العبيد في الخليج: كتابة التاريخ خارج الروايات الرسمية
«كيف يمكن أن نسمع أصوات المهمشين في الماضي، وهي أصوات ظلت مكتومة بصورة كلية من طرف أصحاب السلطة» - كلود شميت، «تاريخ المهمشين».
أمام مساءلة شبه معدومة للتاريخ وشخوصه وأحداثه، يراد لنا باستمرار وبشكل إما مقصود أو غير ممنهج أن نفهم أن التاريخ بريء وحافل بالإنجازات والمعاني الإنسانية القيمة، التي جعلت منه ناصعًا ومشرفًا ومصدرًا للفخر والاعتزاز، وتجسيدًا للرموز الوطنية التي تتعاظم مكانتها جيلًا بعد جيل.
يراد لنا أيضًا أن نفهم أن تمثلات الدين والأخلاق قد صاغت الكثير من شواهد السردية التاريخية، لا سيما في ما يتصل بعمق الحياة اليومية المعاشة. مع هذا كله، فإن قدرًا ضئيلًا من الأعمال البحثية التاريخية يتسرب يومًا بعد يوم ليروي القصة الأخرى للخليج العربي، القصة المهمشة والساقطة من اهتمامات الروايات الرسمية في المنطقة، والتي لم يبق لها من أثر سوى كتابات للباحثين العرب الراصدين للظواهر الاجتماعية السياسية، والمرويات التي مضى بها عموم المستشرقين الذين زاروا المناطق، أو ما تيسر الكشف عنه من وثائق المستعمر البريطاني.
تاريخ العبيد في الخليج العربي
يمثل كتاب «تاريخ العبيد في الخليج العربي» للباحث وأستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في الكويت هشام العوضي والصادر عن دار التنوير هذا العام، واحدًا من الأعمال التي تتناول حقبة تاريخية جرى التكتم عليها والاستغناء عن نقاشها خليجيًا منذ سنوات، ولهذا يبدو هذا العمل مهمًا لاستحضار الرواية الأخرى لتشكل علاقات إنسانية اعتمدت العنصرية والتهميش للبشر في هذه المنطقة.
يقع الكتاب في ستة فصول أساسية تقدم محاور مهمة لحياة العبيد في الخليج وأعمالهم، بينها نشاط صيد اللؤلؤ، وما صاحب ذلك من تجارة ممنهجة لبيع العبيد في الأسواق وجلبهم بالخطف عبر المحيط الهندي وإفريقيا، وتأسيس جانب مهم من التجارة القائمة على الاستعباد وبينها تجارة الأطفال وسوق العبيد في مزارع النخيل.
تعددت مصادر جلب الرقيق في الخليج لتشمل دول إفريقيا كالحبشة وإثيويبا، ولكن أصول الخدم والعبيد ظلت غير واضحة ومحل جدل واسع.
يتناول الكتاب أيضًا نظام الرق في الجزيرة العربية وفق وصف الرحالة، إثر انتشار العبيد وأسواقهم في الحجاز والبحرين وعمان، وكيف تشكلت النظم التجارية التي تدعم الرق والرقيق، والآثار الاجتماعية الناجمة عن هذا التداخل بين حضور الرقيق وعلاقتهم بمستعبديهم، ومنها على سبيل المثال ظاهرة الزواج والإماء والعبيد المخصيين، والتي تأسست على تعمق شيوع الرقيق.
أحد هؤلاء الرحالة كان سنوك هرخرونيه، الذي قدم وصفًا كبيرًا لحالة العبيد في الحجاز والتحولات الخاصة بهم بسبب المقدسات الإسلامية، متحدثًا عن التنوع العرقي في تلك المنطقة وحالات الاختلاط بين السكان الأصليين ومن استعبدوا. وتحدث هرخرونيه كذلك عن آليات اختيار العبيد في أسواق الرقيق وعملية شراء العبد طفلًا، بل وأضاف بعدًا توثيقيًا بالصور لحالات الاستعباد في مكة.
في هذه الدراسة التاريخية، يعتمد الكاتب بصورة كبيرة على الأسلوب السردي منطلقًا من عشرات البحوث والدراسات للرحالة المستشرقين والباحثين الغرب الذين رصدوا تاريخ المنطقة، إضافة لوثائق المستعمر البريطاني عبر وكالاته المنتشرة في الهند ومسقط والشارقة والبحرين والكويت وغيرها.
