هكذا وجد العلماء الله في مخ الإنسان
لطالما اعتُبر المصابون بتلف في الدماغ عينةً بحثيةً مهمةً لعلماء الأعصاب، فقد أدت الدراسات التي أجريت عليهم على مدى سنوات إلى تحديد أجزاء الدماغ التي تدخل في أنشطة عديدة، وذلك عن طريق رصد القدرات التي يفتقرون إليها واستنتاج المناطق الدماغية المقابلة لها.
يقدم العمل مع هؤلاء المرضى فرصة للخوض في موضوع كثيرًا ما حيَّر العلماء، فالمعطيات التي استخلصوها من هذه العينات مكَّنتهم من الربط بين التجارب الدينية والروحية ومناطق معينة في المخ.
بهذا الصدد، تعرض الكاتبة في مجال العلوم «شايلا لوف»، في مقالها المنشور على موقع «Vice»، عددًا من الدراسات التي تلقي الضوء على العلاقة بين الدماغ والإيمان، والتي قد تصلح لتفسير مصدر التطرف الديني.
الاقتراب من الله
أظهر الدماغ في بعض التجارب الدينية نشاطًا بالفصين الجبهي والصدغي، فصار هاجس الباحثين تحديد مناطق الدماغ المتدخلة في التدين.
بحث علماء الأعصاب عن الأساس العصبي للدين طويلًا، وعن طريق أبحاثهم على مرضى الصرع، وبالتحديد مَن يؤثر المرض في الفص الجبهي والفص الصدغي لأدمغتهم، توصلوا إلى صياغة فرضية تقول إن هذه المناطق الدماغية مسؤولة عن التجارب الدينية.
في عام 1970، تعقَّب الطبيب النفسي «كينيث ديوهيرست» وأحد زملائه التحولات الدينية المفاجئة عند من يعانون صرعًا على مستوى الفص الصدغي، ووجدا أنه من أصل 69 شخصًا مصابًا بالصرع، ظهرت علامات التدين على 26 منهم، مع أن ثمانية فقط كانوا متدينين قبل مرضهم. وفي الورقة البحثية التي أعداها، وثَّقا سِت قصص لتجارب دينية عنيفة تتوافق مع ظهور نوبات الصرع.
ينقل المقال حكاية أحد الأشخاص الذين مروا بهذه التجربة، إذ شعر فجأةً أنه داخل حلم بعد أن عانى من نوبة صرع حادة ذات يوم، ولمح ضوءًا في الأفق بدا له أنه نور الله. جعله هذا يوقن أن المعرفة التي اكتسبها خلال هذه التجربة ستمده بالقوة، وما عليه إلا أن يسأل الله إجابة دعوته، وبعدها توالت الرؤى، وفي إحداها تجلى أمامه كتاب يحتوي صفحة ممزقة وبندولًا يتأرجح، كان من شأن توقفه أن يؤذن بنهاية العالم.
قد يعجبك أيضًا: لماذا يعود بعض الملحدين إلى الدين؟
بيَّن التخطيط الكهربائي للدماغ أنه في الحالات الست المدروسة أظهر الدماغ نشاطًا على مستوى الفصين الجبهي والصدغي. ومنذ ذلك الحين، صار هاجس الباحثين تحديد المناطق الدماغية المتدخلة في التدين، وتفسير كيفية حدوث هذا الأمر.
هل مصابو الصرع أكثر تدينًا؟
بعد ذلك بسنوات، أعلن عالم الأعصاب «فيلايانور راماشاندران» أن المشاعر الدينية قد تكون متجذرة في الجهاز الحوفي للدماغ، بطريقة تجعل أي تغيير يطرأ على مستوى هذا الجهاز، نتيجة الصرع مثلًا، قد يؤثر في قدرة الأفراد على تحديد الأمور التي لها قيمة روحية في حياتهم والأمور التي ليست كذلك.
