ما وراء الطبيعة: كيف يحرمنا الروتين من رؤية الحياة على حقيقتها؟
عندما تخرج في الصباح راكضًا للحاق بموعد عملك الذي تأخرت عليه، لن تهتم بمعاينة تفاصيل درج منزلك، أو القطة التي تستكشف أكياس القمامة في صندوق أمام المدخل، ولن تلحظ جارك الذي تجاوزته بسرعة قبل أن يرفع يده لتحيتك. لكن عندما تخرج للتريض في عطلة نهاية الأسبوع، ربما تلحظ أن المطعم المقابل لمنزلك جدد ألوانه، وترى للمرة الأولى ذلك الشرخ الموجود في الرصيف منذ عدة أشهر دون أن تلاحظه.
يتسبب نمط حياتنا الثابت في اعتيادنا على طريقة محددة لرؤية البيئة والأشياء من حولنا، لكن إذا قررنا فتح أعيننا على ما هو أبعد من القشور الظاهرة أمامنا، لا بد أن يتكشَّف لنا ما وراء ما نحسبه طبيعيًّا واعتياديًّا، بل وربما روتينيًّا ومملًّا، وهو ما قررت فعله الباحثة «ألكسندرا هورويتز»، وسردت تفاصيله في كتابها «On Looking: Eleven Walks with Expert Eyes»، ونشر موقع «brainpickings» ملخصًا له.
خرجت هورويتز في 11 رحلة قصيرة في شوارع مدينتها نيويورك، اصطحبت في كلٍّ منها 11 «خبيرًا» في مجال مختلف، وهو ما من شأنه أن يكشف لها زاوية جديدة للمَشاهد التي تعاينها بصفة يومية في أثناء سيرها. من بين هؤلاء كان عالم جيولوجيا وفنان وطفل، وكذلك كلب، باعتباره خبيرًا هو الآخر في إحدى الزوايا التي تريد كشفها.
لا نرى الحقيقة كاملة
اكتشفت هورويتز أنها كانت تمشي كأنها نائمة، لأنها كانت ترى فقط ما تتوقع رؤيته من تفاصيل.
تبدأ ألكسندرا هورويتز رحلتها في عالم الوعي بتأكيد أن معظمنا لا ينتبه إلى أغلب ما يدور حولنا من أحداث، سواء كانت بعيدة أو أمام عينينا أو حتى داخل أجسادنا، فأنت تتجاهل كمًّا هائلًا من المعلومات التي تحاول استثارة حواسك، مثل لون الأضواء المحيطة بك، وضوضاء حركة المرور، وصوت محرك جهاز إلى جوارك، أو حتى ما تشعر به من توتر في عضلات كتفك، وبرودة أو دفء في بعض أجزاء جسدك.
أرجعت الباحثة تجاهلنا هذه التفاصيل إلى اعتيادنا نمطًا من الحياة يقتضي تجاهل المؤثرات الكثيرة من حولنا والانتباه فقط إلى الضرورات التي تُلزمنا بها حياتنا اليومية، أو ما نسميه «التركيز». ورغم أن ذلك قد يزيد إنتاجيتنا في حياتنا العملية، فإنه من ناحية أخرى يفوِّت علينا إدراك معنى حياتنا والاستمتاع بالجزء الأكبر منها.
أول ما لفت نظر هورويتز إلى ضياع جزء ضخم من حياتها كان كلبها «بمبرنيكل». ففي جولاتها معه بين مباني منطقتها، زاد وعيها بشكل مذهل بأشياء لم تلقِ لها بالًا من قبل، بل إنها أدركت أنها كانت تمشي كأنها نائمة، لأنها كانت ترى فقط ما تتوقع رؤيته، لكنها برفقة الكلب وجدت أن الأشياء المألوفة المستترة وراء الروتين أصبحت مثيرة للاهتمام.