شاعت ظاهرة تجارة الرقيق في جميع دول المنطقة الخليجية، ونشطت هذه التجارة كما يوضح الكتاب نتيجة الطلب المتزايد على اليد العاملة، إذ استُخدم العبيد في أعمال متعددة مثل الخدمة المنزلية والغوص والزراعة ورعاية الأطفال والتنظيف وضيافة الزوار والحراسة والأعمال القتالية.
تعددت مصادر جلب الرقيق في الخليج لتشمل دول إفريقيا كالحبشة وإثيويبا، وبحسب الأوروبيين الذين رصدوا تحولات هذه التجارة في المنطقة، فإن أصول الخدم والعبيد ظلت غير واضحة ومحل جدل واسع، لكن من الشائع القول إن أصولهم تعود إلى القارة الإفريقية.
مثلت النزعة للاستعباد أساسًا للوجاهة (وجاهة السيد ووجاهة القبيلة)، ونوعًا من الاستثمار المالي الذي يمكن استغلاله في فترة التأزم، فامتلاك العبيد يمنح قدرًا من الفهم للمكانة التي يحتلها الأمير أو شيخ القبيلة، وكان من الشائع أيضًا أن يمتلك الفقراء عبدًا أو اثنين. يذكر الكتاب على سبيل المثال أن محمد بن جلوي أمير منطقة الإحساء امتلك 50 عبدًا، بينما اعتمد السلطان العماني سعيد بن سلطان على تجارة الرق أساسًا لنفوذه التجاري في سواحل شرق إفريقيا.
العبيد: الاختطاف البشع من الحياة
تشكلت أنظمة تجارة العبيد في المنطقة الخليجية نظرًا للحاجات التجارية، فجُلب العبيد لأداء الأنشطة البدنية المصاحبة للتجارة، لا سيما تجارة صيد اللؤلؤ، التي أفرد لها الكتاب فصلًا كاملًا. لكن علاقات الرق في الخليج لم تكن لها علاقة بالهجرة المنتشرة حاليًا، أو حتى بنظام الكفالة الذي نعرفه بشكله اليوم، بل كانت استعبادًا متشكل المعالم وفق ما يتضح من آثاره الاجتماعية والإنسانية الصادمة، والتي ترقى إلى الخطف من الحياة الأصلية.
الرق، وفق ما يصفه الكتاب، كان قائمًا على الخطف من بلد المنشأ، وبذلك فإن غالبية العبيد في منطقة الخليج لم يكونوا من أسرى وسبايا الحروب أو مولودين لأبوين عبدين، بل إنهم أتوا للحياة أحرارًا وتعرضوا للخطف. ويورد الكتاب بعض الصور الخاصة بهذا الخطف وآثاره المدمرة على حياة العبيد لاحقًا.
انتشرت أسواق العبيد في المنطقة، وخلال موسم الحج كان الحجاج يجلبون معهم العبيد لبيعهم بعد وصولهم إلى مكة. ويشير الكتاب إلى أن السلطات البريطانية وجدت في رصد حركة تجارة العبيد وتقنينها تحديًا كبيرًا. ومن أوجه معاناة العبيد حتى قبل استعبادهم، اختطافهم من دول شرق إفريقيا من قرى نائية في كينيا وتنزانيا وأوغندا وبيعهم بمبالغ زهيدة، ثم تسييرهم لمسافات طويلة داخل الأدغال وصولًا إلى المواني. وقد عرفت تلك الرحلات بالشقاء والمعاناة، إذ كان العبيد يقيدون بالسلاسل في الأقدام والرقاب، ويلقى بعضهم خلال تلك الرحلة حتفهم بسبب الجوع والتعب الشديدين.
من الآثار المدمرة للاستعباد، المعاناة التي عاشها الغواصون من العبيد، الذين كانوا سببًا في ازدهار تجارة اللؤلؤ في الخليج لعقود. يرصد الكتاب تعرض هؤلاء للسرقة وعدم الإنصاف، إضافة للجهد الكبير المحفوف بالمخاطر والنتائج المروعة على أجسادهم المنهكة، التي كانت تلبث لأيام طوال في عرض البحر تؤدي الغوص اليومي لساعات طويلة، والتعرض لحيوانات البحر والمخاطرة بحياتهم وإصابتهم بأمراض الجلد، وفقدانهم لحواسهم مثل السمع والرؤية نتيجة الإجهاد الشديد والإصابة بالأمراض.
