عبير الماضي: ما سر ارتباط الروائح بالذكريات والمشاعر؟
للخريف إذا أقبل عطر يذكرنا بأول أيام المدرسة، وساعات المذاكرة الطويلة، وسهراتنا في لياليه المنعشة. وللبيوت عطور تميزها، تمتزج فيها روائح ساكنيها بأثاثها ومفروشاتها، حتى أن شعورنا بالطمأنينة يكاد يقترن بروائح بيوتنا. وللمصيف رائحة مبهجة، هي خليط دافئ من يود البحر وكلور حمامات السباحة ورطوبة الهواء وحرارة الرمال الساخنة. حتى العطور التي يستخدمها الناس يظل عبيرها عالقًا في ذاكرتنا حينًا، فما سر ارتباط الروائح والذكريات والمشاعر؟
الروائح تنفذ مباشرةً إلى مراكز الدماغ
من الناحية التشريحية، تقع البصلة الشميَّة (Olfactory Bulb)، وهي المنطقة المسؤولة عن تحليل الروائح، إلى جوار مركز الذاكرة أو الحصَين، وهو جزء في الدماغ مسؤول عن صناعة الذكريات طويلة المدى. وتتصل البصلة الشميَّة مباشرةً بمركز المشاعر أو اللوزة الدماغية (Amygdala).
يستطيع الأنف البشري تمييز أكثر من تريليون رائحة، بل إنه قادر على تمييز الروائح عن بعضها حتى لو كان الاختلاف بينها طفيفًا.
على العكس من الحواس الأخرى، فإن المعلومات المتعلقة بالروائح تنفذ مباشرة إلى البصلة الشمية المتصلة بمراكز الذاكرة والمشاعر في الدماغ، بينما تمر المعلومات الحسية الأخرى أولًا بالثلاموس (Thalamus)، الذي يُعتبر «لوحة توزيع الدماغ».
يُفهم من هذا أن الروائح تذهب إلى المناطق المسؤولة عن المشاعر والذكريات في الدماغ، مما يفسر ارتباط الروائح بمشاعر الحنين وغيرها من الأحاسيس. بينما تذهب المؤثرات السمعية مثلًا إلى مراكز التفكير.
يستطيع الأنف البشري تمييز أكثر من تريليون رائحة، حسبما تشير الأبحاث الحديثة، بل إنه قادر على تمييز الروائح عن بعضها حتى لو كان الاختلاف بينها طفيفًا، وكان الاعتقاد في السابق أن الأنف يميز 10 آلاف رائحة فقط.
رغم الأهمية الواضحة لحاسة الشم لدى الإنسان، فإننا كثيرًا ما نعجز عن وصف ما نشمه من روائح، فنقرن الرائحة بمصدرها أو بالشيء الذي ترتبط به أو برائحة أخرى، بدلًا من إعطاء الرائحة نفسها مسمًّى خاصًّا، فنلجأ إلى أوصاف من قبيل «رائحة الصيف» أو «رائحة العشب المبلل بالمطر»، في الوقت الذي نستطيع فيه وصف ما نراه بدقة عن طريق اللون والشكل والحجم، وكذلك ما نسمعه من أصوات عن طريق درجة ارتفاعها وحدتها وطبقتها.
قد يهمك أيضًا: العلم يشرح كيف تخوننا الذاكرة
تجارب مثيرة محورها الروائح
يستحضر مريض ذكرى أليمة عند شم رائحة الوقود، فقد ارتبطت الرائحة لديه بحادثة احتراق سيارة أمام عينيه بينما هو عاجز عن تقديم المساعدة.
وجد الباحثون في عام 2001 أن ما «نعتقد» أننا نشمه يؤثر في درجة استحساننا للروائح. فقد أَعطى المشاركون في البحث تقييمين مختلفين لنفس الرائحة تبعًا للتصنيف الملصَق الذي وضعه الباحثون عليها، فاستحسنوا الرائحة عندما قُدمت إليهم باعتبارها «جبن بارميزان»، بينما كرهوها هي ذاتها عندما قُدمت باعتبارها رائحة «قيء».
يلعب السياق كذلك دورًا في تقبلنا للروائح، فبينما يجد معظم الناس رائحة روث البهائم مقززة، قد تثير نفس الرائحة مشاعر الحنين لدى من تربوا في المناطق الريفية. فلا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه التجارب والخبرات السابقة في تقييمنا لما نشمه من روائح.
تشير تجارب أخرى إلى أن الروابط التي تتكون لدينا بين الروائح والمشاعر تتشكل حتى قبل الميلاد، فقد وجد باحثون أن تعرُّض الأجنة لروائح مثل الثوم والسجائر والكحول يجعلهم يفضلون تلك الروائح بعد ولادتهم مقارنةً بغيرهم من الأطفال، بل إن تلك الروائح، التي قد تنفِّر كثيرين، تصبح أحيانًا عادية أو حتى مريحة بالنسبة إليهم.
قد يعجبك أيضًا: عندما يكذب عليك عقلك، لن تعرف أبدًا
ليست كل الذكريات التي تثيرها الروائح بالضرورة طيبة، فقد تكون مصدرًا للألم مثلما هو الحال مع مرضى اضطراب ما بعد الصدمة (الذي يصيب من تعرضوا لصدمة نفسية شديدة).
ففي سلسلة من التجارب، وُجد أن أحد المرضى استحضر ذكرى أليمة وانتابه شعور بالذنب والغثيان عندما شم رائحة الوقود، إذ ارتبطت الرائحة لديه بحادثة احتراق سيارة أمام عينيه وهو عاجز عن تقديم المساعدة. ومنذ ذلك الحين وهو يتجنب قيادة سيارته بالقرب من الشاحنات حتى لا يشم رائح وقودها، رغم مرور 30 عامًا على تلك الواقعة الأليمة.