دفعت التجارب العلمية بعض الناس إلى التساؤل عمَّا إذا كانت هناك «شبكة عصبية للدين»، وفي حالة وجودها، فأين تقع في الدماغ؟
اختبر راماشاندران التغيرات الطفيفة التي تحدث على سطح الجلد لشخصين يعانيان مرض الصرع، لتحديد التأثير الذي تُحدثه مشاهدة صور مختلفة وسماع كلمات معينة، مثل صور وكلمات ذات دلالات دينية، وصور الأصدقاء والعائلة، وصور الطبيعة، وصور وألفاظ جنسية، على الجهاز العصبي.
توصلت هذه التجربة إلى أن المصابين بالصرع كانت استجابتهم للصور الدينية أقوى من استجابتهم لباقي الصور التي عُرضت عليهم، فحتى المظاهر الجنسية التي عادةً ما تثير استجابة قوية، انخفض تأثرهم بها بشكل ملحوظ، كما لو أن أدمغتهم انتقت الاستجابة للمظاهر الدينية فقط.
خلص راماشاندران بحسب المقال إلى أسئلة أكثر من التي بدأ بها، فقد دفعته التجربة إلى التساؤل عمَّا إذا كانت هناك «شبكة عصبية للدين»، وفي حالة وجودها، فأين تقع في الدماغ؟ تساءل كذلك عن إمكانية تحويل الملحدين إلى متدينين إذا تم تحفيز أدمغتهم بطرق معينة.
فرادة التجربة الدينية
في عام 2006، وفي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، أجرى كلٌّ من الباحث في علم الأعصاب «ماريو بوريغارد»، والطبيب النفسي «فنسنت باكيت»، تجربة على 15 راهبة لتحديد المناطق الدماغية المسؤولة عن التجارب الدينية.
طلب بوريغارد وباكيت من الراهبات تذكر وإعادة إحياء تجربة دينية شديدة مررْن بها، وفعل نفس الشيء بخصوص تجربة شخصية قوية جمعتهن بشخص آخر، وباستخدام تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي وجدا أن مناطق عديدة من الفصين الجبهي والصدغي تنشط في أثناء نشاط التذكر، وهو ما يؤكد النتائج السابقة، رغم أنه لا يضيف إليها شيئًا.
لكن المثير للاهتمام أنهما وجدا أن تذكر الراهبة لحظة دينية قوية ينشط منطقة مختلفة عن تلك التي تنشط لدى تذكر لحظة حميمة مع شخص ما، وهو ما أثار مزيدًا من الأسئلة بخصوص التفرُّد الذي يميز التجارب الدينية، فما دامت الراهبات في الحالتين يستعدن تجارب ماضية عميقة، ألم يكن من المفروض إذًا أن تنشط نفس المناطق الدماغية؟ أم أن للتجارب الدينية نطاق خاص في الدماغ؟
اقرأ أيضًا: رحلة في موجة الإلحاد والثورة الاجتماعية في العالم العربي
الدماغ مصدر التجربة الدينية
توقُّف بعض المناطق الدماغية عن العمل بكفاءة يكسي تجارب الحياة اليومية بعدًا روحيًّا لا يوجد دونها.
في حرب فيتنام، جمع طبيب الأعصاب «ويليام كافينيس» بيانات ألفي جندي تعرضوا لإصابات في الرأس خلال القتال، قبل وبعد إصابتهم.
وفي محاولة لتحديد المناطق الدماغية التي تتدخل في التجارب الدينية والروحية، اعتمد أستاذ الطب الفيزيائي «جوردان غرافمان» والباحثة في علم الأعصاب «إيرين كريستوفوري» على هذه البيانات لتقييم قدامى المحاربين، والمقارنة بين المناطق الدماغية التي تعرضت للإصابة والنتائج التي سجلوها على «مقياس التجارب الروحية»، وهو مقياس يسعى إلى قياس التجربة الروحية بالسؤال عن أشياء مثل مدى الشعور بالوحدة والقداسة والبهجة وتجاوز الزمان والمكان.
كانت النتيجة أن الجنود الذين تعرضوا للإصابة في الفص الجبهي والفص الصدغي سجلوا درجات أعلى على هذا المقياس، وهو الأمر الذي لم يكن مستغربًا، فقد توصلت دراسات كثيرة إلى النتيجة نفسها.