المعاناة في درجاتها القصوى
كان إخصاء العبيد من أسوأ الآثار والأكثر امتهانًا للإنسان، وهي وفق ما يصفها الكتاب «محو قاس للماضي والذاكرة»، يليها إكسابهم الهوية الإسلامية وما يترتب على ذلك من صدمات نفسية وعضوية.
غالبًا ما يحدث إخصاء العبيد في مرحلة مبكرة من حياتهم لحرمانهم من التناسل. وقد شاع مصطلح الأغوات في المساجد، وهم الأفراد المخصيون من العبيد الطهورون للمحافظة على أمن ونظافة المسجد. وشاع بيع الأطفال وعرضهم في الأسواق، وقد اصطف العبيد كالسلع المعروضة في الأسواق، وكان يسمح للمشترين بتحسس الأطفال وأجسادهم لمعرفة أي منهم يخلو من الأمراض والعاهات ويقدر على أداء المهام الشاقة.
وعلى الرغم من اهتمام الكتاب بتلمس ظاهرة أخرى ناتجة عن الاستعباد هي ظاهرة الإماء، الناتجة عن رغبة «الرجال المسلمين» من أبناء المنطقة الخليجية في التمتع بالنساء المستعبدات، فإنه يركز في هذه المسألة على تبيين مستوى ضآلة الأحكام التي كان الرحالة الغرب يطلقونها على هذه الظاهرة، معتمدًا على كتاب سنوك عن الإماء، وهو واحد من المستشرقين الذين كتبوا عن الإماء في الجزيرة العربية.
يؤكد سنوك وفق الكتاب أن الحياة الحميمية للرجل كانت تختلف عما سرده الرواة الرحل، لا سيما أن عدد الإماء في مكة مثلًا كان أكثر من عدد العبيد، وثمنهن كان أعلى، وكان يغلب على معاملة الرجال للإماء اللطف، وكن يتمتعن بدرجة من الحرية. ولكن لم يشدد الكتاب على أن هذا كله لا يزال استعبادًا محضًا، رغم أن العلاقة الجنسية تصوَّر على أنها بالتراضي.
شاع هروب العبيد أملًا في الحصول على حريتهم، أو البحث عن أعمال أخرى أقل امتهانًا لكرامتهم. وخلال الفترة المقاربة لإنهاء حقبة الاستعباد، وجد بعض العبيد أعمالًا لدى شركات النفط. ولم تسلم تلك الشركات هي الأخرى من التواطؤ مع عمليات الاستبعاد أيضًا، فبعض العبيد كانوا يفقدون فرصة العمل بسبب عثور أسيادهم عليهم والقبض عليهم ومصادرة ما كسبوه من أموال. وكانت شركات النفط تعيد العبد الآبق لسيده إذا علمت عن أمر هروبه، وغالبًا ما كانت تمتنع عن دفع أجوره.
خجل الرواة وسرديات الأقوى
القيمة التاريخية والعلمية لكتاب «تاريخ العبيد في الخليج العربي» مهمة للغاية، فقد اختار الحديث عن هذه المرحلة الحرجة من عمر المنطقة، بيد أنه لم يتوانَ عن استباق المخاطر محذرًا من حساسية فرض شأن الرق في الخليج للنقاش العلمي والعمومي، وما قد يسببه التطرق لهذا الموضوع من حرج اجتماعي بالغ لفئات قد تكون اليوم منصهرة في المجتمعات العربية (حسبما يشير الكتاب)، لا سيما بعد إقرار إلغاء الرق في الخليج.
حتى أن طرح الأسئلة بشأن الرق ونظامه وتكوينه في الخليج يعد وفق ما يصفه الكتاب من الموضوعات المحظورة، لأن هذه الفترة الحالكة من تاريخ المنطقة ضمت امتدادًا هائلًا للرق والرقيق شمل مستويات عدة، للدرجة التي وصل إثرها عدد العبيد في القرن التاسع عشر إلى نحو مليون رجل وامرأة، عملوا في مهن متعددة وأتوا من جماعات عرقية ودينية مختلفة، على الرغم من توثيق حياة بعضهم من قبل الوكالات الخاصة بالاستعمار البريطاني بين أعوام 1884 و1949، حسبما يوضح الكتاب.