يدور ذلك الطرح حول اثنتين من الطباع البشرية:
- الإنسان قادر بالفطرة على أن يرى بدقة ما يقع أمامه، رغم عناصر التشتيت التي قد تصبح حائلًا أمام رؤيته تلك.
- الميول الشخصية في انتقاء تفاصيل معينة للالتفات إليها دون غيرها.
تُرجع هورويتز نقصان ملاحظة التفاصيل إلى التطور، فقد يكون ذلك قد حدث كي يتكيف الإنسان مع حياته المعاصرة الأكثر تعقيدًا وتشتيتًا، التي يصعب إدراك كل تفاصيلها، فأصبح الإنسان يكتفي بالحد الأدنى من اليقظة التي تجعله ينتبه إلى التهديدات اللحظية التي تصادفه،أي أن انتباهه أصبح انتقائيًّا لما يحيط به من مؤثرات.
تعلَّم من طفلك معنى الحياة
بعد أن اكتشفت ألكسندرا هورويتز نقصان رؤيتها بمساعدة كلبها، قررت أن تصطحب طفلها في نزهة مشابهة.
وخلال تلك التجربة، تعلمت أن التريض لا يعني دائمًا الانتقال من مكان إلى آخر لغرض معين، بل هو رحلة استكشافية للبحث عن كل ما هو جديد، سواء أكان أصواتًا تُسمع أو أجسامًا تُلمس أو مَشاهد نستمتع بالنظر إليها، واختصرت تجربتها مع طفلها في أن التريض عبارة عن رحلة تبدأ بشخص لديه طاقة وتنتهي، فقط، بانتهاء تلك الطاقة.
مزجت هورويتز ما استكشفته مع طفلها بمعرفتها المسبقة، لتستنتج أن الأطفال يدركون العالم بشكل مميز، فالعالم بالنسبة إليهم لم يصِر بعد مكانًا منظمًا ذا مكونات مميزة، فهم لا يفرقون إلا بين النور والظلام دون كثير من التعقيدات، ويضاف إلى ذلك ما لديهم من اهتمام بكل ما يرونه لأنه في الغالب أمر جديد بالنسبة إليهم، وهو ما يجعل أعينهم تلتقط أدق التفاصيل بطزاجة، في الوقت الذي ينظر إليها البالغون بعين الملل والاعتياد.
المشهد من نافذة الفن
الأشخاص والأشياء التي تقابلها في طريقك ليست مجرد ديكور، بل كل عنصر منها يشكل إمكانيةً للتفاعل والتفكير.
انتقلت ألكسندرا هورويتز إلى مستوى آخر من الوعي وإدراك ما وراء الطبيعة من حولها، فرافقت فنانة معمارية تُدعى «ماريا كالمان»، وهي امرأة ذات حكمة لا حدود لها، فإن كان الشخص التقليدي يعتاد النظر إلى ما هو مألوف له، فهي تُعتبر «كنزًا» من الخبرات والمَشاهد يتحرك على قدميه، بحسب وصف هورويتز.
تقول الباحثة إن كالمان استطاعت أن تتحرر من قيود إدراك الأشخاص العاديين، ففي الحين الذي يلخص فيه معظمنا المَشاهد في لمحة واحدة تجنبًا لبذل مجهود في تتبع التفاصيل، نجد أن هذه الفنانة تتبع استراتيجية أشبه بتلك التي يستخدمها الطفل في التعامل مع هذه المواقف، وهي النظر إلى الأشياء دون حكم مسبق عليها، وكأنه لا يعرف ما فائدتها في الحياة من الأساس.
دخلت هورويتز مع كالمان في بُعد رابع للحقيقة التي تحيط بها، فإن انتقلت معها من النقطة «أ» إلى النقطة «ب»، فالأشخاص والأشياء التي كانا يقابلنها لم تكن مجرد ديكور للطريق، بل كل عنصر منها يشكل إمكانية للتفاعل والتفكير، أي أنها لم تعد تتعايش فقط مع ما يحيط بها، بل تعيش معه، بكامل حضورها وفضولها.
