لغة العصر في مأزق: هل تنتهي هيمنة الإنجليزية على العلوم؟
لغة واحدة تسيطر على جميع جوانب عالمك، بدايةً من الألعاب الإلكترونية إلى آخر الطفرات العلمية المتعلقة بمجال عملك، مرورًا بالمعلومات البسيطة التي ترغب في معرفتها من غوغل، هذه هي اللغة الإنجليزية.
بالإنجليزية، تُنشر أكثر من 75% من الأوراق العلمية، وتتجاوز النسبة في مجالات بعينها 90%، لكن سؤالًا ألحَّ بشدة على فريق من العلماء: ماذا عن الأبحاث العلمية المنشورة بغير اللغة الإنجليزية؟ أليس من الممكن أن تحمل بين سطورها معلومات شديدة الحساسية حُجِبت عن المجتمع العلمي، ولن نغالي إن قلنا عن البشرية بأكملها، لأنها لم تدوَّن بلغة العصر؟
ما سوى الإنجليزية: العلم المفقود
جذب مقال على موقع جامعة كامبريدج الإنجليزية انتباهنا إلى دراسة حديثة كشفت حجم الأبحاث المهمة التي لا يعرف عنها الباحثون أي شيء رغم وجودها تحت أعينهم.
نسبة لا يُستهان بها من الأبحاث العلمية المنشورة مكتوبة بلغات غير الإنجليزية، ورغم قلة هذه النسبة مقارنةً بما يصدر سنويًّا باللغة الأكثر انتشارًا في العالم، إلا أنها تُعدُّ عائقًا حقيقيًّا أمام التقدم العلمي، لأن النتائج التي توصل إليها بعض العلماء تكون بعيدة عن متناول الغالبية، ممَّا يضطرهم إلى بذل مجهود إضافي هم في غِنًى عنه للتوصل إلى النتائج نفسها، في حالة تمكُّنهم من الوصول إليها في الأساس.
كيف يتأقلم العلماء غير الناطقين بالإنجليزية مع عدم توافر المعرفة العلمية إلا بلغة يجهلونها؟
اتفاق المجتمع العلمي على لغة واحدة مشتركة لتناقل أحدث النتائج يبدو في ظاهِرِه الطريق الأمثل لتحقيق أكبر استفادة من جهود العلماء حول العالم، ولكن لا يمكن غض النظر عن أنَّ كون الإنجليزية لغة العلم الأولى يُعدُّ حاجزًا أمام مشاركة المعرفة التي توصل إليها الباحثون في المجال الواحد مع الناطقين بلغات مختلفة.
اقرأ أيضًا: هجرة العقول: «تركيا إردوغان» تطارد علماءها
هنا تظهر مهمة المؤسسات الثقافية لكسر حاجز اللغة، فعلى المجلات العلمية أن تعرض ملخصات لنتائج الأبحاث الرئيسية في عدة لغات ضمن إصداراتها، ليتمكن كل متخصص من معرفة خلاصة البحث على الأقل، طالما لن يكون في استطاعته الاطِّلاع على محتواه من الألف إلى الياء، بالإضافة إلى دور الجامعات والمنظمات المموِّلة للأبحاث العلمية في تشجيع ترجمة المحتوى العلمي واعتباره جزءًا من عملية تقييم البحث.
ثُلث الأبحاث العلمية مجهول لقارئي الإنجليزية
يا تُرى، كيف يتأقلم العلماء في البلاد غير الناطقة بالإنجليزية مع عدم توافر المعرفة العلمية التي يحتاجونها إلا بلغة يجهلونها؟ خصوصًا في بعض المجالات العلمية التي تشترط وجود خبراء محليين لإجراء دراسات ميدانية للخروج بأدق نتائج ممكنة، مثلما يحدث في علوم البيئة، التي تركز على أنواع الأحياء المحلية وموطنها ونظامها البيئي.
قد يعجبك أيضًا: ماذا تعرف عن مشاعر الأشجار وذكرياتها؟
هكذا، قرر القائمون على هذه الدراسة في جامعة كامبريدج استطلاع رأي المسؤولين عن المحميات الطبيعية في إسبانيا، وتسجيل آرائهم كنموذج للعاملين في مجال علوم البيئة. وبالفعل، أكد أغلب المشاركين في الاستطلاع أن الاعتماد على لغة بعينها في مجال البحث العلمي يمثل لهم عقبةً في تطبيق أحدث التقنيات العلمية في إدارة البيئة والموارد الطبيعية على وجه الخصوص.
