هاي.. باي: هل تقتل الأحاديث السطحية علاقاتنا الاجتماعية؟
تخيل أنك في زيارة إلى أقاربك الذين تعرفهم بالكاد، ويدفعك أحد والديك دفعًا، كالعادة، إلى التحدث مع مَن هم في مثل سنك، لكن عمَّ ستتحدثون؟ بعد التعرف إلى بعضكم بعضًا، من المتوقع أن يمدح أحدكم الطعام، ويعتذر آخر عن تأخره بسبب العمل وما شابه، ثم يأخذكم ذلك إلى الحديث عمَّا تدرسونه أو طبيعة عملكم، وفي النهاية يأتي دور «لا بد من تكرار هذه الزيارة»، وما يليها من ترحيب وشكر لملء لحظات الصمت المحرجة.
من المستبعد أن تناقشوا تبعات النظام الرأسمالي الذي يسيطر على حياتنا مثلًا، أو تناقشوا سبب الوجود الإنساني والجدوى منه، ومن المستبعد كذلك أن تتحدثوا عن حيواتكم الشخصية وتعترفوا بأكبر مخاوفكم، مع أن هذه كلها مواضيع رائعة لبدء حديث مع أحدهم، إلا إننا نادرًا ما نناقش مثل هذه المسائل الكبيرة في مناسباتنا الاجتماعية، لذا تبقى علاقاتنا سطحية وفارغة.
أكدت بعض الأبحاث أن معظم الناس يعلمون جيدًا أن هذه المحادثات السطحية القصيرة لا تبني علاقة اجتماعية وثيقة، ولا حتى ترضيهم عقليًّا أو عاطفيًّا، لكنهم يلجؤون إليها على أي حال. السؤال الذي يفرض نفسه عند هذه النقطة: بما أن أحدًا لا يحب هذا النوع من الحديث، فلِمَ هو منتشر؟ يحاول مقال منشور على موقع «Wired» إجابة هذا السؤال.
حديث سطحي لكن ملائم
تنتشر هذه الأحاديث السطحية في رأي كاتبا المقال بسبب حاجة الناس إلى العثور على موضوع مقبول اجتماعيًّا، إذ يسعى الناس دائمًا إلى إيجاد قاسم مشترك شائع بين جميع الحضور لجعله محورًا للحديث، لأنهم يشعرون عادةً بالضغط والتوتر عند الحاجة إلى اختيار موضوع مقبول اجتماعيًّا ولا يؤدي إلى استثناء أحد الحاضرين من المشاركة، لذا يتجه معظم الناس إلى الأحاديث السطحية الضحلة، التي يكون لكل فرد رأي فيها.
لن يخاطر أي شخص على الإطلاق بنفسه اجتماعيًّا ويتحدث عن مشكلات شخصية ونفسية معقدة، لذا يكون البديل هو الأحاديث السطحية القصيرة.
يذكر المقال دراسة أجرتها أخصائية الأنثروبولوجيا «كيت فوكس» عام 2010، وجدت فيها أن أكثر من 90% ممَّن خضعوا للدراسة تحدثوا عن حالة الطقس في الست ساعات السابقة، وتحدث قرابة 38% منهم عن حالة الطقس في الساعة الماضية فقط.
يُعَد الطقس أكثر مواضيع الحديث شيوعًا، لكن منذ متى صار الطقس قضية مهمة كي ينشغل به الجميع إلى هذا الحد؟ ومتى أصبح الجميع خبراء في الطقس؟
اقرأ أيضًا: إنو.. ع أساس.. طق حنك.. فاهمني؟ ما هي لوازم الكلام وكيف نتخلص منها؟
سعت «كريستين بيرمان»، التي كتبت المقال بالتعاون مع أستاذ علم النفس «دان أريلي»، إلى فهم هذه المشكلة واقتراح حل لها، ودفعهما إلى ذلك حقيقة أن معظم الناس يواجهون صعوبة في فتح مواضيع ذات معنى على أرض الواقع، بينما ينقلب حالهم على الإنترنت ويناقشون أكثر المواضيع تعقيدًا.
نظمت بيرمان وأريلي حفل عشاء، وحاولا وضع أيديهما على المشاكل الرئيسية التي تطول هذا النوع من المناسبات، ثم حاولا حلها ببعض القواعد الصارمة.
أول هذه المشاكل كان وقت وصول الضيوف، لأنه إذا وصل الضيوف في أوقات مختلفة، فدائمًا ما يبدو الحفل فوضويًّا. المشكلة الثانية هي موضوعات الحديث، لأنه لن يخاطر أي شخص على الإطلاق بنفسه اجتماعيًّا ويتحدث عن مشكلات شخصية ونفسية معقدة مع شخص يعرفه بالكاد، لذا يكون البديل هو الأحاديث السطحية القصيرة التي لا تترك أي انطباع لدى أحد.
