الحب غير المشروط: موجود فعلًا أم خرافة؟
أحبس نفسي داخل الحمام، كعادتي مؤخرًا، وأفكر في أنني في الثلاثين من عمري ولم أتزوج بعد. أرتجف بعدها مباشرة وأبكي بغزارة: أنا لا أبحث عن الزواج، بل عن الحب.
أتساءل: لماذا أبكي وحدي في الحمام؟ هل أنا وحيدة لهذه الدرجة؟ وأتذكر أنني في أزمتي الأخيرة اكتسبت أصدقاء جددًا، رأوا أضعف ما فيّ، قاع الحضيض، و«قبلوني كما أنا». أتذكر أيضًا أن حائط الأمان النفسي في مواجهة كل مشكلات الحياة هو الدعم الاجتماعي من الأهل والأصدقاء والأحبة. في حالتي أنا: لديّ أصدقاء فقط.
الإنصاف اللعين يدفعني للاعتراف: أتى الحب مرة واحدة فقط، حب المراهقة الأعمى، وذهب لحاله.
أتذكر كل هذا وألوم نفسي على ضعف تواصلي معهم في الأسبوعين الماضيين، ثم أبكي أكثر لأنني كنت أجاهد للبقاء حية، ولم أستطع أداء واجباتي الاجتماعية على ما يرام، ولو حتى لأجل خاطري.
ماذا عن الحب يا روز؟
يتفرع عقلي ليبرر سبب انتقائي لاسم التدليل هذا: لم أحب اسمي منذ البداية، فهو يسبب لي مشكلات كثيرة جدًا. رغبة جدي رحمه الله في التفرد جاءت على حسابي. كرهت اسمي وكوني بنتًا، لدرجة أنني لجزء كبير من حياتي كنت أشير لنفسي بضمائر المذكر، بلا وعي تقريبًا، إلى أن انتبهت وصرت أصحح لنفسي كلامي: «أنا عايز.. أقصد أنا عايزة»، وصار اسمي الآن «روز».
ما به الحب؟
لم يأتِ، ببساطة.
لكن الإنصاف اللعين يدفعني للاعتراف: أتى مرة واحدة فقط، حب المراهقة الأعمى، وذهب لحاله. كان هذا في صالحي بالمناسبة، فلم تكن اختياراتي في الحياة محددة ساعتها، ولولا اختلاف الأحوال والتفكير، لأصبحت تعسة الآن، لو أنه استمر.
أبكي أكثر في الحمام وأعجز عن غسل وجهي، حينما يصل تفكيري لهذه النقطة: لا أريد من الحب سوى التقبل
أرتجف في حضرة المحامين الحقوقيين، الذين يدافعون عن المسجونين السياسيين بلا مقابل تقريبًا.
لا يريد محمود درويش من الحب سوى أوله، ولا أعرف بقية القصيدة، لكني أؤكد لنفسي: «أنا على استعداد للتحرك لحلّ كل المشكلات التي ستطرأ، كما يحدث في علاقات المحبين.. أنا الآن أكثر نضجًا وأعرف خياراتي ومستعدة للتمسك بها باستماتة. لن أدع أحدًا يكسرني. أريد من يؤمن تمامًا أنه «من حقي كذا وكذا».
إيه يا ولاد.. إيه؟
كتبت منذ شهر تقريبًا في نوبة فزع استمرت طويلًا، أنني أميل عاطفيًا بصفة خاصة تجاه كل من يقول بثقة وإيمان تامين «من حقهم كذا وكذا» أيًا كان هذا الكذا.
