مواطنون في اللا مكان: المدينة ونزعة استهلاك كل شيء
لقائي الأول مع «زيغمونت باومان» كان في كتابه «الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللا يقين»، رغم أن كتبًا عديدة سبقته ضمن ما يعرف بـ«سلسلة السيولة»، الصادرة عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر بترجمة حجاج أبو جبر وتقديم هبة رؤوف عزت.
بدأتُ بهذا الكتاب تحديدًا لأنني كنت مدفوعة برغبة شخصية في فهم طبيعة المكان الذي صرنا إليه (أو اللا مكان كما اتضح لاحقًا)، وما يفترض بالدولة أن تنوءَ به إزاء مواطنيها (فقط لو أنها لم تتحلل إلى اللا دولة)، ولماذا أشعر (مثل الجميع) بأن الأرض تموج تحت قدميّ، وبأن أحدًا قد سرق حقي في المستقبل، وأن كارثة ستحل في أي لحظة، ولماذا يبرع جيلي (ولو على مستوى المخيّلة) في وضع خطط الطوارئ للحروب والانهيارات الاقتصادية والفشل، ولماذا نحن مشدودو الأعصاب على الدوام، نحرث الحقل الافتراضي كل يوم بحثًا عن تمارين للتنفس، أو تطبيقات لليوغا، أو مرشدين نفسيين مدربين على عقلنة الهلع الفردي على نحو مغلوط، أشخاص موهومين (مثلك) بأن المشكلة هي في عجزك عن الاتساق والتكيّف، لا في طبيعة الأنظمة التي نطالب بالتكيّف والاتساق معها.
وكما قالها باومان:
إن الفضيلة المشهود لها بخدمة مصلحة الفرد ليست «الامتثال» للقواعد، بل «المرونة»، بمعنى الاستعداد لتغيير التكتيكات بإشعار قصير، والتخلي عن الالتزامات والولاءات من دون ندم، واغتنام الفرص في حينها لا اتباع الأولويات الثابتة.
عالم يتفكك حتى السيولة
في البدء، يتحدث باومان عن انتقال الحداثة من مرحلة «الصلابة» إلى مرحلة «السيولة»، وهو ما يعني أن المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والأسر النووية والممتدة والأشكال الاجتماعية الأخرى غير قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمنًا طويلًا، ومن ثمَّ فهي غير قادرة على التحول إلى «أطر مرجعية» لأفعال البشر، وهو المسمى الآخر لتلك الكلمات التي طالما رددناها عن سقوط الأيديولوجيات، وتخشب الشعارات، وانهيار قيم العالم القديم، وتحلل المرجعيات، وتخلخل الأعراف، وغيرها من المكونات الثقافية التي تنظم علاقة البشر ببعضهم، طيف من المترادفات تحمل عنوانًا عريضًا واحدًا هو «العيش في زمن اللا يقين».
يضيف باومان ملامح أخرى للأزمنة السائلة، مثل الانسحاب الدائم للدور الاجتماعي للدولة، وحلول الدولة «السجانة» محل «الدولة الاجتماعية» القائمة على مبدأ التكافل والاحتواء، ورسملة الخوف بصفته الرافد الأهم الذي يمنح سياسيي هذه الأيام مبرر وجودهم، وهو ما يفسر تصاعد خطابات الكراهية ضد الغرباء، التي هي في حقيقتها خطابات خوف، مثل اللاجئين والغجر والبرابرة والوافدين وعديمي الجنسية، طيف من المنبوذين اجتماعيًا والمحاصرين اقتصاديًا، ممن ترفض السلطات دمجهم في النسيج الاجتماعي ولا يمكن التخلص منهم تمامًا، وقد حُكم عليها بالعيش في غيتوهات «مؤقتة بشكل دائم» حتى أعطبت فيهم القدرة على تخيل المستقبل، أو التخطيط خارج اللحظة. إنهم أهداف سهلة لخطاب الكراهية الذي ينبغي تنميته «كعاطفة مدنية» على حد تعبير «أمبرتو إيكو».
يقول باومان:
كتب باومان «الأزمنة السائلة» في 2007، قبل أن تتفاقم أزمة اللاجئين حول العالم (من بين 79.5 مليون شخص أُجبروا على مغادرة أوطانهم، لدينا اليوم 26 مليون لاجئ نصفهم على الأقل تحت سن الثامنة عشرة، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين).
لقد تحولت الحواضر، أو المدن، من أماكن آمنة نسبيًا إلى أماكن مرتبطة «بالخطر لا بالأمان»، رغم أن المدن منذ فجر الحضارة قد أُنشئت لغرض توفير الحماية.
ورغم أن باومان في الحقيقة يقصد اللاجئين الفعليين، فإن سمات اللجوء التي يرصدها تمتد لتطول جميع سكان الكوكب، «لأن نهاية الرحلة تبقى غير واضحة إلى الأبد، ويظل الوصول إلى مستقر نهائي أمر غير وارد إلى الأبد»، ولأننا جميعًا عاجزون عن التحرر من «الشعور المؤلم بزوال الاستقرار»، ولأننا نشعر بأننا موجودون «في المكان» لكننا لسنا «من المكان». ويبدو أن الفلسطيني المحتل وحده، ويا للمفارقة، يملك حق قول «هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي»، في حين يشعر بقيتنا بأننا طارئون، ضحايا هذه اللحظة التاريخية حيث كل شيء يمعن في التحلل، حيث النسيان فضيلة أكثر من التذكر، حيث الحياة صحراء من «الرمال المتحركة»، أو هي «أرض رخوة» بتعبير باومان. وبدلًا من أن نعيش تجربة بشرية طبيعية عبر استنبات جذور وأجنحة في المكان ومنه، أصبح علينا جميعًا أن نبرع في ركوب الأمواج.