كيف حل أريلي وبيرمان هاتين المشكلتين؟
الأحاديث السطحية ممنوعة
وضع الباحثان قواعد بسيطة لحفل العشاء، فحددا موعد الحضور بين 7:30 و8 مساءً فقط، وقررا عدم السماح بإدخال كل من يتخلف عن الثامنة، وكذلك منعا الأحاديث السطحية منعًا باتًّا، ولم يسمحا سوى بالأحاديث العميقة ذات المعنى.
أعادت تجربة عشاء بيرمان وأريلي تعريف اهتمامات الناس، ووثقت قواعدهما علاقة الضيوف ببعضهم.
لبَّى 90% الدعوة في نفس اليوم، وأرسلوا يتساءلون عن هذه القواعد لفهم طبيعة الأحاديث السطحية بالضبط، ولم ينتابهم الفضول فقط بخصوص القواعد، بل أحبوا وجودها كذلك، فلم يُرِد أحد أن يخرقها.
بلغ عدد الضيوف في تجربة بيرمان وأريلي 27 شخصًا من الجنسين، وصلوا جميعًا في فترات زمنية متقاربة، ليبدأ تطبيق القاعدة الثانية ومنع الأحاديث السطحية. بعد فترة قصيرة، كان الضيوف مشغولين بمناقشة قضايا مثل ما إذا كان المسؤولون الحكوميون يتحملون نتائج أفعالهم، ومسائل مثل مكافحة الانتحار والتبرع بالأعضاء.
لم يكتف الضيوف باتباع القواعد، بل أسهموا في تطبيقها كذلك. وبدلًا من أن تقيد هذه القواعد حريتهم، جعلتهم أكثر انفتاحًا ومنحتهم الحرية لمناقشة ما يرغبون في الحديث عنه.
أعادت تلك القواعد الاجتماعية تعريف اهتمامات الناس، وتركتهم مع قدر من الرضا والثراء النفسي، والأهم أنها وثقت علاقة الضيوف ببعضهم، فبدلًا من أن ينظروا إلى بعضهم بعضًا، نظر كل منهم بداخل الآخر. يمكن القول إن هذه القواعد أسست علاقات اجتماعية لم تكن لتنشأ حتى لو بعد شهور من الأحاديث السطحية التافهة.
اقرأ أيضًا: أن تكون «كول».. وكيف يؤثر هذا في صورتك الاجتماعية
القواعد مفيدة في أحيان كثيرة
لو أخبرت الشركات عملاءها أن رسائل البريد الإلكتروني لن تُقرأ إلا في ساعات محددة من اليوم، لن يضطروا إلى فحصه باستمرار، وهكذا تؤدي القواعد إلى حرية أكبر.
الفكرة الرئيسية وراء تجربة هذا النوع من القواعد الاجتماعية كانت تقييد حرية الفرد وتحديد دوره من أجل الصالح العام، لأنه إذا أتيحت له الحرية الكاملة في تصرفاته، قد يؤثر هذا في الجماعة بالسلب أحيانًا. ويضرب الباحثان مثلًا بالبريد الإلكتروني، فهو متاح لمدة 24 ساعة طَوَال الأسبوع، وإذا أراد شخص إرسال رسالة في يوم الإجازة، يمكنه عمل ذلك ببساطة دون شروط أو قيود.
لكن ما ضرر ذلك؟ أدت هذه السهولة والحرية في استخدام البريد الإلكتروني إلى تطوير ثقافة مهووسة بالبقاء على اتصال بالإنترنت طوال الوقت، ومتابعة البريد الجديد وترقبه، مما قد يؤدي، عكس المقصود منه، إلى بطء سير العمل وتشتيت العاملين أحيانًا.
لكن لو أضفنا بعض التنسيق والقواعد الاجتماعية إلى استخدام البريد الإلكتروني، ربما يصبح أكثر كفاءة. يتساءل الكاتبان عمَّا يمكن أن يحدث لو أخبرت الشركات عملاءها أن رسائل البريد الإلكتروني لن تُقرأ إلا في ساعات محددة من اليوم مثلًا. سيحد هذا من توقعات العملاء، ولن يضطروا إلى فحص بريدهم الإلكتروني باستمرار، وهكذا تؤدي القواعد أحيانًا إلى حرية أكبر، عكس ما نتوقع.
بالعودة إلى مسألة الأحاديث السطحية، ربما عليك أن تضع لنفسك قاعدة تشترط تجنب هذه الأحاديث قدر الإمكان، حتى تضمن إنشاء علاقات اجتماعية أقوى. فمثلًا: عندما يقول لك أحدهم إن «الجو لطيف اليوم»، ناقش معه ظاهرة الاحتباس الحراري، وعندها قد تجد تحولًا مفاجئًا في طبيعة حواركما وعلاقتكما.
ميرنا محمد