شمشون الجبار: ثلاث روايات لبطل واحد
«عليّ وعلى أعدائي»، مثل شعبي يعني «سأهدم كل شيء، ولتحل المصيبة بي وبأعدائي»، أي أنه يصوِّر الرغبة في إيذاء العدو/الخصم حتى لو تسببت في هلاك المؤذي نفسه.
هذا المثل ارتبط في الموروثات الشعبية بشخصية «شمشون الجبار». وهو كما تروي القصص المتناثرة هنا وهناك رجل خارق القوى يكمن سر قوته في شعره الطويل، لكنه مع ذلك شديد السذاجة، ما يدفع أعداءه إلى أن يسلطوا عليه امرأة داهية هي «دليلة»، توقعه في حبها، وتجعله يعترف لها بسر قوته، فتقص له شعره في أثناء نومه، وتسلمه إلى أعدائه، وبينما هم يحتفلون به يهدم عليهم المعبد صائحًا: «عليّ وعلى أعدائي يا رب».
في هذه القصة، المنتشرة شفهيًّا أكثر من كونها مكتوبة، نجد نموذج «قوي العضلات ساذج العقل»، وهو من النماذج المحببة للقَصَص الشعبي. ونجد كذلك نموذجًا لا يقل شعبية هو «المرأة الجميلة المحتالة التي تذل أعناق الرجال»، وهي دليلة، حتى أن شخصية دليلة هذه قد عرفت طريقها بعد قرون إلى السيرة الشعبية لشخصية «علي الزيبق»، فهي تظهر باعتبارها المرأة الداهية «صاحبة الملاعيب» عدوة الزيبق.
هكذا تناول الموروث الشعبي شخصية شمشون دون أن يبحث لها عن أصل تاريخي، ذلك الأصل الذي خلّده القَصَص الديني التوراتي في «سِفر القضاة» في العهد القديم، ثم التحليلات المسيحية للقصة، وأخيرًا بعض القَصص الديني الإسلامي الموصوف بأنه «متأثر بالإسرائيليات».
شمشون في العهد القديم
في «العهد القديم» من الكتاب المقدس، وتحديدًا في «سِفر القضاة»، نقرأ أن «شمشون الجبار» كان شمشون بن مناح، أحد قضاة بني إسرائيل (الحكام الدينيون لبني إسرائيل في المرحلة بين وفاة النبي موسى وتتويج الملك طالوت)، تولى منصبه مدة 20 عامًا، وتزوج امرأة فلسطينية على غير رغبة أبويه، وبالمخالفة للقانون.
وفي أثناء ذهابه إلى مدينة زوجته للاحتفال بالزفاف قابل أسدًا وقتله، ثم وجد عسلًا في جسد الأسد، فأكل منه. وفي الزفاف وعد الفلسطينيين بهدية ثمينة لو حلُّوا أحجية (لغز) ابتكرها من واقع تلك الحادثة، وأمهلهم سبعة أيام مدة ولائم الزفاف.
حار الفلسطينيون في حل الأحجية، فذهبوا إلى عروسه وسألوها أن تستدرجه لمعرفته، وبالفعل باح لها بالحل، فأخبرتهم، فأجابوه، فعرف بأمر إفشاء عروسه السر وأهدى إليهم الهدية، لكنه قتل منهم 30 شخصًا، وهجر عروسه الخائنة.
ثم بعد فترة أراد مصالحتها، لكنه وجدها تزوجت غيره ورفضت مقابلته، فاصطاد 300 من حيوانات ابن آوَى وأشعل النار في أذنابها، وأطلقها على مَزارع الفلسطينيين لتحرقها، فانتقم هؤلاء بأن هاجموا عروسه السابقة وأهلها، وأحرقوهم بالنار.
باحت دليلة بالسر للأعداء، فاستغلوا نوم شمشون وجزُّوا شعره، ثم قيدوه، وانتزعوا عينيه، ونظموا الاحتفالات بهزيمة عدوهم.
ثم لام اليهود على شمشون أنه أثار عليهم الفلسطينيين، فعرض على قومه أن يقيدوه ويسلموه إلى أعدائهم ليكُفُّوا عنهم، وبالفعل سلّمه قومه إلى الفلسطينيين، وما أن أحاطوا به حتى مزق قيوده، وتناول عظم فك حمار وقاتلهم به حتى قتل ألفًا منهم، ثم أحس بالعطش، ففجر الله له الماء من العظم الممسك به.
بعد ذلك ذهب شمشون إلى مدينة غزة الفلسطينية، حيث تعرف إلى واحدة من البغايا اسمها دليلة، وأحبها إلى حد أنه كان يبيت عندها. فلما عرف أعداؤه ذلك أغروا دليلة بالمال كي تحتال لمعرفة سر قوته الخارقة، فتدللت عليه وسألته عمّا يمكن أن يقيِّد قوته، فحاول مخادعتها وأخبرها أول مرة أنه يضعف إذا شُدّ وثاقه بسبعة أحبال من الكتان.