يستفيض باومان في الحديث عن «تقليد» استغلال السياسيين لـ«رأس مال الخوف» منذ الهجوم الليبرالي الجديد على الدولة الاجتماعية، ويستشهد بالمعركة الرئاسية بين «شيراك» و«جوسبان» في فرنسا، التي تحولت إلى مزايدة بالوعود على الحرب ضد الجريمة (الفوبيا الواقعية)، أو الخطاب المنطوي على خوف من الآخر (الفوبيا المتخيلة) كالذي شهدناه بشأن السوريين في لبنان، والأفارقة في فرنسا، والأتراك في ألمانيا، والمكسيكيين في أمريكا، لا سيما في عهد ترامب.. أو في صيحات «كَلونا الوافدين!» الصداحة في الكويت وبرعاية برلمانية، أي أن الآخرين «هم الجحيم» بتعبير سارتر (رغم اختلاف السياق)، «ففي عصر فقدت فيه الأفكار الكبرى مصداقيتها، يصير الخوف من شبح العدو هو كل ما تبقى للساسة حتى يحافظوا على سلطتهم»، آدم كيرتس يلخص الموضوع.
يمكن للراغب في الاستزادة مطالعة كتاب «لماذا نكره» لنادر كاظم.
لقد تحولت الحواضر، أو المدن، من أماكن آمنة نسبيًا إلى أماكن مرتبطة «بالخطر لا بالأمان» كما يرى باومان، رغم أن المدن منذ فجر الحضارة (ابتداء بأوروك وانتهاء بالخفجي) قد أُنشئت لغرض توفير الحماية، لكنها مبادئ وتطبيقات الليبرالية الجديدة تحولت «من مأوى من الأخطار إلى مصدر رئيسي للأخطار»، «فالتقابل الذي استمر آلاف السنين بين الحضارة والبربرية قد انعكس»، بعد أن انتقلت مصادر الخطر إلى قلب المدينة، «فالأصدقاء والأعداء والغرباء الغامضون المحيرون والحائرون يختلطون الآن»، إلى درجة وصولنا إلى مرحلة «التطبيع مع حالة الطوارئ» المزمنة التي يعيشها أبناء المدن «المدمنون على الأمن»، العاكفون على شراء كاميرات مراقبة وتشييد أسوار عازلة واقتناء سكاكين سويسرية وأسلحة خفيفة تتسبب في مقتل مئات الآلاف سنويًا، حتى أصبحت الأسلحة الخفيفة أكثر فتكًا بالبشرية من أسلحة الدمار الشامل.
يعوّل النظام العالمي الجديد على الفردية، ويصر على تكريس فكرة مغلوطة مفادها أن النزعة الفردية هي فضيلة الفضائل لإنسان المدينة، الأمر الذي تم بمعونة ترسانة فلسفية عدمية كرسها كُتاب وفلاسفة منذ «شوبنهاور» وحتى «يلينيك»، وآلة رأسمالية صمّاء تسوّق لعبارات المصلحة الذاتية والرعاية والمساعدة الذاتيين (خذ جولة في قسم المساعدة الذاتية (Self-Help) في أي مكتبة وسترى إلى أي حد بلغ الأمر).
إن صعود النزعة الفردية كقيمة جديدة هو نتيجة طبيعية لتمزق أواصر المجتمعات، وحلول منطق «الدولة السجانة» مكان «الدولة الاجتماعية»، وانحسار لغة بديلة لم تعد ممكنة تتضمن مفردات مثل «تكافل» و«نسيج اجتماعي»، و«تعددية»، تحقق لنا على الأقل منظورًا غير قائم على مبدأ «الانفصال والإقصاء»، الذي تحول إلى «أكثر الاستراتيجيات شيوعًا في الصراع الحضري من أجل البقاء» بتعبير باومان.
ما لا يقوله الكتاب بشكل مباشر، لكن يمكنك أن تستشفه، هو أن الخوف القهري لإنسان المدينة لا يتولّد فقط بسبب وجود «الخبث والخبثاء» متمثلين في الوافد واللاجئ والغريب، بل أيضًا لأن الليبرالية الجديدة تناقض في سردياتها طبيعتنا التطورية، وما هو مطبوع في شفرتنا الجينية منذ مئة ألف سنة، وهو أن وجودنا في مجتمعات أليفة متكافلة شرط بيولوجي لإحساسنا بالأمان، وأن الوحدة، وإن تغزّل بها المعري و«بيكيت» و«سيوران»، ليست فضيلة، لأن علم الدماغ له القول الفصل في هذا الصدد، وأن النتيجة الحتمية لانفصالنا عن النسيج هي القلق والاكتئاب والصدمات، بحسب «يوهان هاري» في كتابه «Lost Connections» و«بيسيل فان دير كولك» في كتابه «The Body Keeps The Score».
الأمر الذي يجعلني أتساءل إن كانت الوحدة في ذاتها شيئًا طارئًا على التجربة البشرية، تمامًا مثل الدول الحديثة المدعوة أوطانًا، أنها اختراع حداثي مصمم لكي يجعلك أكثر قابلية للاستباحة من النظام، لأن أي نظام لا يولد بشكل عضوي في بيئته مستجيبًا لحاجات ناسه سيتحول إلى آلة، والآلة بحاجة إلى الفرد المغترب، الآلة بحاجة إليك، وحيدًا وأعزل على الدوام، حتى تتحول إلى ترس مثالي، إلى لاجئ مجازي، لا تملك حتى ترف تخيل مستقبل يخصك.
بثينة العيسى