رحلتها مع «بول شو»، مصمم الجرافيك المولع بالخطوط وتصميماتها المختلفة، فقد استغرقت نحو ثلاث ساعات في شوارع نيويورك، رأت خلالها أن عقولنا اعتادت قراءة كلمات وعبارات على لافتات المحال واللوحات والشاشات، تحسبها عقولنا روتينية ومملة، لكن ما لا نلتفت إليه هو أن تصميم تلك اللوحات والعبارات يمكن أن يخبرنا بما لا تقوله الحروف ومعاني الكلمات ذاتها، وهو جزء لا يجب أن ينفصل عن سياق المعنى الذي تقدمه اللافتة أو الشاشة في رسالة غير مكتوبة.
تقول هوروتيز إنها شعرت بالارتياح عندما استطاعت أن تنتقل من حدود قراءة الرسالة اللغوية للافتات المحال إلى تحليل تصميمها والاقتراب مما بها من تفاصيل، جعلتها كأنها ترى لوحات وليس فقط كلمات.
استمع إلى ما يقوله الجماد
كل متر مربع من الأرض فيه عالم من الكائنات الدقيقة، وتمتزج فيه الحياة الصاخبة بالموت القاسي.
في رفقة الجيولوجي «سيدني هورنشتاين»، الذي يعمل في المتحف الأمريكي لتاريخ الطبيعة، وجدت ألكسندرا هورويتز أن المدينة تميل إلى الطبيعة أكثر من كونها مكانًا من صنع الإنسان، وأحست أن الحجر الذي كانت تظنه مُصمتًا، يكاد يكون كائنًا حيًّا، وذلك في امتصاصه للماء ودفئه بالشمس، بل إن الطبقة الخارجية منه مثل جلودنا تتأثر بمرور الزمن.
بتلك الطريقة، تصبح المدينة، التي نظن أنها اختراع بشري، نظامًا بيئيًّا أكثر حيوية.
أما عالم البيئة البرية «شارلي آيزمان» فقد اصطحب هورويتز في جولة سلطت الضوء على تفاصيل أكثر ضآلة، فقد لفت نظرها إلى أن كل متر مربع من الأرض يحتوي على عالم من الكائنات الدقيقة، وتمتزج فيه الحياة الصاخبة بالموت القاسي، وراح الاثنان خلال جولتهما يعاينان أنواع الحشرات وعالمها الخاص المثير، وأثر تفاصيله في حيوات هذه الحشرات، فأشكالها وأحجامها تميزها الطيور لتحديد ما تشتهيه منها.
أمام هذا المشهد، استعاد آيزمان مقولة مفادها أن نصف عملية البحث يكمن في معرفة أين تنظر، والنصف الآخر في كيفية النظر، فلو كانت لديك المعلومات البسيطة فقط عن حياة حيوان أو حشرة، سيسهل عليك ذلك اختيار المكان الذي تبحث فيه.
«جون هاديديان»، خبير الحياة البرية، وضَّح لهورويتز تعاقب الليل والنهار في المدينة، إذ يمثلان شطري الحياة، وخطًّا فاصلًا بين نوعين مختلفين من مظاهر الحياة والسكون.
أجسادنا تتحدث عنا
كلمة «رؤية» تحمل كثيرًا من المعاني المختلفة.
تعلمت ألكسندرا هورويتز من الدكتور «بينيت لوربر»، عميد كلية الأطباء في ولاية فيلادلفيا، أن من يسيرون في الطرقات ربما تكون أجسادهم مصدرًا هائلا للمعلومات بما تؤديه من حركات وتعبيرات، فكل شخص يمكنه أن يخبرك بشيء ما عن تاريخ حياته دون أن يتكلم، فقط من طريقة مشيته أو إيقاع خطواته أو وضع كتفيه.
