لم يكُنَّ نساء فقط: رجال دفعوا ثمن دعم حق السعوديات في القيادة
ضجَّت شبكات التواصل الاجتماعي بعبارات التهاني بمناسبة السماح للمرأة السعودية بالحصول على حقها في استصدار رخصة قيادةٍ للسيارة، وذلك «على حد سواء» بالرجل، بعد سنوات اعتُبر فيه الملف شائكًا محليًّا ومحرجًا للمسؤولين على المستوى العالمي. أشاد الناس بفتيات مثل لجين الهذلول وميساء العمودي ومنال الشريف، لكن الحديث عمَّن تصدروا المشهد منذ البدء في عام 1990 كان قليلًا.
فإلى جانب النسوة الـ47 اللاتي كسرن الحاجز وخرجن إلى الشارع يقُدن سياراتهن في ذلك اليوم من نوفمبر 1990، هناك شخصيات أخرى غَفِل عنها تأريخ تلك الفترة، أزواج أولئك النساء، الذين كانوا في الكواليس يدعمون التحرك ويتابعونه منذ لحظة التخطيط إلى التنفيذ، في نفيٍ تامٍّ لفكرة وجود صراع بين الرجل والمرأة في هذا الحق وغيره، وتأكيدًا لأنها أزمة أنظمة، وقرار زوالها بيد السياسي وحده.
الحراك في التسعينيات كان الأساس، والأصعب. لم يكن ثَمَّة منظمات دولية تدعم الحقوق، لم يكن إنترنت ولا مواقع تواصل تنقل ما يحدث في ثوانٍ. الخطر كان أكبر، وفي مجتمع خليجي، مخاطرة الرجال كانت أعظم، ويكاد يكون عملًا بطوليًّا أن يؤمن الرجل بقضية امرأته ويقف معها.
1990: أسبوع من القيادة
في تلك المرحلة، كانت المملكة تحتضن قوات التحالف التي تحرر الكويت من الغزو العراقي. تطلَّب هذا حشد آلاف الرجال على الجبهة ليحموا السعودية، وهو ما تسبب في ترك منازل عدة دون قائدٍ للسيارة. في تلك اللحظة التاريخية استجاب أولئك الرجال لفكرة الخروج، ووقفوا في الصف الثاني وقدَّموا نساءهم ليؤدوا مهمة المطالبة بحقوقهن.
قدَّم الرجال المشورة والتسهيلات، ولم يقتصر الأمر على التوجيه، بل أقدم بعضهم على النزول إلى الشارع وتشكيل نقاط مراقبة أمنية لتوَخِّي أي طارئ قد يحدث، وهو ما حدث بالفعل كما كان متوقعًا عن طريق بعض الجمهور وجهات أمنية، في مقدمتها الشرطة والجهاز النشط في حينها «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ظلت خيوط الحكاية تُنسَج لعقود دون الإشادة بالدور الذي لعبته مساندة رجال تلك النسوة في التصدي لمضايقات ومتاعب لا تقل أحيانًا عن النساء، بل في مواضع أخرى كانت أشد وأنكأ. فبينما الدوائر البشرية تحيط بالنساء وهن خلف المقود، وتدفعهن إلى مركز شرطة السليمانية للتحقيق معهن، استُدعي أيضًا جميع أزواجهن، سواء الموجودين في الشارع أو الباقين في منازلهم، من أجل كفالة النساء وتوقيع تعهدات خطيَّة تتضمن علمهم وموافقتهم على تلك الخطوة.
اقرأ أيضًا: كيف تحيا المرأة السعودية تحت ولاية الرجل؟
انتشرت أسماء النساء والرجال المشاركين في التحرك، ووُزعت كمنشورات تشير إليهن كـ«علمانيات» و«شيوعيات» و«أمريكيات».
رغم قلة وسائل التواصل وقتها، انتشر الخبر وذاع سريعًا في مناطق المملكة، وذلك بعد أن شارك رجال الهيئة في توقيف النساء، ثم مرافقتهن إلى مركز الشرطة وتقريعهن وتوبيخ رجالهن. لكن رد الفعل المبالَغ فيه من عناصر الهيئة، بالتعدي على صلاحيات الشرطة، دفع الشرطة إلى منع رجال الأمر بالمعروف من الدخول بعد أن أدَّوا الصلاة في مسجد محاذٍ للمركز.
بسبب هذا، وصل الأمر إلى المفتي العام في حينها، الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي اتصل على الفور بالمسؤولين وطلب منهم إيضاح ما جرى، فطمأنه وكيل إمارة الرياض وقتها عبد الله البليهيد، وأكد له أن الأمر تحت السيطرة وأنه ذهب بنفسه إلى مركز الشرطة لمتابعة ما يجري.
من مجلس بن باز ذاع الخبر في أرجاء البلاد أن نسوةً هتكن العرف وارتكبن محظور قيادة السيارة، وفوق ذلك أن أزواجهن كُنَّ على علم، بل دفعنهن إلى ذلك دفعًا. انتشرت أسماء النساء والرجال، ووُزعت كمنشورات توضح اسم المرأة ومكان عملها، والرجل ومكان عمله، بالإضافة إلى توضيح توجهه الفكري عن طريق صفة سلبية، مثل: «علماني»، «شيوعي»، «أمريكي».