أداة تسويقية: روائح أفضل؟ مبيعات أكثر
بينما تكون المؤثرات السمعية والبصرية التي يستخدمها خبراء التسويق لترويج بضاعتهم، مثل الموقع والإضاءة والديكور والموسيقى وأزياء الموظفين، غير خافية على المشتري، فإن استخدام الروائح بصورة ناعمة قد لا يلحظه كثيرون.
في الماضي، كان هدف المسوقين السيطرة على الروائح غير المرغوبة، مثل الدخان مثلًا، أما اليوم فصار استخدام الروائح يأخذ شكلًا أكثر تطورًا.
تسعى شركات المخبوزات لاختيار مواقع متاجرها بعناية لتسمح لرائحة مخبوزاتها بأن تعبِّق المكان، فتفضل أن تفتتح فروعًا في محطات المترو.
حسب دراسة أجرتها إحدى الدوريات المتخصصة في التجارة والإدارة عام 2013، فإن «الرائحة التي تسكن المكان» لها عظيم الأثر في تقوية رغبة المستهلك في قضاء وقت أطول في المتجر، وتكرار زيارته له واتخاذ قرار الشراء.
تعطي «ScentAir»، إحدى الشركات العاملة في مجال التسويق عن طريق الرائحة، عملاءها من الشركات فرصة الاختيار بين 2,400 عطر تبعًا لما يناسب علامتها التجارية.
أما شركة «آبيركرومبي آند فيتش»، التي تتخصص في الأزياء الشبابية الراقية، فتعتبر نشر عطرها الرجالي المميز الذي يحمل توقيعها في أرجاء فروعها جزءًا من سياستها التسويقية، التي تعتمد على إثارة عدة حواس لدى المشترى لتطويل فترة تجوُّله في المتجر ودفعه إلى الشراء.
قد تطلب بعض الشركات تركيب عطر معين لإعطاء انطباع بعينه عن المكان، فقد طلبت سلسلة فنادق «چاي دبليو ماريوت» تصنيع عطر يعطي الزوار إحساسًا بـ«الرقي الناعم»، حسب مدير تسويق شركة «ScentAir»، التي قدمت للفندق توليفة عطر ناعمة ومنعشة فيها لمحة من عبير الليمون.
وتسعى البنوك، رغم جدية تعاملاتها، كذلك إلى تطويع العطور لجذب العملاء، حتى إن إحدى سلاسل البنوك العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية تدرس إمكانية تعطير الأقلام ودفاتر الشيكات.
اقرأ أيضًا: هل يجعلنا السُّبات نتخلص من ذكرياتنا؟
كذلك، تسعى شركة «سينابون»، الشهيرة بمخبوزاتها المحشوة بالقرفة، إلى اختيار مواقع متاجرها بعناية بالطريقة التي تسمح لرائحة مخبوزاتها المميزة بأن تعبِّق المكان وتحتبس فيه لأطول وقت ممكن، لذا فإنها كثيرًا ما تفضل أن تفتتح فروعًا في محطات المترو.
شغف خاص: رائحة الكتب في زجاجة عطر
مصدر رائحة الكتب التي يحتويها الورق المصنوع من الأخشاب يسمى «ليغنين»، وهي مادة كيميائية مرتبطة بمادة الفانيلين المستخدمة في صناعة الحلويات.
لمَّا كانت الروائح تثير الذكريات والمشاعر، فقد تعود بنا روائح الكتب إلى ذكريات المدرسة، أو توقظ فينا متعة قراءة الكلاسيكيات القديمة. واليوم، بات ممكنًا أن نستعيد تلك الذكريات أو نخلق الأجواء الهادئة التي تخلقها رائحة الكتب، فهناك عدد من صناع العطور صاروا يعبئون رائحة الكتب في زجاجات عطر.
نجح أحد هؤلاء الصناع في تركيب عطر أسماه «شغف الورق»، ويقول إنه يشبه «المتعة الشميَّة الفريدة التي تمنحها رائحة الكتب حديثة الطبع». وتباع الزجاجة الواحدة من ذلك العطر الفريد بنحو مئتي دولار، ما يعني أن شراء كتاب جديد غالبًا سيكون أرخص.
رائحة الكتب مصدرها مادة تسمى «ليغنين» (Lignin)، تأتي من الورق المصنوع من الأخشاب، وهي مادة كيميائية مرتبطة بمادة الفانيلين المستخدمة في صناعة الحلويات. وكلما صار الكتاب قديمًا، تكسرت مركَّبات الورق لتنبعث تلك الرائحة المميِّزة للكتب. وتحوي الكتب الجديدة كميات أقل من «الليغنين» مقارنةً بالقديمة.
قد يهمك أيضًا: ألاعيب العقل: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟
تسافر الروائح بنا لنقابل أشخاصًا ربما لم يعد لهم وجود سوى في خيالنا، أو لنزور أماكن ربما لم تطؤها أقدامنا لسنوات، أو قد تحيي فينا مشاعر وأحاسيس فترت منذ زمن، وربما حدث ذلك رغمًا عنا نتيجةً لطبيعة تشريح المخ البشري. قد لا ندرك واعين أن السر وراء عودتنا إلى مكان بعينه هو طِيب ما نشمه من روائح فيه، وهذا بالضبط ما يستخدمه خبراء التسويق للتأثير في رغباتنا الشرائية وخلق الولاء لسلعتهم.
دينا ظافر