فاستغلت نومه وربطته بها، فقام فمزق الحبال.
ثم أعادت الإلحاح عليه، فقال لها إنه يضعف إذا شُد وثاقه بحبال حديدية لم تُستخدم من قبل.
فاستغلت نومه وربطته بها، فقام فمزق الحبال.
فعادت إلى إلحاحها عليه، فقال لها إنه يضعف إذا قُيدَ بحبال آلة النسيج، فقيدته بها في أثناء نومه.
تكرر قطع الحبال وإلحاح دليلة، فاعترف لها بأنه منذور إلى الله منذ كان في بطن أمه، وأن المَلَك قد وعد الأم بأن يكون ابنها قويًّا شريطة أن لا يحلقوا شعره.
باحت دليلة إلى الأعداء بالسر الخطير، فاستغلوا نوم شمشون، وجزُّوا شعره، ثم قيدوه، وانتزعوا عينيه، ونظموا الاحتفالات بهزيمة عدوهم وسقوطه في أيديهم، وكانوا يربطونه إلى الطاحون ليدور به كما يفعلون بالبهائم.
شمشون في القصة المسيحية يرمز للعقل، بينما دليلة هي الجسد، واستسلامه لها رمز لضعف العقل أمام الجسد.
وفي يوم الاحتفال الكبير بالنصر، قاد الفلسطينيون شمشمون الأسير إلى معبد إلههم «داجون» (إله الخصوبة والزرع)، واحتشد منهم ثلاثة آلاف ليشاهدوا الجبار الذي صار أسيرًا أعمى وهو يُلعَب به.
فلما دخل شمشون إلى المعبد تضرع إلى الرب أن يمنحه القوة مرة أخيرة للانتقام من أعدائه، فاستند إلى اثنين من أعمدة المعبد وصاح: «لِتَمُت نفسي مع الفلسطينيين»، ثم دفعهما ليسقط البناء على كل من فيه، ويموتون جميعًا.
التحليل المسيحي لقصة شمشون
التحليل المسيحي لقصة شمشون لا يتوقف عند الأحداث، بل يتخطاها إلى ما وراء السطور من «رسائل» تهذيبية وإيمانية.
فالقديس «أغسطينوس» يرى أن ذهاب شمشون إلى بيت بائعة الهوى لم يكن لارتكاب خطيئة الزنا، وإنما لأنه أراد أن «يخلصها من الخطيئة»، خصوصًا أن النصوص لم تورد ما يفيد أنه «اتحد معها»، أي ضاجعها.
بعض الآباء اختلفوا مع تحليل أغسطينوس، ورأوا في الذهاب إلى دليلة تصرفًا غير لائق. ومنهم القديس «أمبروسيوس»، الذي يقول إن شمشون تغلب على الأسد، لكنه لم يتغلب على هواه، وإنه قطع الحبال القوية، لكنه لم يقطع حبال شهواته. والقديس «يوحنا ذهبي الفم» يقول إن كثيرًا من الرجال هلكوا بالمرأة مثل شمشون، ليس لزواجهم، وإنما لرغباتهم المنحلة. بينما يؤمن «الأب أفراهات» أن العدو حارب شمشون بالمرأة حتى جعله يخالف نذره للرب.
نعود إلى القديس أغسطينوس، الذي يقول ما معناه إن شمشون في القصة يرمز إلى العقل، بينما ترمز دليلة إلى الجسد، واستسلامه لدليلة وضعفه أمامها رمز لضعف العقل أمام الجسد، فينبغي على الإنسان أن يروِّض جسده، ويُعلي من عقله.
رمزية كُمُون مصدر قوة شمشون في شعره، وفقًا لأغسطينوس، هي أن الشعر غطاء رأس الإنسان، فهو كالشريعة، وإذا انتُزع منه ضعف.
أما إفقاد الفلسطينيين شمشون بصره وربطه في الرحى الدائر، فكان كفعل الشيطان في الإنسان: يعمي بصيرته، ويجعله كالبهائم يدور حول نفسه إلى ما لا نهاية.
يقارن القديس أغسطينوس بين قصتي شمشون والمسيح، فدليلة في قصة شمشون تعادل المَجمَع اليهودي الذي حاكَم المسيح وأسلمه إلى الصّلب. وإصابة شمشون بالعَمَى رمز للمسيحي الذي آمن، لكنه فقد إيمانه عندما لم يصبر. أما بسط شمشون ذراعيه لهدم المعبد، فهو كشد المسيح على الصليب ليهدم بصلبه بيت الشيطان.