هذا الضغط الاجتماعي المتراكم كان سببًا في توتر المعنيين بالقيادة، النساء أولًا ومن خلفهن الرجال. فبينما كانت الأمور تسير في الاتجاه الآمن، بالاكتفاء بتعهد خطي للنساء والرجال بعدم تكرار ما وقع، دفع العدد المهول الذي أبرق في حينها إلى الديوان الملكي يستنكر ما وقع، إلى أن تتغير قواعد اللعبة وتصدر القرارات التالية:
فُصل جميع النساء اللاتي شاركن في قيادة السيارات من أعمالهن، وضُيِّق على أزواجن في أعمالهم وهُدِّدن بالعقوبة. كذلك، أصدر مدير جامعة الملك سعود، الدكتور محمد الضبيب، بيانًا تبرَّأ فيه من الأستاذات اللاتي قُدن، وتضمن البيان عبارات كانت موجعة للسلك الأكاديمي، لأن أغلب من خرجن في المظاهرة كُنَّ وأزواجهن من أعضاء هيئة تدريس الجامعة.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل أصدر بن باز فتوى تحرم قيادة السيارة على المرأة. واستنادًا إلى الفتوى، أصدرت وزارة الداخلية بيانًا يحظر القيادة على النساء، ويتهدد ويتوعد من تخالف «بالضرب بيد من حديد».
أسماء العبودي: شاهدة على تاريخ أفَل
«قرار السماح للمرأة بالقيادة تأخر كثيرًا، إلا أن صدوره أزال الغُمَّة عن صدورنا» - العبودي.
في العام 1990 كانت أسماء العبودي لا تزال في مقتبل العمر، ومغريات الحياة تلاحقها من كل جانب في حدود المتاح، لكن ذلك لم يمنعها من أن تكون شريكة في حركة ستكون حدثًا تاريخيًّا، يُسهِم في منح بنات جنسها مزيدًا من الحقوق: النزول لقيادة السيارة في شوارع الرياض. لم تشترك العبودي فقط في الحدث، بس تصدر اسمها القوائم التي وُزِّعت في منشورات وقتها.
تتذكر «أم نواف»، مثلما يروق لها أن تتفاخر باسم ابنها الطبيب، ما جرى في ذلك اليوم. تروي في حديثها لـ«منشور» أنها تعتبره «تاريخًا أُفاخر به رغم ما لحق بنا كمجموعة من تشويه، فأسرتي واجهت متاعب جمة. تعرُّضنا لعقوبة جماعية كان متوقعًا، ومن الطبيعي أن يرى بعض الناس ما فعلناه نقطة سواد في حقنا، لكننا كنساء أخذنَ مبادرة القيادة نرى أننا أضأنا شمعة في أول الطريق، حتى صدر القرار بالسماح بالقيادة أخيرًا».
لقاء غير متوقع مع أمير الرياض
الأزواج، الذين كانوا قد بدؤوا يتنفسون الصعداء ويعتقدون أن الأمر مرَّ بسلام، عرفوا وقتها أن أمير الرياض، سلمان بن عبد العزيز، طلبهم في قصره.
«شُتِمنا على المنابر دون رقيب بتهمة الوقوف خلف نسائنا للمطالبة بحقٍّ مثل قيادة إلى السيارة».
يروي أحد الحضور لـ«منشور» أن كل الرجال كانوا هناك، وبدا سلمان غاضبًا لكنه سلَّم عليهم جميعًا، ثم قال بشكل مباشر إن ما حدث ما كان يجب له أن يحدث، وإنه خطأ سيضر المجتمع، ثم طالب الرجال بأداء دورهم، وحذرهم وهددهم بالسجن.
خرج هذا الزوج، الذي طلب عدم ذكر اسمه، من مجلس الأمير وهو يظن مثلما ظن الباقون أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن العجلة استمرت في الدوران. فبعد اللقاء بعدة أيام، استدعت جهة أمنية النساء للتحقيق معهن في وزارة الداخلية، واشترطت حضور أزواجهن.
يذكر الرجل أن التحقيق كان مزعجًا، بسبب «ما كان يلجأ إليه بعض المحققين من لغة لا تليق ولا تحترم آدمية الإنسان». وانقضى الوجع بإبلاغ النساء والرجال «على حد سواء» بمنعهم من السفر، وهو ما استمر لبضع سنوات ثم رُفِع، مع تكرار كتابة تعهد بعدم إعادة الكرة والامتثال للأنظمة التي تحظر قيادة المرأة.
كانت أيامًا عصيبة، فـ«المجتمع يحاصرك وزوجتك بتُهَم التخوين والتشكيك في أخلاقياتكما، وكنا نُشتم في منشورات توضع في صندوق بريد الجامعة وأمام باب المنزل، وكذلك شُتمنا على المنابر دون حسيب ولا رقيب، وكانت التهمة وقوفنا خلف نسائنا لتحويل حقٍّ مثل قيادة إلى السيارة إلى واقع.»
اقرأ أيضًا: نضال المرأة السعودية لقيادة السيارة ينتهي إلى «الغضب الصامت»
يؤكد الرجل أنه لم يندم على ما قدمه، رغم التضييق عليه وظيفيًّا ومطاردته بالألفاظ النابية من مسؤولين وحتى رجل الشارع البسيط، لأن «الإيمان بالحقوق لا يتجزأ، وما مررت به كان تضحية ضرورية للوصول إلى ما نحن فيه الآن، وهي خطوة ضمن خطوات إصلاحية لتمكين المرأة من إسقاط الولاية عنها، كي تكون فعلًا هي والرجل على حد سواء في الحقوق والواجبات».
أما العبودي، التي تقاعدت من سلك التعليم قبل بضع سنوات، فترى أن القرار «تأخر كثيرًا، لكن صدوره أزال الغُمَّة عن صدورنا، فوطننا يمر بتحولات كبيرة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، ومواكَبة هذه التحولات تتطلب سواعد نساء الوطن ورجاله»، باعتبار النساء السعوديات «قادرات على القفز سريعًا، وطموحاتهن لا حدود لها وتكاد تلامس السماء، والأجيال الشابة القادمة ستدهش العالم بإنجازاتها».
عبد الله الدحيلان