضيين مجنسين دورًا مهمًا في تسليط الضوء عليها، من خلال علاقة هذه القصص ببعض الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالتجنيس الرياضي يكشف عن جملة من القضايا سواء كانت مرتبطة بالبلد الأم (الذي ولد فيه الرياضي) أو بلد التجنيس.
نتذكر هنا نجم كرة القدم الأرجنتيني دي ستيفانو، الذي لعب لمنتخب الأرجنتين عام 1947، وانتقل لتمثيل منتخب كولومبيا عام 1949، ثم استقر مع منتخب إسبانيا 1957. ولاعبة الجمباز الرومانية نادية كومينيتش، التي وظفت قصة تميزها الأولمبي وأسطورتها كإحدى أدوات التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي للاتحاد السوفييتي. بالإضافة إلى قصة الموزمبيقي أوزيبيو، الذي اضطره الفقر والأوضاع المعيشية القاهرة التي كان يكابدها لقبول تمثيل منتخب البرتغال. وصولًا إلى لاعب المصارعة المصري طارق عبد السلام، الذي ترك مصر لأسباب لم يعلن عنها متجهًا لتمثيل المنتخب البلغاري في حادث غريب على مستوى الرياضة المصرية.
العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية المرتبطة بالتجنيس
لا تحاول هذه المقالة الوقوف على تاريخ التجنيس الرياضي، أو سرد تاريخ الحالات المرتبطة به، بقدر ما تحاول فهم العوامل المرتبطة به، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية، وهي تقدم ثلاث مقاربات لثلاث قضايا نعتقد أنها تلعب دورًا في بروز هذه الظاهرة وجدليتها:
- الرياضة كوسيلة لبناء السمة الوطنية:
يعد مفهوم السمة الوطنية (Nation Branding) الذي وضعه سايمون أنهولت «التطبيق العملي لبناء صورة ذهنية نادرة عن بلد معين، وإيصال هذه الصورة لباقي دول وشعوب العالم. ويستخدم هذا التطبيق أدوات الدبلوماسية العامة، مثل التجارة، والسياحة، والإعلام، والمبادرات الإنسانية... إلخ، بهدف جعل الهوية الوطنية ملموسة، وقوية، ومفيدة للآخر (عبر تكوين علاقة مصلحية)، وقابلة للنقل عبر قنوات الاتصال».
تذهب الصين اليوم إلى تطبيق استراتيجية للتجنيس تعتمد على تعديل قانون الهجرة لدعم تجنيس الرياضيين وتنشيط كرة القدم الصينية، إذ ستعمل في أولى خطواتها على تجنيس ما يزيد عن 10 لاعبين في مسعاها لبلوغ نهائيات كأس العالم قطر 2022، واختبار التجربة في ألعاب أخرى ضمن دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين 2022. بما يعني أن التجنيس أصبح يدخل في إطار استراتيجيات وطنية كبرى يقودها الاقتصاد المعولم ومبادئ التنافسية، وتحركها رغبة الأمم في بناء السمعة الوطنية التي تسهل عليها الكثير من خطوط بناء المصلحة والتأثير الدبلوماسي الشعبي.
- من التضمين إلى إنشاء رأس المال الاجتماعي:
يناقش نموذج هيرتنج وكارليفورس في أدوار الرياضة الطريقة التي تعمل من خلالها على الانتقال بالمهاجرين من إطار تضمينهم ودمجهم في سياق المجتمعات التي يهاجرون إليها، إلى إطار رأس المال الاجتماعي عبر انخراطهم في أسواق التعليم والعمل وخدمة البلدان الجديدة التي ينخرطون فيها، إذ تعمل عدة دول على رفع شعار «الرياضة من أجل الاندماج الاجتماعي».
السويد على سبيل المثال مولت اتحادها الرياضي لإطلاق برنامج لتأسيس نجوم رياضيين من الوافدين الجدد في 2019، إذ «يُعتقد أن المبادئ الديمقراطية والمساواة التي تحكم الحركة الرياضية السويدية والمشاركة التطوعية الواسعة التي تحملها هذه الحركة توفر فرصًا فريدة لخلق الثقة بين الناس، وكان من المتوقع أن توفر حركة النادي الرياضي للوافدين الجدد فرصة لبناء شبكات اجتماعية واكتساب موارد كبيرة في البلد الجديد».
إلا أن شعار التضمين والإدماج يخلق في النهاية أفرادًا هاربين من وطأة الفقر والحروب والتهجير والصراعات السياسية والعوز الاقتصادي والاجتماعي، وباحثين عن توظيف إمكانياتهم البسيطة في سبيل الكسب المادي بالدرجة الأولى. وفي ظل وجود البيئة المواتية، فإن ذلك قد يخلق منهم نجومًا على المدى البعيد. ويمكننا أن نذكر عبر التاريخ نماذج من أمثال اللاعبين الذين مثلوا منتخب هولندا رود خوليت وإدغار ديفيز، الذين دفعت ظروف المعيشة والفقر والإقصاء الاجتماعي بهم وأسرهم إلى أوطان لم يختاروها طوعًا، ولكنهم ومن خلال عملية الإدماج والتمكين استطاعوا أن يصبحوا نجومًا لاحقًا.
