«ليس جيدًا أن يكون آدم وحده»: جولة في خبايا الوحدة
الوحدة شعور شاعري، فظيع عند تجربته عن قرب وكئيب بصورة مقبولة من بعيد، حتى إنه أول شعور اعتُبر سيئًا، وفق ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر التكوين: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ». وحسب ما رواه جون الفردوس المفقود، فإن الشعور بالوحدة ربما هو ما دفع إبليس، المطرود وحيدًا من الجنة، إلى إغواء آدم وحواء.
«الوحدة هي الواقع المحزن للحياة الحديثة»، هذا ما قالته رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي في يناير 2018. جاء هذا في أعقاب تقارير أشارت إلى أن أكثر من تسعة ملايين شخص يشعرون دائمًا أو غالبًا بالوحدة، الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية إلى تعيين وزيرة تتولى التعامل مع هذه المشكلة.
بالرغم من كل مشاعر العار المقترنة بالوحدة، مثل التعرض للإقصاء في المدرسة أو الرفض في علاقات الحب، تظل عزلة الآخرين جميلة في عيوننا، ربما لأننا من خلال إدراك وحدة الآخرين، نشعر بوحدة أقل.
نعرض في هذا المقال بعض الأفكار عن الوحدة التي تطرقت إليها كريستين راتكي في كتابها المنشور حديثًا «Seek You: A Journey Through American Loneliness». راتكي كاتبة ومصممة، وهي المديرة الفنية لمجلة «The Believer»، وقد سبق أن نشرت كتابًا بعنوان «Imagine Wanting Only This».
في الوباء، وفي غير الوباء، كانت العزلة
قد يفسر نمط العلاقات في المجتمعات الغربية ازدياد أعداد الوحيدين، خاصة بين كبار السن، لكن بعد انتشار وباء كورونا، صارت العزلة حالة عامة، فُرضت على الجميع وأشعرتهم بالانقطاع عن العالم. بعضهم اعتبرها فرصة للتفكر في شكل العلاقات السائدة، لكنها أججت عند آخرين توقًا للتواصل.
في هذا الصدد، تقول كريستين راتكي: «فُرضت علينا العزلة في وقت واحد، وهي حالة تشبه المكوث تحت الماء والتخبط وسط عالم صامت، يعلو فيه صوت جسدنا مقابل صمت ما حولنا». فجأة، أصبحت هذه الحالة عامة ومتزامنة، وحتى رغبتنا المشتركة في الرفقة لم تكن كافية للتغلب عليها.
انتشرت خرافات حول الوحدة، من بينها أن الأخطار المصاحبة للعزلة يمكن تفسيرها كلها بالزعم أننا نميل إلى ممارسة سلوكيات خطيرة ونحن بمفردنا.
ترى راتكي أن الشعور بالوحدة ليس شعورا فطريًا أو طبيعيًا بقدر ما هو نتاج اجتماعي، يترسب إلينا من خلال الثقافة والسياسة والإعلام، وتشكله الظروف المضطربة التي نعيش فيها. ربما شعر آدم بالوحدة، لكن النسخة التي تُركّبها راتكي تصور الإنسان بعد هبوطه من الجنة، وهي وحدة تنبت من الفجوات، مثل الحشائش.
تريد راتكي في كتابها هذا تجميع مختلف صور الوحدة والبحوث ذات الصلة وذكرياتها وذكريات الآخرين لتخلق حالة مزاجية وجمالية فريدة، لذلك يضم الكتاب صور قاعات دراسية فارغة وبارات كراسيها مقلوبة وأماكن خاوية. وكثير من الشخصيات الحاضرة في الصور لا أسماء لها، أكتافهم محنية وأيديهم في جيوبهم، كأنهم ينتظرون من يخبرهم بما يجب عمله.
غالبًا ما تثير فكرة القرب نوعًا من التوتر، وتضرب راتكي مثالًا على ذلك بوَصْلة ضحك الجمهور التي ظهرت لأول مرة في البرامج الإذاعية. كان هدف هذه الوصلة إشعار المستمعين المنفردين بأنهم يحظون برفقة، لكن المسافات التي نجحت تسجيلات الضحك هذه في ردمها، خلقت مسافات من نوع آخر، فقد أسهم انتشار الراديو والتلفزيون في إبعاد العائلات المتجاورة عن بعضها. وتعلق راتكي على هذا بقولها: «كان خلق مساحات محددة حول الذات، أو بمعنى آخر البعد عن الآخرين، إحدى ركائز الحلم الأمريكي في القرن العشرين».
أساطير حول الوحدة
مع الوقت، انتشرت خرافات عديدة حول الوحدة، من بينها أن الأخطار المصاحبة للعزلة -مثل قصر العمر وارتفاع معدلات المرض- يمكن تفسيرها كلها بالزعم أننا نميل إلى ممارسة سلوكيات خطيرة ونحن بمفردنا.
