ذوي الهمم: كيف يكون المسمى عبئًا على ذوي الإعاقة؟
أطلقت الإمارات مسمى «ذوي الهمم» في عام 2017، ضمن السياسة الوطنية لتمكين المعاقين، بهدف تقديرهم في المجتمع وضمان حياة كريمة متساوية بالآخرين. ورغم أن أيًا من دول الخليج لم تحذُ حذوها في استبدال ذوي الإعاقة أو ذوي الاحتياجات الخاصة بذوي الهمم، فإن البحرين، كمثال، اقترحت من خلال اللجنة العليا لرعاية الأشخاص ذوي الإعاقة استعمال اصطلاح ذوي الهمم بجانب ذوي الإعاقة.
من جانب آخر، كانت تجربة الكويت مغايرة، إذ رفضت لجنة شؤون الأشخاص ذوي الإعاقة مقترح النواب بتغيير مفهوم ذوي الإعاقة إلى ذوي الهمم، وعللت ذلك بضرورة «تسمية الأشياء بمسمياتها»، وعالمية مفهوم ذوي الإعاقة وقبوله في الاتفاقيات الدولية.
إن كان السياق القانوني مختلفًا في دول الخليج، فإن المبادرات المدنية والمجتمعية كثيرًا ما تستعمل مصطلح ذوي الهمم في خطاباتها، أضف إليها «متحدي\محاربي (الأمراض)». تلجأ هذه المصطلحات وما يشاكلها إلى «رَمنسة» الإعاقة، أو النظر إليها بشكل مفرط في الإيجابية.
ناقشت د. شهد الشمري ود. حسين العنيزي في مقالهما على «منشور» استعمال اصطلاحات مختلفة للإعاقة، مثل «ذوي الاحتياجات الخاصة» و«ذوي الإعاقة»، في سياق عالمي ومن منظور نظريات مختلفة. ويحدد هذا المقال النقاش الدائر حول المصطلح والإعاقة في منطقة الخليج، ويبحث في جدواه بين اصطلاحات مثل «ذوي الإعاقة» و«ذوي الاحتياجات الخاصة»، و«ذوي الهمم». ويستعمل المقال كلمة «معاقين» و«ذوي الإعاقة» ليشمل جميع أنواع الإعاقة البصرية والسمعية والبدنية والذهنية، ويشمل أيضًا الأمراض المزمنة.
رَمنَسة الواقع
اللغة وليدة سياقها. وفي محاولة لفهم هذا السياق، ننظر إلى الموضوع من منطلقين، الأول يتلخص في المساعي التي تبذلها الدول لدعم المعاقين، والثاني في التحديات التي تواجههم، والنقص الذي تعاني منه مبادرات دعم المعاقين الحالية.
نفذت الدول مجموعة مبادرات هدفها إعانة المعاقين وحمايتهم، تشمل المساعدات الاجتماعية (المالية)، وخفض ساعات العمل، ومنح بعض الامتيازات في الدولة، وتحديد حصة لتوظيفهم ودمجهم في الشركات.
على سبيل المثال لا الحصر، تُصرف المساعدات الاجتماعية في الكويت للأشخاص المعاقين تحت سن 18 عامًا، وإذا قرر الشخص مواصلة دراسته الجامعية تستمر هذه المخصصات حتى سن 26 عامًا، كما يمنحهم القانون امتيازات تسهيل الاقتراض ومِنحًا سكنية تزيد على غيرهم، وتوفر لـ«العاجز عن العمل» «معاش إعاقة».
توفر البحرين مكافآت مالية تعويضية للأشخاص، وتمنحهم خدمة ساعتي راحة (هذه الخدمة يستفيد منها أيضًا الأشخاص الذين يرعون شخصًا معاقًا). وينص قانون رعاية وتأهيل وتشغيل المعاقين في البحرين على الإلزام بتوظيف معاق من بين كل 50 عاملًا في الشركات.
وبينما تتفاوت الخدمات ومستواها بشكل نسبي من دولة لأخرى، إلا أن كثيرًا من دول الخليج إن لم تكن جميعها، تشترك على الأقل من باب إعلامي في توفير الخدمات والدفع إلى مزيد من المساواة والاندماج المجتمعي. إذًا، أين المشكلة؟
المشكلة تكمن أولًا في عقلية «الإعانات» التي تحكم الجو العام. تفترض قوانيننا ومجتمعاتنا أن المعاقين بحاجة إلى منحة هنا وهناك ليعيشوا، وهذه العقلية ذاتها هي التي تدفع القوانين إلى تحديد حصة للمعاقين في مؤسسات العمل، عوضًا عن توفير جو يضمن حقهم الكامل في التقديم والقبول بناء على رغباتهم وطموحهم وقدراتهم ومؤهلاتهم، بالتساوي مع الآخرين.