كتبت أنني أرتجف في حضرة المحامين الحقوقيين، الذين يدافعون عن المسجونين السياسيين بلا مقابل تقريبًا. كنت أرتجف لأنني أريد بشدة أن ألمس أحدهم: هل أنت حقيقي؟ يعني، هل تؤمن فعلًا أن من حق الإنسان التعبير عن رأيه والإيمان بما شاء له من أفكار، دون أن يتعرض لسجن أو حبس أو سخرية أو مصادرة اجتماعية؟ هل تعيش معنا على هذه الأرض؟ يعني، ألست نجمة مثلًا وضلت طريقها لمجموعتها الشمسية؟
صرت لا أحتمل وجود النقيضين: ظلم فادح وأناس يؤمنون بقبح هذا الظلم. توقفت عن متابعة المحامين على الفيسبوك أو رؤيتهم وإن ظلت لهم في قلبي مكانة كبيرة جدًا، وأريد تقبيلهم على الخدين، أو أن نتناول الكعك المحلى بكريمة الشوكولاتة. أؤمن أن الاثنين: التقبيل والكعك، يمكنهما أن يحلا أغلب المشكلات تقريبًا، إيمانًا غير منطقي كإيمان الإنجليز بأن الشاي له قدرة سحرية على حل كل المشكلات.
إيه يا ولاد.. إيه؟
أعاني من الاكتئاب، هذا واضح. وللاكتئاب انتكاساته، هذا أكثر وضوحًا. في الانتكاسة الحالية، يُنحّي عقلي فترة كبيرة من حياتي، بأحداثها وذكرياتها، ولا يتذكر إلا أشياء متفرقة: غرفًا مظلمة، خوفي من الظلام ثم مصاحبتي له، صراخًا مستمرًا في وجهي.. «مش من حقك» كثيرة تُقال لي، أو تعبر عنها الأفعال.
اقرأ أيضًا: ربما يكون الاكتئاب مفيدًا للإنسان
للمصادفة، كتبت اليوم تعليقات كثيرة مطوّلة عن التقبل غير المشروط من الأبوين لأبنائهما. كتبت أن الحب غير المشروط يعني أنه تظل محبًا ابنك ومتقبلا له كما هو، إذا اختلف معك سياسيًا أو اجتماعيًا أو فكريًا أو دينيًا، وأن تظل علاقتكما جيدة إذا حاولت مناقشته في اختلافه دون أن تصلا لحلّ. كتبت ما أؤمن به حقًا، وابتسمت لنفسي كثيرًا: أصلحُ أمًا جيدة، أو محامية بارعة في محكمة الأسرة. بعدها مباشرة، تأتي أمي من الخارج، وبلا مقدمات تسألني: «هل صليتِ اليوم؟».
هذا السؤال تحديدًا يضايقني بشدة. أؤمن أن الجانب الديني للأفراد شخصي تمامًا وليس من حق أحد الاطلاع عليه. في منزلنا فاشية دينية طاغية، متعلقة بالمظاهر: هل صليت أمامنا؟ هل ترتدين ملابس طويلة؟ لماذا يظهر جزء من ذراعك؟ هل لكِ رخصة في الإفطار في رمضان؟ إذًا لا تأكلي أمامنا. والكثير الآخر من التضييق باسم الدين.
أخذنا نصرخ في وجه بعضنا إلى أن اتهمتني أمي بالكفر وبأنها لن تصلي علي لو متّ، وعايرتني بالمعونات المادية التي تدفعها لعلاجي كوني لا أستطيع العمل وليس لي تأمين صحي أو اجتماعي، وهددت بطردي من المنزل.
منذ أن انتظمت أمي في حضور دروس الدين لأشخاص سطحيين تافهين، وهي قد أخذت الجانب الديني ونحّت الجانب الأمومي تمامًا. أرتجف أكثر وأسأل نفسي: «متى كان لها جانب أمومي؟ يعني، العطف والحنان وكل هذا الهراء الذي أسمع عنه كثيرًا، متى رأيته منها؟» ولا أستطيع التذكر.
ألوم نفسي: بالتأكيد ظهر منها حنان وتفهم في وقت ما سابق! فأنتبه: لماذا ألوم نفسي؟ أليس من حقي الإحساس بهذا؟
هل شعرت يومًا أنك «ليس لك مكان، والدنيا أفضل من غيرك؟»، غالبًا شعرت بذلك، ففي البلاد العربية ينجب الناس ثم يفكرون في طرق التربية.