هكذا حوّلت المسيحية قصة شمشون إلى نوع من «الأدب التهذيبي» أكثر من كونها سيرة لشخصية توراتية.
شمشون في الموروث الإسلامي
في بعض تفسيرات القرآن نجد تلميحات لشخصية شمشون، تحديدًا في تفسير آية «ليلة القدر خير من ألف شهر».
نقرأ في تفسير الطبري أن «ألف شهر» تشير إلى رجل من بني إسرائيل كان يقوم الليل، ثم في النهار يجاهد العدو، ففعل ذلك ألف شهر. وينقل ابن كثير نفس التفسير في شرحه الآية في كتابه «تفسير القرآن العظيم».
ويكرر القرطبي نفس القصة، فيقول إن الرسول محمد أخبر المسلمين عن رجل لبس السلاح للجهاد مدة ألف شهر.
وفي كتابَيْ «تاريخ الأمم والملوك» للطبري و«عرائس المجالس» للثعلبي النيسابوري، نقرأ عن شمشون الذي يصفه النيسابوري بـ«النبي».
المعالجة الإسلامية للقصة تلائم الميل إلى النهايات المُرضِيَة، فهذه هي «النسخة» الوحيدة من قصة شمشون التي ينجو فيها ويعود له بصره.
رواية الثعلبي النيسابوري أكثر استفاضةً من رواية الطبري، إذ يقول إن اسمه كان شمسون بن مسوح، وإنه كان «مؤمنًا من أهل الإنجيل يعيش في بعض قرى بلاد الروم»، وكان قومه يعبدون الأوثان، فكان يَغِير على الوثنيين فيحاربهم بعظم بعير حتى يقتل منهم كثيرًا، وبقي كذلك ألف شهر، ولهذا يُضرَب بالألف شهر المثل في القول «خير من ألف شهر».
احتال القوم حتى وصلوا إلى امرأة شمشون، وقدموا إليها رشوة لتقيِّده لهم في أثناء نومه، فقيدته بحبل، فلما قام من نومه قطعه، وسألها عن ذلك فأجابته: «أجرب قوتك، فإني لم أر مثلك قط»، ثم كررت المحاولة بالقيود الحديدية، فقام وقطعها، وسألها عن سبب ذلك فأعادت الإجابة.
ألحّت المرأة في سؤاله، فقال لها إنه لا يقيده سوى شعره الطويل. فأخذت خصلات من شعره وقيدته بها في نومه، وبعثت إلى قومه فجاؤوا وأسروه.
وفي الأسر اقتلعوا عينيه وقطعوا أذنيه وأنفه، ثم قادوه إلى وسط المدينة يعرضونه على الناس، وكانت مدينة قائمة على الأعمدة، فتناول عمودين، ثم دعا الله أن يرد عليه قوته، وجذب العمودين فانهارت المدينة كلها، وهلك القوم ومنهم امرأته، أما هو فنجا، وأعاد الله إليه بصره وما فقد من جسده.
هذا كانت المعالجة الإسلامية لقصة شمشون، وهي معالجة تلائم ميل رواة القَصَص الديني إلى أن تكون النهاية مُرضِيَة، فهذه هي «النسخة» الوحيدة من قصة شمشون التي ينجو فيها ويعود له بصره، بينما ينزل العقاب بكل أعدائه.
يحلل الدكتور عبد الوهاب المسيري، في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، قصة شمشون بأن الكتابات الصهيونية تفسرها باعتبارها «نموذجًا للتحذير من الاندماج مع الأغيار، الذين تمثلهم النساء الفلسطينيات».
في عام 2010، وعلى بُعد 36 كيلومترًا من غزة والخليل، عثرت بعثة إسرائيلية على بقايا معبد «داجون» الذي يُفترَض أن شمشون دمره. تبيّنت البعثة أن تدميره كان نتيجة تعرضه لزلزال مدمر قبل 2900 عام. لكن عالم الآثار الإسرائيلي «آرن مائير» سارع إلى القول بأن هذا المعبد ليس بالضرورة ذلك الذي دمره شمشون.
في كل الأحوال، وبغض النظر عن مدى دقة ما بلغنا من قصة شمشون، فإن «رسالتها» «عليّ وعلى أعدائي»، أو ما يصفه المسيري بـ«الانفجار الأخير الذي قد يقضي على الذات، لكنه يقضي على الآخر أيضًا»، بقيت بعد ذلك أسلوبًا لتفكير كثيرين، ونمطًا مألوفًا في صراعات عدة.
باختصار، تحول شمشون من «شخصية محل جدل» إلى «فلسفة حياة» وأمرًا واقعًا بالنسبة إلى أناس أكثر عددًا من أولئك الذين يتجادلون حول ماهيته وقصته.
وليد فكري