لماذا يذهب العلم إلى المحكمة؟
لدينا نقص في الأبحاث الموثوقة لأسباب عديدة، منها طبعًا أنها أبحاث مكلفة وصعبة وتتطلب وقتًا طويلًا، لكن سبب آخر يجعل إجراء الأبحاث المهمة فعلًا أكثر صعوبة: تهديد الباحثين وإملائهم ما يجب عليهم دراسته، وما يتوجب عليهم أن يتجنبوه في نتائج أبحاثهم.
في عام 1980، حاولت عدة مجموعات إيقاف أبحاث الدكتور «هربرت نيدلمان» عن الآثار الجانبية لتعرض الأطفال لإشعاعات الرصاص. لا يتفق كثير من العلماء الآن مع نتائج دراسة نيدلمان، لكنها كانت دراسة علمية أشرف عليها المكتب الفيدرالي للأمانة العلمية وجامعة بيتسبرغ، لضمان منهجية الأبحاث.
في النهاية اعتُمدت الأبحاث، وستظل تلك الدراسة تحسن حياة الأطفال في العالم بأكلمه، لكنها كانت تجربة مريعة بالنسبة إلى هربرت نيدلمان.
يستعرض مقال نُشر في جريدة النيويورك تايمز الضغوط التي يتعرض لها الباحثون، ويحاول استكشاف مدى حياديتهم في ما يتعلق بالأبحاث التي يجرونها.
أبحاث.. أبحاث: قتال غير شريف
يتحدث كثير من المتخصصين الآن عن نقص الدلائل الموثقة عن العلاقة بين الأسلحة والصحة العامة، وهناك سبب لهذا الارتباك.
يوضح المقال أنه في عام 1990، أجرى الباحثون في مجال الخدمات الصحية دراسة عن مخاطر الأسلحة اليدوية، وحينها حاولت المجموعات المعترضة على نتائج الدراسة أن تغلق المركز الوطني للوقاية ومكافحة الإصابات. فشلوا طبعًا في ذلك، لكن تمويل ذلك النوع من الأبحاث أصبح شبه مستحيل من يومها.
مثال آخر يتعلق بالتغيرات الطبية البطيئة جدًّا في التعامل مع آلام الظهر، وهناك سبب لذلك أيضًا.
عندما نُشر بحث في تسعينيات القرن الماضي عن أن العلاج المناسب لآلام الظهر هو التدخل غير الجراحي، حاول المستفيدون من عوائد العمليات الجراحية وقف تمويل وكالة الأبحاث. فشلوا، أيضًا، لكن هذه القضية والجدل الذي أثير حولها ترك الباحثين غير قادرين على التركيز على هذه الموضوعات مرةً أخرى. صار من المتعارف عليه أن من يتعامل مع هذا النوع من الأبحاث عليه التعامل مع بعض آثارها الجانبية، مثل التشكيك في سمعته العلمية، بل حتى الهجوم الشخصي عليه.
اقرأ أيضًا: كيف تصبح عالمًا هاويًا من وراء شاشة الكمبيوتر؟
حملات شرسة: لا تقتربوا من المكملات الغذائية
كل ذلك مقيِّد ومربك بالطبع، لكن الحقل البحثي الذي يلفت النظر فعلًا هو التغذية، وتندرج تحته المكملات الغذائية، وفي هذه الأجواء تكون أكبر المخاوف موجهة نحو الدعاوى القضائية.
في عام 2013، نشر الباحثون في إدارة الطعام والدواء دراسة في مجلة الكيمياء الحيوية، توضح أن تسعة أنواع من المكملات الغذائية التي تُباع في الولايات المتحدة الأمريكية تحتوي على بديل صناعي من المنشطات يسمي أمفيتامين. وأكد الباحثون أن هذا النوع من المنشطات لم يُختَبر أبدًا، ولم يُدرَس تأثيره في البشر.
بعد سنة من صدور هذه الدراسة، قرر مسؤولو الصحة في كندا سحب الدواء من السوق لأنه قد يسبب مضاعفات خطيرة على القلب والأوعية الدموية. ولسبب مجهول، لم تعلق إدارة الطعام والدواء على الواقعة، لم تسحب الدواء من السوق، لم تحذر الشركات المصنعة ولا حتى المستهلكين.
عادةً ما توجد قوانين تمنع الحملات الممنهجة على الباحثين من الوصول إلى المحاكم، لكن هذا لم يحدث مع كوهين.
أعاد «بيتر كوهين»، المدرس المساعد في الكلية الطبية بجامعة هارفارد الأمريكية، دراسة تلك التجربة مرة أخرى، وتوصل إلى نفس النتائج التي وصل إليها باحثو إدارة الطعام والدواء: المنشط موجود بالفعل في عدة أنواع من المكملات الغذائية المتاحة في السوق، والمسح الشامل لأدبيات الكيمياء الحيوية يثبت أنه لا توجد دراسة واحدة لمدى فعالية هذا النوع من المنشطات أو تأثيره في الإنسان.