لا تعي هذه العقلية، أو لا تُبدي اكتراثًا، بأن ما يحتاجونه فعلًا وما يضمن لهم حقوقهم الكاملة هو مساواتهم بالآخرين وضمان عدم التمييز بحقهم، وتوفير اللازم لهم ليكون لهم استقلالهم وقدرتهم على الحياة كأي شخص آخر.
إن كان لتلك المبادرات أي أهمية، فإنها لا تعدو كونها أهمية إعلامية، لو لم ترتبط بتغيير حقيقي على أرض الواقع، وتفهُم لاحتياجات الأشخاص المعاقين. يتحدث إلينا عبد العزيز، وهو ناشط حول حقوق المعاقين، عن التحديات المهنية التي تواجهه وغيره من ذوي الإعاقة الحركية في التنقل، إذ يعتمدون بشكل أساسي على توفر سائق للوصول إلى أماكن عملهم، وفي كثير من الأوقات يحتفظون بإجازات العمل الخاصة بهم للأيام التي سيتعذر فيها على السائق نقلهم إلى مكان العمل، وذلك عوضًا عن الاستفادة من إجازاتهم التي هي حق لهم كموظفين.
في تساؤل محق جدًا، يقول عبد العزيز: «أنا لا أطالب أن تُعبَد الكويت بالمناطق والمدن المجهزة لذوي الإعاقة، ولكن لمَ لا تُجهز بعض الأماكن المحلية على الأقل، بحيث نستطيع الاحتكاك بمجتمعنا المحلي؟ لمَ نكون بحاجة للذهاب إلى العاصمة كي نحصل على بيئة "شبه" نموذجية؟». والحق أن جميع مدننا في الخليج يجب أن تكون مُعبَدة بالأدوات التي تساعدنا جميعًا على الوصول إلى الموارد اللازمة والاندماج في مجتمعنا، ذلك إن شئنا بالفعل تحقيق مجتمع أكثر عدالة للأشخاص ذوي الإعاقة.
إن جئنا لمفهوم المساعدات الاجتماعية، فإن حتى هذه التي تعتبر ميزة ومنحة تقدمها الدولة للمعاقين، لا تشمل جميع المعاقين. لا يزال مفهوم الإعاقة مرتبكًا في الخليج، ولا تزال لجان التقييم التي تحدد المستحقين للإعاقة تستثني أشخاصًا لأنهم «غير مصابين بالعجز»، أو لأن إعاقاتهم غير مرئية (كالإصابة بأمراض مزمنة). وبينما تحرم اللجنة أشخاصًا معاقين من استلام الدعم، تبقى القوانين عاجزة عن حمايتهم من التمييز في العمل، وبالتالي يبقى الكثيرين منهم غير قادرين على تأمين وظيفة أو تأمين الدعم الحكومي.
ع. ع. م. شخص بحريني مصاب بفقر الدم المنجلي، ويواجه الكثير من النوبات المرضية، مما يدفع أرباب الأعمال إما لفصله عن العمل لكثرة غيابه بسبب المرض، أو عدم القبول به أساسًا. ولكنه عندما قدم طلبًا للحصول على مخصص الإعاقة من وزارة الشؤون الاجتماعية، رُفض طلبه بحجة أن تقريره الطبي لا يثبت «عجزه عن العمل»، رغم أن المرض يعيقه عن ممارسة حياته بشكل طبيعي، وعن الحصول والمحافظة على عمل.
لقد اتصلت شخصيًا بالوزارة للسؤال عن المعايير التي تُعتمد لصرف مخصص الإعاقة، وما استوضحته هو أن الوزارة لا تعتبر مرض فقر الدم المنجلي من الإعاقات، إلا إذا اقترن بمضاعفات متعلقة بالعظام. وحتى في حالة تضرر العظام، لا يخصص المبلغ إلا لمن تعتبر حالتهم شديدة العجز، وبعد تقييم لجنة الأطباء في الوزارة.