لدى الطبيب النفسي الذي وصلت إليه بعد محاولات مضنية من البحث عن طبيب يفهم وليس دابة تحمل أثقالًا، لديه نظرية عجيبة جدًا، «ما دمت شعرت بهذا فهو صحيح. من حقك الإحساس بذلك الشعور». عندما قالها لي أول مرة صمتّ تمامًا وظللت أحدق في وجهه: هل العالم كله مخطئ وهو وحده المصيب أم العكس؟
من حقي إذًا البكاء وحدي في الحمام، من حقي أن أرثي حالي: لا أجد من يحبني أيها الكوكب التعس، لا أجد من يتقبلني كما أنا.
حدثت لي مؤخرًا اضطرابات نفسية شديدة، أثّرت فيّ كثيرًا جدًا. لكنني وجدت نفسي، وأنا الضحية، مضطرة للشرح لمن يحيطونني في المنزل: لماذا أنا عصبية؟ لماذا ألهث وتنفسي ثقيل؟ لماذا لا آكل معهم؟ لماذا أحتاج لكل تلك الأدوية؟ ألا يكفي فقط السجود والدعاء لله؟ لماذا لا أريد أن أقابل الناس، خصوصًا الأقارب؟ لماذا أتعرق بشدة ونبضات قلبي سريعة جدًا؟ لماذا أصرخ وأنا نائمة؟
ساعتها رثوت حالي أكثر: لماذا لا يقرؤون عن الحالة؟ اسمها اكتئاب جسيم يا جماعة، إيه؟ صعبة دي؟
الإنترنت مليء بالمواقع الجيدة، والمقالات المشروحة بالعربية والإنجليزية، هناك كتب والله العظيم، هناك كل شيء. لماذا لا يقرؤون؟ لماذا يلومونني أنا؟ لماذا يتساءلون بعد كل محاولة مضنية مني للشرح، وأنا أحاول جاهدة السيطرة على رعشة يديّ وتنظيم أفكاري وسط الضبابية التي تحيط بعقلي، عن: «يعني مينفعش تاخدي الأمور ببساطة؟».
كل ما كنت آمله من الحياة أن أجد من يحبني كما أنا، وأعيش معه.
قد يهمك أيضًا: هكذا كان طريقي من الصمت إلى الهتاف
هل شعرت يومًا أنك «ليس لك مكان، وزائد عن الحاجة، والدنيا أفضل من غيرك؟» نعم، أعرف أنك غالبًا شعرت بذلك، ففي البلاد العربية «المؤمنة» ينجب الناس أولاً ثم يفكرون في طرق التربية وهل يحبون أبناءهم أم لا.
الآن، وسط موجة الرثاء للذات العارمة هذه، أشعر أنه لا بيت لي، ولا مستقبل، ولا أشخاص يمكنهم أن يتبنوني إلى أن تمر هذه الأزمة بسلام.. إن مرّت.
سيأتي الغد، واليوم الذي يليه، وسيأتي العيد، ويحتفل الناس ويؤدون صلاته، بينما أشعر في داخلي أنه لا مكان لي، ولا أحد سيتعاطف مع ألمي، وأنه «ما تنكديش عليهم ده عيد يعني»، وأنه عليّ إذا أردت الحصول على ما يكفي من المال لشراء الدواء وزيارة الأطباء الكثر، أن أخفض صوتي، وأجيب عن سؤال «هل صليتِ؟» بنعم وحاضر، وأن أرتدي ثيابًا طويلة ضافية في الهجير الذي أعاني منه داخليًا وخارجيًا، وأن أستمع صامتة لفضل الاستغفار والصلاة على النبي في دفع الأزمات، بينما كل ما أفكر فيه في كل ذلك الوقت «ما تحضنيني يا ماما».
رزان محمود