نُشرت النتائج في دورية «اختبار وتحليل الدواء» عام 2015، وحظيت باهتمام واسع من قنوات إعلامية أمريكية ودولية. وبعد أسبوعين بالضبط، نشرت إدارة الطعام والدواء تحذيرًا للمستهكلين من أن الدواء قد يكون ذا أعراض خطيرة، وأخطرت شركات الأدوية بحذف الأمفيتامين من منتجاتهم، لكن فقط بعد أن انتشر الموضوع وأصبح مركز جدل مجتمعي واسع.
واحدة من الشركات التي استلمت إخطار إدارة الطعام والدواء اتخذت إجراء أكثر عنفًا، إذ رفعت دعوى قضائية ضد بيتر كوهين، طالبت فيها بتعويض قدره 200 مليون دولار أمريكي عن الخسائر التي لحقت بها جراء التشهير، وادّعت أن التصريحات والبيانات المستخدمة في الدراسة غير صحيحة. أكدت الشركة، دون تقديم أي أدلة علمية، أنه رغم أن بحث كوهين يثبت أن العقار «غير طبيعي»، فإنه «مستخلص من نبات مكسيكي»، بحسب ما يذكره المقال.
شركات أخرى أكدت أيضًا أن لديها أدلة علمية تثبت أن العقار آمن للاستخدام الآدمي، لكن القضية حُفظت في النهاية لعدم ثبوت الأدلة.
خلال مدة القضية، طلبت الشركات المصنعة للمكملات الغذائية محل البحث الاطلاع على الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين الباحثين والمتعلقة بالدراسة، بما في ذلك رسائل الباحثين المساعدين والمحررين والخبراء المستَقدمين إلى إدارة الطعام والدواء، وحتى قنوات الإعلام. طلبت الشركات أيضًا كل المراجعات الخاصة بالبحث، بالإضافة إلى تعليقات وردود أفعال القراء.
ورغم عدم وجود أي أدلة على خطأ الدراسة، سمح القاضي باستمرار القضية ووصولها إلى قاعة المحكمة.
حملة ممنهجة: لماذا يذهب العلم إلى المحكمة؟
تنتشر الدعاوى القضائية ضد الأبحاث العلمية في أمريكا، فهناك قضيتان في الثمانينيات واثنتان في التسعينيات، ومنذ عام 2000 وصل العدد إلى 10 قضايا.
واجه بيتر كوهين ما يسميه الباحثون «حملة ممنهجة». وعادةً ما توجد قوانين تمنع هذا النوع من القضايا من الوصول إلى قاعات المحاكم، أو حتى التهديد باللجوء إليها، لكن في حالة كوهين، لم ترفض المحكمة القضية خوفًا من أن يتسبب ذلك في سحب الحق الدستوري للشركات والكيانات الاعتبارية في التقاضي والمحاكمات العادلة.
على الرغم من أن المحكمة قضت لصالح الدفاع في النهاية، فإن التجربة ككل كانت عنيفة ومرهقة. التحضير من أجل جلسة واحدة يتطلب العمل لست ساعات، ومراجعة ما يزيد عن أربعة آلاف ورقة من الأدلة العلمية، ومراسلات إلكترونية، ومسَوّدات عمل. يقول كوهين: «استمرت القضية سبعة أيام، لكنها وضعت عائلتي بأكلمها على الحافة». كان محظوظًا في النهاية بالحصول على الدعم الكامل من جامعته في الدفاع عن دراسته.
تُوفر المعايير البحثية طرقًا لمُساءلة فرضيات ومنهجية ونتائج الدراسة قبل نشرها، ومعايير أخرى خلال عملية النشر يشرف عليها المحررون والناشرون. وبعد كل تلك العوائق الأكاديمية، يكون من المنطقي أن يتدخل القضاء فقط في حالة ثبوت التورط في التزوير. المحاكم ليست جهة مؤهلة لحل النزاعات العلمية، ومن واجب المحكمة منع إساءة استخدام أدوات العدالة في حق العلم.
تنتشر الدعاوى القضائية من هذا النوع في الأبحاث المتعلقة بالصحة. ويشير المقال إلى أن بحثًا أُجري على الولايات المتحدة خلال 40 عامًا كشف أن قضيتين رُفعتا في الثمانينيات، واثنتين في التسعينيات، لكن منذ عام 2000 وصل العدد إلى 10 قضايا. هذه الأرقام تشير إلى القضايا التي وصلت إلى المحكمة بالفعل، دون حصر القضايا التي حُفظت قبل تلك المرحلة.
الشركات تحمي مصالحها
نشر بيتر كوهين ورقة بحثية تثبت أن المنشطات لا تزال تُستخدم في صناعة عقاقير الرياضة وإنقاص الوزن. هذا هو ما يُفترض أن يقدمه البحث العلمي: يعطينا مزيدًا من المعلومات، فنستطيع اتخاذ قرارات أفضل في ما يخص صحتنا.
ربما يكون هذا طبيعيًّا، لكن الواقع يقول إن الباحثون لا يحظون بحماية كافية تكفل لهم البحث بحرية، وهو ما يهدد مصداقية البحث العلمي في مقتل، بل ويدفع بعض العلماء إلى التحذير من مستقبل تكون فيه الأبحاث العلمية تحت رحمة الشركات بالكامل، وتكون النتائج النهائية دائمًا غير متعارضة مع الأرباح العملاقة التي تحققها تلك الشركات.
إسراء فاروق الجزار