ما هي الإعاقة؟
هذا سؤال ملح جدًا هنا في الخليج، حيث الارتباك في التصنيف، وحصر الإعاقة في مفهومها الضيق الذي عفا عليه الزمن. قبل أن نعيد صياغة الاصطلاحات حول الإعاقة ونجملها، هل يمكننا أن نراجع مفاهيمها أولًا، لكي تكون أكثر شمولية للإعاقات؟
وإذا تجاوزنا التمييز في صرف المساعدات، وضعف القوانين التي تحمي المعاقين من التمييز المؤسساتي، وافتقار البنية التحتية لما يدعم حركة الأشخاص المعاقين، فهل نستطيع تجاوز أن ما ينقله الإعلام لنا لم يتمكن من تغيير الصور النمطية والوصمة الاجتماعية اللاحقة بالإعاقة والأشخاص ذويها؟ ربما ساعدت الحملات الإعلامية والمصطلحات مثل ذوي الهمم على إضاءة إنجازات بعض الأشخاص، وهذا مهم طبعًا، ولكنه غير كافٍ، لأن حتى أولئك الذين حققوا نجاحات مميزة واجهوا، أو يواجهون، تمييزًا وأحيانًا عزلًا مجتمعيًا، وهذا التمييز واقع لا لشيء سوى لأن هؤلاء الأشخاص لديهم إعاقة ما.
إذا اقتنع الأغلبية بأن ذوي الإعاقة أصحاب همة متمكنين من نيل نصيبهم في هذه الحياة، فسوف يرتاح ضميرهم الجمعي من عبء المطالبة بالمساواة.
الأمر ليس متعلقًا فقط بالفرص المهنية، بل الاجتماعية أيضًا. في الحديث عن قضايا النساء ذوات الإعاقة، تقول د. شهد الشمري لـ«منشور»، وهي أكاديمية متخصصة في دراسات الإعاقة: «ما زال هناك فكر منغلق وإرث تقليدي بأن المرأة المعاقة مهمشة في فرص الزواج، وأن ذلك يعتبر نقصًا في شخصها ولا يمكن تجاوزه، بل التهرب منه بشكل صريح ومبرر بأنها "غير صالحة للزواج". ويعود ذلك إلى قلة الوعي وتعمد انتقاص قدر المرأة، كونها غير قادرة على تلبية رغبات الرجل أو الطفل المستقبلي».
من باب الالتزام بالمبدأ، لا يصح أن تطلق الدولة أو المجتمع لقب «ذوي الهمم» على المعاقين والمعاقات، في الوقت الذي يواجهون فيه تحديات تحد من «همتهم» وقدرتهم على الحركة والعمل، وحصولهم على الموارد اللازمة، ونيلهم القبول المجتمعي، وحتى قدرتهم على تكوين علاقات عاطفية وزوجية.
تعمل هذه الألقاب على تضليل العامة وتخديرهم. فإذا اقتنع الأغلبية بأن ذوي الإعاقة أصحاب همة متمكنين من نيل حقوقهم ونصيبهم في هذه الحياة، فسوف يرتاح ضميرهم الجمعي من عبء المطالبة بالحقوق والمساواة. لذلك، لا يجب أن يغطي اللقب المضلل على صوت التجارب الحقيقية، أصوات أصحاب الحق أنفسهم.
إشكال «الأفضلية»
يواجه الأشخاص المعاقين وصمة اجتماعية متجذرة يترتب عليها تصنيفهم مجتمعيًا. هذه الوصمة تنطوي على فكرة «الأفضلية»، المبنية على فكرة تعافي الأجساد وكمالها في الأصل، وبالتالي فإن عدم تطابق الأجساد مع صفة «الكمال» يؤدي إلى إقصاء أصحابها. وبينما تسود لغة الأفضلية بين غير المعاقين، فإنها كثيرًا ما تسود بين المعاقين أنفسهم أيضًا.
عندما كنت صغيرة، تعلمت أن أحمد الله لأنه «عافاني» من ابتلاءات أشخاص آخرين، ولكن ذلك الدعاء لم يكن يطمئنني أبدًا، بل كان يربكني. كيف أسأل الله أن يعافيني وأنا أعلم جيدًا أنني طفلة مصابة بمرض وراثي مزمن؟ هل ابتلاءات الآخرين أسوأ من ابتلائي؟ ما الذي يجعلها كذلك؟ والأسوأ من كل هذه التساؤلات والمخاوف كان خوفي من أن يقول الآخرون هذا الدعاء تحديدًا عندما يرونني أتألم. لم يكن ألمي محببًا لي، ولكني لم أكن لأقبل بأن يرمقني الآخرون بشفقتهم، أو يطلبون من الله درأ علتي عنهم، وأنا من تتألم.
