إعادة اكتشاف العالم: لماذا من المهم أن نعيد النظر في الأشياء؟
لم يكن في نيتي أكثر من مشاهدة مضحكة يستطيع الفرد من خلالها كسر نوبات القلق التي تراوده، لكن بعد مرور النصف الأول من فيلم «اللي بالي بالك»، النسخة المترجمة إلى الفصحى على منصة نتفلكس، كان السؤال الذي بدا ملحًا في رأسي: «كيف يمكن بتطوير ذهني بسيط أن نعيد اكتشاف الأشياء؟».
كل الأشياء حولنا ملهمة، نستطيع من خلالها تأويل أفكارنا والبوح بما يشغلنا، لكن الأصل في كل شيء: كيف يمكن أن نعيد اكتشافه؟
الأمر لا يحتاج تفكيرًا عظيمًا أو ساعات من الاختلاء بالنفس. فمثلًا، أول نجار في العالم الذي قطع شجرة واستخدمها ببعض الأشكال الممكنة وقف لبعض اللحظات أمام الشجرة، ثم شرع في قطعها لاستخدام الخشب وفق احتياجاته. ثم أتى النجار الثاني وأضاف بعض الاستخدامات الجديدة، وهكذا لتكون دورة الإبداع غير متوقفة.
تأتي فكرة داخلي تصف ما حدث بطريقة أكثر دقة، النجار الأول حدد احتياجاته ثم جلس في كهفه بعض الوقت حتى شعر بالجوع، فخرج في رحلة صيده التقليدية، ثم طهى فريسته باستخدام النار التي أشعلها من التحام بعض الأحجار. وخلال جلوسه لتناول وجبته وسط الطبيعة لمح الشجرة، لم تكن هذه المرة الأولى التي يرى فيها الشجرة، لكنها كانت المرة الأولى التي يراها فيها بطريقة مختلفة.
سلمتني الأفكار لخواطر جديدة مغايرة، كم من مرة رأيت فيها عائلتي بشكل آخر، أصدقائي، البنت التي أحبها. كلهم يرغبون في رؤيتي بالشكل الأفضل، كلهم ينصحونني، أحيانًا يتضارب كلامهم فلا أعرف بأي رأي أسير، والآن أدركت حقيقة ما، الكل يقول وفق تجربته، اكتشافاته، وجهة نظره الخاصة.
إذا وضعت كل هذه الأراء جوار بعضها، سأكتشف جوانب أخرى في حياتي. وربما على مستوى أوسع، يمكن القول إن هناك مجالًا لرؤية العالم بأسره بشكل مختلف. هذه النظرة الجديدة تمنحنا القدرة على تطوير العالم، خصوصًا مع ارتباك البعض وتعطل أدمغتهم عن خلق أفكار أصلية، في وقت بات الابتعاد بيننا ضرورة ملحة في محاولة للحفاظ على سلامتنا في الأزمة الصحية الحالية.
إذًا، المأوى الحقيقي لنا هو اكتشاف العالم.
العالم الذي اكتشفناه باكتشاف أنفسنا يجعلنا قادرين على أن نعود ثانية لنقطة الصفر لنكتشف أنفسنا مجددًا، وهكذا نجدنا أمام عدد لا نهائي من رحلات الاكتشاف من النفس إلى العالم ثم إلى النفس ثانية. ومع كل رحلة جديدة سنرى حقيقة بصمات أصابعنا التي لا تتشابه، وسنكون قادرين على التقاط أقل تغيير يحدث حولنا وداخلنا. سنلاحظ الفارق المعنوي لا المادي، سيكون العقل قادرًا على تجاوز المعقول ولمس قارته المفقودة، لعله يجد قطعة البازل الأخيرة يومًا ما.
وماذا بعد الاكتشاف؟
نظرت ففكرت فاكتشفت، فما الخطوة التالية؟
ماذا عن البحث عن آلية لاستخدام هذا الاكتشاف؟ وهي خطوة مادية ملموسة ينتج عنها صنع شيء ما. المثير في الموضوع أن هذا الشيء الذي قد تصنعه يتشكل وفق استيعابك لما رأيت، ولعل المثال الأبسط الذي يمكن الاستشهاد به الآن هو نفس الفيلم الذي بدأنا بالحديث عنه، ففكرة وضع ترجمة باللغة العربية الفصحى أتت كوسيلة تعبيرية للتواصل مع ضعاف السمع، لتكون في الوقت نفسه طريقة جديدة للناس لمشاهدة الفيلم واستخدام الإفيهات اللغوية الجديدة التي أفرزتها الترجمة.
أتصور أن أنيس عبيد، أشهر من ترجم الأفلام الأجنبية إلى العربية، كان سيصاب بنوبة ضحك لو قيل له لنترجم من العربية إلى العربية، لكن بعد مشاهدة عمل كوميدي يعتمد على الموقف المحلي الذي تخبر به اللهجة والمستوى الخاص بالشخصية، والكوميديا التي ينحو الموقف فيها إلى الإغراق في المحلية، يبدو تحويل هذا إلى اللغة الفصحى للوهلة الأولى عسيرًا، ليس الآن فقط، بل من عصر الجاحظ، الذي رأى أن النوادر والطرف والملح لا بد أن تُلقى بلهجاتها حتى لا تفقد الدلالة المرتبطة بالموقف. لكن النظرة الإبداعية في صناعة الدراما كان لها رأيها الأكثر فهمًا للمفارقة.
إن إيجاد الآلية المناسبة لتطويع اكتشافك، والعمل على خلق بعد جديد لشيء لم يكن معروفًا، هي المكاسب الحقيقية التي يحصل عليه الفرد. وقد تكون النهاية التي نكتفي بها، وقد تكون بداية جديدة لنا أو لغيرنا ليخطو في رحلة الاكتشاف الخاصة به، حتى ولو بعد مرور 17 عامًا كما حدث مع فيلم «اللي بالي بالك»، الذي سأكمله الآن.
علي قطب