واصلت هورويتز تشريحها لمَشاهد مدينتها بلقاء مع السيدة «أرلين غوردون»، وهي امرأة عاشقة للسفر زارت معظم أنحاء العالم، ويمتلئ منزلها بالهدايا التذكارية التي حصلت عليها من أسفارها، ويعج دماغها بذكريات تلك الرحلات.
اكتشفت الباحثة بعد وقت من السير مع غوردون أنه في خِضَم اهتمام الإنسان بالَمشاهد والصور فقط، يفوت على نفسه كثيرًا من الروائح التي ينبغي الانتباه إليها، سواء أكانت عطورًا أو طبيعة، خصوصًا في الهواء المحيط، وكذلك الأصوات المميزة للمكان، وحركة الرياح.
في نهاية جولتهما، وقفت غوردون أمام المبنى الذي يقع فيه منزلها وصافحت هورويتز وهي تقول لها: «سعدتُ برؤيتك»، وعندما أجابتها الأخيرة بابتسامة تابعت بقولها إن كلمة «رؤية» تحمل كثيرًا من المعاني المختلفة.
الضوضاء ليست إزعاجًا
كان لا بد أن تُشرك ألكسندرا هورويتز خبير أصوات في جولاتها، لذا رافقت مهندس الصوت «سكوت ليهرر» في رحلة، وبأذنيه أدركت أن أصوات المدينة تصل في كثير من الأحيان إلى حد الإزعاج، وأن انتقاء الإنسان بعض الأصوات دون غيرها هي إحدى القدرات الرائعة للبشر، رغم أن آذاننا مفتوحة دائمًا.
تعلمت هورويتز أن تسمية كل صوت باسم مميز قد يجعلنا نسمعه بشكل مختلف، بل إن الأصوات يمكنها أن تخبرنا بالكثير، فالانتباه إلى صوت إطارات السيارة يمكنه وحده أن ينبهنا إلى ما إذا كان الطريق مبتلًّا وزلقًا أم أنه جاف وآمن، وهكذا.
في نهاية جولته، أشار ليهرر إلى أن اعتياده الضوضاء حوَّلها من مجرد أصوات مزعجة إلى نكهة مميزة للمدينة، فأصبح يستمتع بطنين حركة المرور، كوصار أكثر انتباهًا خلال سَيره إلى أصوات همهمات المارة وسعالهم، وبات مزيج الأصوات هذا سببًا لسعادة يشعر بها.
حياة مختلفة وراء «الطبيعة»
اختتمت هورويتز جولاتها المثمرة برفقة كلب آخر جديد هو «فينيغان»، وكشف لها أنفه ما لم يتمكن أنفها من كشفه بطبيعة الحال، بفضل ما يمتلكه من مستقبلات شم منفصلة عن مسار التنفس، ما يسمح له بتمييز الرائحة بعيدًا عن حركة الهواء الداخل إلى رئتيه.
تقول هورويتز إنه لاستيعاب تفاصيل مشهد معين، لا ينبغي فقط أن تفتح عينيك وأذنيك، بل عليك إدراك ما يرتبط بهذا المشهد من روائح. وقد تعلمت من كلبها فينيغان أن الروائح لا تنبع من مصادر ثابتة كما نظن، بل هي كالسحابة التي تنتقل من مكان إلى آخر، لتعطي للأماكن طوابع خاصة مثل التي تعطيها إياها الألوان.
انتهت هورويتز من الجولات بصحبة خبرائها، وقررت أن تخرج في جولة وحدها لتطبيق ما تعلمته من نظر بزوايا جديدة لواقع حياتها اليومية، وشعرت في تلك الجولة بشيء مختلف عن سابقتها، ونظرت إلى كل ما حولها على أنه نتاج تاريخ طويل مر به حتى يقع تحت عينيها في تلك اللحظة، وشعرت بمدى قصور حواس الإنسان عن إدراك المَشاهد من حوله، لكننا في الوقت ذاته من الممكن أن نخرج من حدود حواسنا بما نضيفه إليها من وعي وانتباه.
أيمن محمود