وعيتُ لاحقًا أن المجتمع يجعلنا ننظر إلى الآخرين من ذوي الإعاقة المختلفة عن إعاقتنا، مثلما يُنظر إلينا تمامًا. كثيرًا ما يوهمنا بأننا أفضل منهم لأن إعاقتنا أقل شدة أو لأن نوعها مختلف، ولكنه في النهاية يصنفنا ويمقتنا جميعًا. هذه الفكرة هي المحرك الأساسي لمبادرات ذوي الهمم، المبادرات القائمة على فرز المعاقين وتصنيفهم وفق الأفضلية.
هذا ما يشير إليه د. حسين العنيزي، الأكاديمي المختص في دراسات الإعاقة، خلال حديثه مع «منشور»: أن لفظ ذوي الهمم يعزز الوصمة الاجتماعية الموجودة، وذلك لأنه غير شامل لجميع الإعاقات، فصعوبات التعلم الشديدة مثلًا لن يحصل أصحابها على اللقب، لأن الهمة تفترض أن يكون الشخص قادرًا ذهنيًا.
المعاقون ليسوا دُمى، تُلقَّب متى يشاء غير المعاقين، وتُسحب منهم تلك الألقاب متى شاؤوا أيضًا.
وبالتالي ينتج عن ذلك محاولة الأشخاص من ذوي الإعاقة غير الذهنية إبعاد هذه التهمة عنهم، ومحاولة تقريب أنفسهم من غير المعاقين بناء على قدراتهم الذهنية، بصرف النظر عن إعاقتهم الجسدية. لكن، وكما يقول د. حسين، «كيف نتحدى المعيقات الاجتماعية إذا كنا نتبع هذه التصنيفات؟ ستبقى هذه التحديات ثابتة، وهذا ما يؤثر سلبًا على مفهوم الدمج الاجتماعي».
إن محاولة نجاة البعض من المعاقين عن طريق ازدراء الآخر، زلِقة ولا تنقذ الموقف، لأنها تفترض أن المعاقين في حد ذاتهم غير جديرين بالاحترام، بل إن الاحترام الذي يكتسبونه قادم من صفاتهم القريبة من غير المعاقين، وأن عليهم دائمًا أن يحاولوا إيجاد أوجه الشبه بينهم وبين غير المعاقين ليفوزوا بلقب الأفضلية.
هذا المنطق هو ذاته ما يوجه التمييز إلى المعاقين، جميعهم، وبنسَب متفاوتة. ما جدوى التقدير واللقب لو كان من يهِبه هو ذاته من «يتفوق» عليك بكمال جسده؟ وما جدوى تقدير الأشخاص ومساواتهم بغيرهم لو كان ذلك مشروطًا؟ المعاقون ليسوا دُمى، تُلقَّب متى يشاء غير المعاقين، وتُسحب منهم تلك الألقاب متى شاؤوا أيضًا.
ما شكل التضامن المطلوب؟
التضامن مرغوب ومشجع عليه بالتأكيد، ولكن كيف يكون تضامنًا وهو لحاف يغطي أنواع التمييز المؤسساتي والمجتمعي؟ كيف يكون تضامنًا ووظيفته الإعلامية إسكات التجارب الناطقة بكثير من الألم؟
الهمة أيضًا ليست مسؤولية فردية على المعاقين تحمُّلها، بينما تتفرغ الدولة والمجتمع للتصفيق والتهليل ورمي الشعارات فقط. لن يكون للهمة معنى صادق وحقيقي إلا إذا تبنت الدول والمجتمعات فعلًا نماذج للدمج والمساواة غير المشروطيْن، ومن دون تقسيم الأشخاص على نحو «معاق صالح» و«معاق غير صالح». لا يجب الضغط على المعاقين أنفسهم ليعالجوا الوضع الراهن عن طريق الامتثال لصورة الشخص الاستثنائي الذي يحارب كل التحديات ليصل، بل هذه مسؤولية الدولة أولًا والمجتمع ثانيًا لمعالجة التحديات والتمييز والأفكار السلبية المبطنة.
التغيير لن يتحقق باستبدال مصطلح بمصطلح آخر أكثر نعومة، التغيير يتحقق بتغيير السياسات والممارسات، وتغيير النظام القائم على التمييز من أساسه. ولن يكون لأي تغيير أي معنى إلا مع «تغيير الهيكل نفسه، ذلك أن الهيكل هو الفاسد»، كما يقول د. حسين العنيزي.
نور الشيخ