بالعودة للبرنامج السويدي، فقد استفاد منه أفراد من دول مثل سوريا وأفغانستان والصومال وإريتريا، وهو ما قد يشكل رصيدًا رياضيًا مهمًا من بعض المواهب القادمة من هذه البلدان للاتحاد السويدي في السنوات القادمة.
مفهوم تناول تفصيله وتطوراته كل من جوديفريد إنجبيرسن، وجيجيسربت أونج، وجوست يانسن، في ورقتهم حول «تبديل الجنسية في المجال الأولمبي: نحو تسويق المواطنة».
مجازًا، ينطوي هذا المفهوم على تحول مركزي يصيب مفهوم المواطنة الأساسي في ذاته اليوم، إذ يشير إلى السباق سريع الخطى لتوظيف الأكثر في العالم. وحسب الباحثين، فإن الدول تهدف من خلاله إلى زيادة قدرتها التنافسية وتعزيز مشاريعها. وينطوي تجنيس الرياضيين اليوم على الدفع بنا للتفكير في ثلاثة إشكالات من المواطنة دفعت بتطور تاريخ التجنيس الرياضي:
- تباين أنظمة الحصول على الجنسية عند الولادة عالميًا، وتباين أنظمة ازدواج الجنسية، ورغبات الرياضيين ذواتهم حيث بيئات التمكين الأفضل.
- الاستعمار وجدليات الجنسية، والحق في الانتماء لجنسية المستعمر، وما يفرضه الاستعمار على الهويات الوطنية.
- البرامج الوطنية لاستقطاب الموهوبين كشكل هجين من أشكال المواطنة الحديثة القائمة على مقايضة الموهبة مقابل الجنسية، وهو ما تدفع به بعض الدول الإسكندنافية اليوم، وكذلك دول الخليج العربي والولايات المتحدة وكندا، من خلال استخدام أدوات ناعمة من قبيل المنح الدراسية الخاصة، واستراتيجيات توطين المواهب، وخطط جذب الرياضيين، والإقامات الدائمة للموهبة، وهو ما أصبح يسمى بالمواطنة الرقيقة. قد ترتبط هذه الحالات كذلك بقلة عدد السكان، وغلبة الوافدين على السكان الأصليين، وندرة وجود المواهب الرياضية في البلدان.
ليس بالضرورة أن تكون سهولة قوانين تبديل الجنسية بين البلدان شرطًا لتجنيس الرياضيين، فقد وجدت دراسة تقصت سير 167 رياضيًا مجنسًا حول العالم، أنه لم يكن هناك سوى 11 دولة تتيح التبديل الحر للجنسية نتيجة لتبادل المواهب من أجل المواطنة بين الرياضيين والدول، التي لم يكن هناك أي اتصال سابق بينها. كذلك، فالتجنيس الرياضي لا يزال يرتبط بقضايا من قبيل العنصرية تجاه الرياضيين المجنسين، وخاصة في الدول المتقدمة. وقد أشار ماغواير في دراسته إلى أن 61 رياضيًا يمثلون بريطانيا أُشير إليهم بازدراء على أنهم «بريطانيون بلاستيكيون»، وهو ما يوضح إعادة تأكيد الخطابات الراسخة عن القومية وتكثيف المشاعر القومية.
يمكننا القول إن دوافع التجنيس الرياضي متباينة بحسب الحالة والسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وقد لعبت العولمة دورًا في تغيير أشكال الاقتصاد وبروز مفاهيم جديدة للمواطنة قائمة على أساس العولمة، وأصبحت الميداليات الأولمبية والظفر بالمسابقات الرياضية مكتسبًا لصيقًا بصناعة السمعة الوطنية.
يمكن أن يدفع التجنيس الرياضي إلى تقوية منظومات رياضية ينقصها بعض عناصر الاكتمال، سواء اللاعبين في ألعاب أو مراكز معينة، أو الفرق التي تكمل منظومة التميز الرياضي. ويلعب توسع الهجرات حول العالم وحاجة المهاجرين الجدد للاندماج الاجتماعي دورًا بارزًا في بروز مواهب رياضية تتحول إلى نجوم دولية، عوضًا عن أن الرياضة معادلة مختلفة عن معادلات النمو الأخرى للدول، مثل قطاعات الاقتصاد والإنتاج والإعلام وسواها، فالرياضة تقف على عناصر حساسة مثل الموهبة والقدرة والاستعداد والأولوية وتكامل النظام الهيكلي، وهذا ما يدفع دولًا مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية اليوم إلى الدفع في هذا المجال بقوة.
مبارك الحمداني