شكَّل الاعتماد الكبير في الكتاب على سرديات المستعمر البريطاني بصرف النظر عن القيم التحليلية الأخرى إسقاطًا بالغ الخطورة، يرتبط بتصوير حالة شعور العبيد باللاجدوى إزاء سياساتهم أو التماهي الإجباري مع أوضاعهم على أنه حالة قبول للاستعباد والاسترقاق، نظرًا لأن ظروف الحياة خارج هذا الإطار كانت بمثابة خطر قد يؤدي إلى انقطاع رزق العبيد أو تعرضهم لمخاطر استعباد أخرى أو مواجهتهم الجوع والفقر المدقع.
تناسى الكتاب أن السرديات التي وصلتنا مما تيسر من المستعمر البريطاني للمنطقة أو الرحالة الذين يملكون مصالح ثقافية وسياسية، ستظل ولو بعد ملايين السنون سردية للطرف الأقوى (المستعمِر) ومن يمثله، والذي لا يمكن الاعتراض على استفادته غير المباشرة من نظام الاسترقاق، إضافة إلى أن الرق كان نظامًا عالميًا في تلك المرحلة، رغم الدور البريطاني اللاحق في تطبيع إلغائه بالقوانين والأنظمة والتي لم يقدم الكتاب تفسيرًا لها.
بمثل تلك الإسقاطات نجد أيضًا هذا التفسير في صفحة 29 من الكتاب، والذي يصف أن العبيد الذين لاقوا معاملة سيئة كانوا يلجأون إلى الحكام المحليين من أهالي المنطقة الخليجية طلبًا للإنصاف، أو للوكالة البريطانية في حالات أخرى، وكانوا في الغالب يحصلون عليه حسبما يشير الكتاب. ويذكر الكتاب أن حاكم الكويت قد تدخل في عام 1921 لانصاف جارية اشتكت من سوء معاملة سيدها، فاستدعى السيد وأمره أن يحسن معاملة الجارية ثم أرجعها له، ولكنه عاد ليعتدي عليها مرة أخرى، فقرر الحاكم عدم إرجاعها إليه.
يستشهد الكاتب بهذه الحالة وحالات أخرى يتطرق إليها كشواهد أساسية على حالة تماهي العبيد مع أوضاعهم، ويحسم باستخدامها موقفًا علميًا للطرف الأقوى في معادلة تاريخ العبيد هذه (الوكالة البريطانية ومن يمثلها من الحكام المحليين).
تراجُع قيمة التحليل الموضوعي للكتاب واكتفاؤه بتجميع السرديات المتوفرة وتقديمها أفقده جزءًا مهمًا من تحليل المادة العلمية التي كان لها أن تنتَج من هذا السرد. ولعل اختيار الكاتب عبارة «السردية التاريخية» بدلًا من «البحث التاريخي» مبرر أولي لهذا الأمر، لكنه دون شك لا يمكن أن يعوض فقدان التحليل وقدرته على الحسم الموضوعي والبناء للكثير من الشواهد والاستدلالات الحاصلة في هذا العمل. ولعل مزيدًا من البحث والتقصي والتحليل المتواتر سيفضي إلى قيمة معرفية وتحليلية مهمة حول الاستعباد وشخوصه وضحاياه في منطقة الخليج العربي والمناطق القريبة منه.
أُلغي الاسترقاق في الخليج على مضض من جانب المستعبِدين في الفترة بين ثلاثينيات وحتى ستينيات القرن الماضي، لكن جزءًا من تاريخ الإنسان والمنطقة تشكل وفق هذا النظام الاستعبادي، للدرجة التي لا يمكن فيها نكران آثاره حتى اليوم. «عبيد الباطنة» و«المسيندو» أو «الطقاقات» تُستحضر اليوم كدلالات على فنون المنطقة الخليجية بعيدًا عن تأثير حقبة الاستعباد المريرة في مكونات ثقافة الإنسان، دون أن تجلب معها الكثير من المعلومات والشواهد عن حضور العبيد في تاريخنا المكتوب.
سمية اليعقوبي