لم تقف الدراسة عند هذا الحد، بل لجأ القائمون عليها إلى محرك بحث غوغل العلمي (Google Scholar)، وهو مكتبة إلكترونية عامة تضم قدرًا هائلًا من الوثائق العلمية، كي يحصروا عدد اللغات المستخدَمة في الأبحاث المتعلقة بعلم المحافظة على التنوع البيولوجي لعام 2014.
13 ألف مستند عن التنوع البيولوجي لن يظهر على غوغل بالإنجليزية، غير أفرع العلوم الأخرى.
من ضمن 16 لغة استُخدمت في كتابة هذه الأبحاث، وأكثر من 75 ألف وثيقة متنوعة ما بين كتب وأبحاث ومقالات، وجد باحثو كامبريدج أن 35.6% من الأوراق العلمية نُشرت بلغات غير الإنجليزية، فحازت اللغة الإسبانية النصيب الأكبر بنسبة 12.6%، تليها البرتغالية 10.3%، ثم الصينية 6%، والفرنسية 3%، بجانب مئات الوثائق المدونة بالإيطالية والألمانية واليابانية والكورية والسويدية.
حتى هذه اللحظة لم يتعرض الباحثون للصدمة الكبرى، فبعدما اختاروا عينة عشوائية من الأبحاث غير الإنجليزية، اكتشفوا أن نصفها فقط مُعَنْوَن أو يشتمل على ملخصات باللغة الإنجليزية، ممَّا يعني أن السحر انقلب على الساحر، فمثلما حُرم غير الناطقين بالإنجليزية من الإلمام بآخر التطورات العلمية، جاء وقت الناطقين بالإنجليزية ليُحرَموا من 13 ألف مستند يدور حول المحافظة على التنوع البيولوجي، لن يظهر عند البحث على غوغل بلغتهم، وما خَفِي عنهم في أفرع العلوم الأخرى كان أعظم.
قد يهمك أيضًا: تعرَّف إلى دماغ «غوغل» والعقول التي تقف خلفه
نحتاج لغة دولية للعلم
استند الباحثون إلى افتراض مفاده أن كل ما كُتب بالإنجليزية صحيح بالضرورة، وراودتهم هذه القناعة نتيجةً لهيمنة اللغة الإنجليزية على المواد التي يلجأون إليها في دراستهم، فغفلوا عن إمكانية وجود أبحاث مخالفة تعارض الشواهد التي يستندون إليها، ولكنها معروضة بلغة أخرى فلا يقدرون على الاطِّلاع عليها بسهولة. وقد أسهم في رسوخ هذه القناعة تقليل المجلات الأكاديمية والدوريات العلمية، التي يسيطر على صفحاتها المحتوى الإنجليزي، من قيمة الأوراق البحثية المقدمة بلغات أخرى.
ربما اتُّخذت خطوات لكسر عائق اللغة في فرع التنوع البيولوجي، بإنشاء منصة إلكترونية عالمية لاستخلاص أهم الأوراق البحثية التي صدرت في هذا المجال بلغات غير الإنجليزية، لكن حواجز اللغة لا تزال تمتد إلى علوم الأمراض والأدوية.
أحد أهم الأمثلة على الكوارث التي ربما تسببها هذه المسألة، عندما بدأ انتقال عدوى إنفلونزا الطيور إلى الخنازير في الصين، إذ لم يدْرِ المجتمع العلمي الدولي ما يدور هناك، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، رغم صدور أبحاث باللغة الصينية تشير إلى الظاهرة.
يحتاج العالَم إلى عبقري يخترع وسيلة لدمج اللغات مع بعضها وتركيب لغة عالمية موحدة.
إن إشراك الباحثين المتكلمين بغير الإنجليزية، خصوصًا المتحدثين بالأربع لغات التي تغطي غالبية الأوراق العلمية المهدَرة، الإسبانية والبرتغالية والصينية والفرنسية، يساعد على الحدِّ من مشاكل حواجز اللغة عند المتخصصين بمختلف جنسياتهم عند إجراء دراسة منهجية للأبحاث في مجال معين، أو تطوير البيانات على مستوى دولي.
هذه المشكلة ذات حدَّين، وجميع أطرافها خاسرون، سواء العلماء الذين يتقنون الإنجليزية أو من يتحدثون بغيرها، لكن الخاسر الأعظم في النهاية هو البشرية.
يحتاج العالَم إلى عبقري يخترع وسيلةً لدمج اللغات مع بعضها وتركيب لغة عالمية موحدة، تمنع إهدار أدنى قدر من الجهود العلمية، وتوحِّد جهود تحسين سُبُل الحياة في الوقت المتبقي للإنسان فوق هذه الأرض، فهل تكون هذه هي «الإسبرانتو»؟
ندى حنان