بما أن معظم الإصابات شملت مناطق فرعية مختلفة من الفصين الصدغي والجبهي، وجد الباحثان أن الجنود الذين لحقتهم أضرار على مستوى قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية (المنطقة الدماغية التي يُعتقد أنها مسؤولة عن إدارة وتنظيم الذاكرة والقدرة على الاستدلال وحل المشكلات وإتمام المهام) حصلوا على درجات أكبر من الذين لم يتعرضوا لأي إصابات، وأعلى حتى ممَّن تعرضوا لإصابات في مناطق دماغية أخرى.
ينقل المقال عن كريستوفوري قولها إن المصابين في هذه المنطقة سجلوا درجات على مقياس التجارب الروحية أكبر مرتين من المتضررين في مناطق أخرى من الفص الصدغي، وثلاث مرات أعلى من الأفراد الأصحاء، كما خلصت إلى أن توقف هذه المنطقة عن العمل بكفاءة، كما ينبغي لها، يعني أن تجارب الحياة اليومية يمكن أن تكتسي بعدًا روحيًّا لا يكون موجودًا دونها.
تتوقف أجزاء معينة في المخ عن العمل كي تسمح للإنسان بالمرور بتجربة روحية عميقة.
في عام 2011، أجرى باحثون من جامعة الدنمارك دراسة على 18 شخصًا مسيحيًّا و18 علمانيًّا، شغَّلوا خلالها مقاطع صوتية لثلاثة رجال يتلون الصلاة، ثم رصدوا المناطق الدماغية المتأثرة بها بواسطة تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي.
قبل بدء التجربة، أخبر الباحثون المشاركين أن أحد الرجال الذين يتلون الصلاة مسيحي والثاني علماني، والأخير مسيحي مشهور بقدرته على شفاء المرضى، مع أنهم كانوا كلهم مسيحيين ولا قدرات شفائية لديهم.
بعد استطلاع آرائهم، ذكر المسيحيون أنهم شعروا بوجود الله أكثر عندما كان «المعالج المسيحي» يتلو الصلاة، يليه المسيحي، وأخيرًا العلماني، أما مجموعة العلمانيين فقد ذكروا تسلسلًا مماثلًا لكن على نطاق أصغر، وشعروا بوجود الله على مستوى أقل.
بمقارنة نتائج الاستطلاع مع نتائج المسح بالرنين المغناطيسي، لم يجد الباحثون أي تغيرات عصبية كبيرة عند الجماعة العلمانية، لكن في حالة مجموعة المسيحيين، وجدوا أن قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية كانت نشطة حين كانوا يستمعون إلى تلاوة الشخص العلماني، بينما تعطلت وهم يستمعون إلى صلاة المعالج المزعوم.
تدعم هذه النتائج الفكرة القائلة إن الشبكة التنفيذية في الدماغ، أو قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية، ربما تكون ضرورية لتنظيم كيفية اختبار التجارب الدينية والروحية، وتتوقف هذه الشبكة عن العمل كي تسمح للشخص بالمرور بتجربة روحية عميقة، حتى عند من لا يعانون أي أضرار في هذه المنطقة من المخ.
الأصولية واستمرار الاعتقاد الديني
في دراسة أحدث يشير إليها المقال، عمد كلٌّ من كريستوفوري وغرافمان إلى بحث العلاقة بين إصابات الجنود ومدى تشبثهم بمنظور ديني أصولي، فوجدا أن التوجه الأصولي، الذي قيس وفق «مقياس الأصولية الدينية»، يظهر بوضوح عند الجنود الذين عانوا إصابات على مستوى قشرة الفص الجبهي.
مع ذلك، ترى الباحثة أنه لا ينبغي اعتبار الأشخاص المتدينين مرضى مصابين بخلل عصبي، وتؤكد أن الاعتقاد الديني حصيلة أنشطة وظيفية عديدة داخل الدماغ.
نفس الأمر يشدد عليه بوريغارد وباكيت، فرغم أن هذه التجارب تحاول رصد الركائز العصبية التي تقوم عليها التجارب الدينية، فإنها تبقى في نظرهم غير قادرة على تأكيد وجود الله من عدمه، كما أنها لا تقلل من قيمة التجارب الدينية والروحية ومغزاها.
إدريس أمجيش