تسترسل راتكي في عرض التصورات الخاطئة المقترنة بالوحدة، فنجدها تشير مثلًا إلى أن الشخص الذي يشعر بالوحدة يظن أن به عيبًا ما، وهو ما يتضح عندما يقول لنفسه «أنا وحيد»، والتي تترجَم إلى «أنا غير محبوب» أو «لا أحد يحبني». ويزداد الوضع سوءًا عند اعتقاده أن الآخرين على تواصل دائم، مما يؤجج غضبه ويقوّض ثقته بنفسه وبهم.
في السياق نفسه، تحلل راتكي الهجمات التي كان وراءها أفراد «انعزاليين» أطلقوا النار على المدارس ومراكز التسوق ودور العبادة وأماكن العمل، وتشكك في نموذج المنبوذين القتلة الذي تروج له وسائل الإعلام، إذ ترى أن هذا الوسم الجماعي للقتلة يفتقر إلى الدقة ويمنح مروجيه بعض الراحة، فإذا كان مطلق النار انعزاليًا، فهذا يعني أنه ليس واحدًا منهم.
الوحدة على التلفزيون والإنترنت
تُستغل الوحدة لشيطنة الآخرين، مثلما تستغل لتمجيدهم، وذلك باستحضار مفاهيم الفردانية البطولية. تلقي راتكي في قسم من الكتاب الضوء على صورة راعي البقر الأمريكي الذي «ينفر من الحدود التي ترسمها الحكومة»، ولا يحتاج إلى النساء اللاتي يقعن في حبه، ويطمح إلى «حياة دون التزام».
في موضع آخر من الكتاب، تعرض راتكي أبطال بعض المسلسلات التلفزيونية المشهورة الذين يمجَّدون رغم وحدتهم: دون دريبر بطل مسلسل «Mad Men»، والتر وايت بطل مسلسل «Breaking Bad»، جيمي ماكنولتي بطل مسلسل «The Wire». وتشير إلى أن أبطال هذه المسلسلات يُبدون «عدم اهتمام بالآخرين دلالة على تفوقهم»، إذ فقط عندما يتفوقون على الآخرين تكون وحدتهم ذات مغزى، عوضًا عن كونها باعثة على الشفقة.
بعض مواقع الويب تنجح في ما يفشل فيه المجتمع، إذ تخلق عند أعضائها إحساسًا بالانتماء إلى جماعة.
في فصل آخر، نلتقي نظير راعي البقر: الأميرة المحاصرة في القلعة والمعزولة عن العالم. هنا العزلة كناية عن الضعف، بدلًا من القوة. عنوان القسم الذي يتحدث عن صورة رعاة البقر «شاهد»، أما القسم الذي يستعرض شخصيات نسائية فعنوانه «انقر»، كما لو أن راتكي تريد أن تقول إن الرجل الوحيد ينتمي للتلفزيون، في حين تنتمي المرأة الوحيدة إلى عالم الإنترنت.
تنبني هذه التفرقة على فكرة أن الحياة على الإنترنت تعاش عبر وسائط سحرها يشبه سحر القصص الخيالية، ذلك أنها تُشعر المستخدمين بالاغتراب عن أنفسهم وعن الآخرين. إذًا، مشكلة الوجود الرقمي هي مشكلة الواجهة المضللة، أو المرآة السحرية التي تحوّر الواقع.
الوحدة والبحث عن الآخر
مع ذلك، تعود راتكي لتفنيد الفكرة القائلة إن العلاقات على الإنترنت زائفة، وتشير إلى أن بعض مواقع الويب تنجح في ما يفشل فيه المجتمع، إذ تخلق عند أعضائها إحساسًا بالانتماء إلى جماعة، بحيث إن منشورًا «معدّلًا بعناية» قد يعبر بحق عن رغبة أصيلة في مد جسور التواصل.
أما عنوان القسم قبل الأخير من الكتاب فهو «الْمس»، ويتطرق إلى سيرة عالم النفس التجريبي هاري هارلو، الذي درس آثار الحرمان الاجتماعي على صغار القرود، ويعرض كيف تزامنت قسوة هارلو تجاه صغار القرود في «تجربة هوّة اليأس» مع دخوله في دوامة من الاكتئاب وانهيار زواجه الأول ووفاة زوجته الثانية.
ترى راتكي أن هارلو أثبت أن «الحب ليس إلهاء أو وسمًا مبتذلًا يُلصق بالفعل، بل الفعل ذاته»، إلا أنها لا تتعمق في تفصيل العلاقة بين الحب والوحدة، وتقدم فقط أمثلة مباشرة عن الموضوع. مع ذلك، فالجو الذي تخلقه صور الشوارع الفارغة والغرف المظلمة التي يتضمنها الكتاب يبقى مألوفًا، ويحملنا حيث لا تستطيع الكلمات.
إدريس أمجيش